كيف تتوقع حجم الطلب من المستهلكين في عالم غير متوقَّع؟

7 دقائق
توقع الطلب من جانب المستهلكين

ملخص: بات توقع الطلب من جانب المستهلكين على السلع والخدمات خلال جائحة "كوفيد-19" أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. ويجب على المدراء التخلي عن تحيزاتهم المسبقة والبحث عن مصادر جديدة للبيانات لتحسين نماذج التنبؤ والاستفادة من المعرفة المستمدة من السوق المحلية، إضافة إلى ضرورة الجمع بين نواتج العديد من النماذج المختلفة واختبارها وتحسينها باستمرار.

 

أطاحت جائحة "كوفيد-19" بتوقعات الطلب التي يسترشد بها تجار التجزئة وموردو السلع والخدمات الاستهلاكية في معرفة مقدار الطلب أو التصنيع وأنسب أماكن التخزين ومقدار المواد الإعلانية الواجب نشرها أو التخفيض اللازم تقديمه، حيث تسببت عمليات الإغلاق المفاجئة والاضطرار إلى ممارسة العمل من المنزل في شراء الكثير من المواد الغذائية والسلع المنزلية بدافع الذعر. وبيعت بعض السلع بينما بقي البعض الآخر راكداً على الرفوف.

لا يزال الغموض قائماً اليوم على عدة محاور، إذ لا تزال بعض المنتجات غير متوافرة حتى الآن، مثل المناشف الورقية والخضراوات المعلبة. ويحرص بائعو المواد الغذائية على تخزين ما يكفي من بعض السلع الأساسية لأشهر، وليس لأسابيع، في إطار استعدادهم لهذا الشتاء بصورة أفضل مما جرى في الشتاء الماضي، حيث يُتوقَّع ظهور موجة جديدة من المرض، وبالتالي اضطرار الأفراد إلى المكوث في المنازل من جديد. ويمكن أن يؤدي هذا في المقابل إلى الإطاحة بتوقعات الشراء خلال العطلات والمواسم. وقد نشهد زيادة في الطلب نتيجة تغير إعانات البطالة وتقلب أسواق الاستثمار، ووقوع اضطرابات اجتماعية بسبب الأحداث المصاحبة للانتخابات الرئاسية والقضايا العرقية.

كما نشهد أيضاً تغييرات أعمق في مواقف المستهلكين وسلوكياتهم. فقد سعى المستهلكون بوجه عام إلى إيجاد طرق لتقليل المخاطر وتحجيم القلق وتعزيز الإحساس بالانتماء، إلا أن مواقف المستهلكين وسلوكياتهم تجاه المرض وأنشطتهم الحركية تتباين بصورة كبيرة بين مختلف الأعمار ومستويات الدخل والتوجهات السياسية. ويمكن تحسين التوقعات من خلال فهم هذه الأنماط الجديدة وإعادة النظر في تصنيف العملاء في زمن الجائحة، ويجب وضعها ضمن الأولويات الرئيسية للكثير من الشركات.

وتتضاعف هذه التحديات عند انهيار التوقّعات وجنوح المدراء إلى الاعتماد على غرائزهم كما حدث خلال تفشي جائحة فيروس كورونا، وهو ما يزيد دقة التنبؤ سوءاً نتيجة الخلط بين البيانات المشوشة والتحيز لمواقف بعينها.

يأخذ هذا التحيز عدة أشكال مختلفة، ويتمثل أحد أكثر أشكاله شيوعاً في محاولة إرضاء تجار التجزئة من خلال ضمان توفير أكبر كم ممكن من السلع بغض النظر عما إذا كان من المتوقع أن تحقق هذه السلع مبيعات جيدة، وهي الظاهرة التي نراها في عمليات تخطيط الطلب بين الشركات المتخصصة في إنتاج السلع الاستهلاكية المعلبة، حيث يكره مندوبو المبيعات الميدانيون فكرة سماع أي شكاوى حول نفاد المخزون عند دخولهم إلى المتاجر بداعي أن هذا يقلل نسب المبيعات ويضر بالعلاقات مع التجار، ومن ثم يلحق الضرر بالحصة السوقية. لكن التطرف في الاتجاه الآخر والتحوط من المخاطر عن طريق الإفراط في الحد من المخزون يكبد الشركات خسائر فادحة، سواء بشكل مباشر لأنه يقلل نسب المبيعات اليوم، وبشكل غير مباشر لأنه يضر بالعلاقات مع القناة التسويقية ويفقدها حصتها السوقية غداً.

يقع المدراء أيضاً في مزلق "ضيق الأفق" كما هو الحال عندما يكتفون بالنظر إلى استجابة مناطقهم للجائحة. فقد ظنت بعض الشركات ذات الحضور القوي في جنوب الولايات المتحدة، على سبيل المثال، في بداية الأمر أن اتجاهات الجائحة المبكرة التي ظهرت في نيويورك لن يكون لها أي تأثير عليها.

ومن هنا، يجب أن تصمم الشركات نماذج عملها بطريقة مختلفة بدلاً من التخلي كلياً عن النمذجة.

ابحث عن مصادر بديلة للبيانات

ثمة طريقة أكثر موثوقية للإبحار خلال هذه الأمواج العاتية، وتتمثل في البحث عن مصادر بديلة للبيانات باستخدام مزيج من نماذج العمل الأبسط، على سبيل المثال، وتقصي الحقائق بصورة أعمق بحثاً عن بيانات "المادة المعتمة" غير الواضحة وغير المنظمة في بعض الأحيان. غالباً ما تستقر مثل هذه البيانات في أذهان الأشخاص الذين يطبقون التوقّعات (ولك أن تنظر مثلاً إلى معرفة الموظفين بالأحداث الجارية في الأسواق المحلية وغيرها من الظروف) ويمكن تنظيمها وتمثيلها في هذه النماذج.

ابدأ بمصادر البيانات. يعتمد الكثير من نماذج التنبؤ على البيانات السابقة للمبيعات على مر الزمان. وقد تشكل هذه البيانات تقييماً دقيقاً للموقف خلال الموسم المقبل في الأوقات المستقرة نسبياً، ولكن أنماط الماضي المألوفة تغدو منفصلة تماماً عن الواقع المعاش عند تفشي الجوائح، في حين تزداد القوة التنبؤية للأحداث المماثلة.

قد تتخذ هذه الأحداث المماثلة شكل صدمات اقتصادية وقعت في الماضي كفقاعة الإنترنت، أو كوارث طبيعية تعرض لها أي من بقاع العالم في السابق وخاصة الأعاصير التي أدت إلى زعزعة سلاسل التوريد لفترات طويلة، أو مناطق تعافت من زيادة أعداد الإصابات. إذ يمكن إلقاء الضوء على المستقبل القريب خلال أزمة "كوفيد-19" وبعد انتهائها، وذلك من خلال تحليل عوادم البيانات (أثر المعلومات الناتجة عن الأنشطة الرقمية للفرد) المستمدة من الأحداث المماثلة، كالمدة التي استغرقها العرض والطلب للتعافي في دول أو مدن مختلفة.

لن تفصح بيانات الأحداث المماثلة عن كل التفاصيل بطبيعة الحال، لذا يتعين على الشركات الاستعانة أيضاً ببيانات مستمدة من الواقع المُعاش لتعقب سلوكيات المستهلكين ومواقفهم الحالية. يشار في هذا السياق إلى أن شركات السلع الاستهلاكية المعلبة غالباً ما تفتقر إلى البيانات الدقيقة والفورية لنقاط البيع، ويجدر بها إذا ما أرادت تحقيق هذه الغاية أن تقنع تجار التجزئة بأهمية مشاركة بياناتهم بصورة مباشرة على وجه السرعة، أو تفتح قنوات مباشرة بينها وبين المستهلك. حتى هذه البيانات قد لا تكون متاحة على جناح السرعة في مناطق أخرى. يمكن في هذه الحالة توفير مؤشرات مفيدة عن زخم المستهلكين بتحليل المبيعات من خلال قنوات التجارة الإلكترونية وأنماط البحث عبر الإنترنت وبيانات التنقل عبر الهواتف الذكية وتحليل الميول عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

اتبعت إحدى شركات الأغذية العالمية هذا النهج بعد بضعة أشهر من تفشي فيروس "كوفيد-19" لتحديد اتجاهات الطلب في القنوات غير المُقاسة مثل المطاعم والمقاهي والفنادق، وهو ما لم تفعله من قبل. وتستخدم الشركة بيانات المواقع الجغرافية المستمدة من الهواتف الجوالة دون الكشف عن هوية المستخدمين، واستطاعت تحديد 20 متغيراً تنبؤياً في 7 فئات من المنتجات، حيث تتدفق هذه البيانات إلى أداة تحاكي السيناريوهات المختلفة اعتماداً على توافر اللقاح وسياسات الإغلاق والحوافز الاقتصادية وغيرها من العوامل في كل دولة. كما أنشأت "مؤشر الذعر" لتتبع ميول المستهلك من خلال الأخبار المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي. وتعمل الأداة حتى الآن بصورة أدق من تقديرات الطلب السابقة المستمدة من بائعي الخطوط الأمامية.

استفد من المعرفة المحلية

يجب أن تدخل المعرفة المحلية ضمن البيانات المجمعة، على الرغم من كل ما سبق. وقد استخدمت شركة مخبوزات عملنا معها في السابق خوارزمية افترضت أن الطلب سيرتفع خلال بعض الأعياد الوطنية. ولكننا اكتشفنا في أثناء التحدث مع مندوبين المبيعات الميدانيين أن ثمة مناسبات أخرى كانت أكثر أهمية في بعض الأسواق، وخاصة معارض الولايات وبطولات الصيد وألعاب البيسبول في الدوريات المحلية في الولايات المتحدة الأميركية. أدى إدراج هذه المعلومات في نموذج الشركة القائم على تعلم الآلة إلى تحسين دقة التوقّع بنسبة كبيرة. ويؤدي تحسين مستوى الدقة بدوره إلى تقليل مرتجعات المحال والحد من هدر المنتجات وخفض الوقت المستغرق من جانب سائقي الشاحنات لتوصيل الطلبيات. ونجحت هذه الشركة منذ تفشي الجائحة في تحقيق تحسن ملحوظ في الأرباح قبل الضرائب بأكثر من 75 مليون دولار من خلال تقليل الطلبيات الزائدة على الحاجة ونفاد المخزون.

يجدر بالشركات أيضاً طلب رأي الخبراء، بالإضافة إلى المعرفة المحلية، كأن تستعين مثلاً بآراء علماء الأوبئة في حالة حدوث جائحة، أو تحاول التعرف على رؤى كبار المستشارين والاتحادات التجارية حول مستقبل القطاع. وهكذا يمكن للشركات دمج آراء الخبراء في صلب البيانات الداخلة في بناء النماذج، بدلاً من الاكتفاء بتعديل ناتج النموذج بعد ظهور الحقائق، وذلك باستخدام طريقة ديلفي، أي تجميع آراء لجنة من الخبراء.

استخدم أسلوب النمذجة الشاملة

يتعين على الشركة بعد حصولها على البيانات المطلوبة اتخاذ الخطوة التالية المتمثلة في تطوير نموذجها. ويُستحسن هنا التفكير بأسلوب خبراء توقّع الأعاصير، فكثيراً ما يؤدي مزج العديد من النماذج البسيطة في ظل الظروف الديناميكية المشوبة بالغموض إلى تحقيق نتائج أفضل من استخدام نموذج واحد معقد قد يكون أكثر هشاشة في ظل هذه الظروف.

تجمع النمذجة الشاملة بين التوقعات المستمدة من نماذج مختلفة للتوصل إلى "تقدير النقطة" أو "نطاق معقول"، في حال افتقرت البيانات الأساسية إلى الاستقرار في كل النماذج المفردة، حيث يمزج خبراء توقّع الأعاصير المسارات المتوقعة في عدة نماذج، ثم يرسمونها على مخطط واحد حتى يحصل المستخدمون على فكرة جيدة عن الاتجاه المركزي لمسار العواصف.

ولنأخذ على سبيل المثال طرح منتج جديد خلال الجائحة. قد يستخدم أحد النماذج متوسطاً متحركاً للمبيعات في صورته المبسطة، فيما قد يدمج نموذج آخر بيانات المبيعات السابقة المستمدة من منتج ينتمي إلى العائلة نفسها لتحديد أنماط هذا المنتج خلال الفترات المشوبة بعدم الاستقرار، بينما قد يستعرض نموذج آخر ما يحدث في المحال الأخرى المماثلة. وإذا كانت جميعها تشير إلى اتجاه معين، فسوف تزداد الثقة في هذا المسار لأن كل نموذج من النماذج الفردية يغطي خصائص مختلفة للطلب. لكن إذا لم تكن جميعها تشير إلى الاتجاه ذاته، فيمكن فهم سبب اختلافها بكل سهولة استناداً إلى بساطة وشفافية كل نموذج.

وقد عانت إحدى شركات الرعاية الصحية صعوبات جمة في بداية الأزمة للتوصل إلى توقعات دقيقة بحجم المكالمات الواردة إلى مركز الاتصالات الخاص بها، ما أدى إلى ارتفاع تكاليف العمالة بسبب زيادة عدد الموظفين على الحد المطلوب. فما كان من الشركة إلا أن بحثت في مصادر الأخطاء وطوّرت مجموعة من المتغيرات التي استطاعت توقع مواعيد الاتصال وأسبابها بصورة أدق. وتمثل أحد المتغيرات في الأحداث التي شهدتها الدول الأخرى التي أصيبت بأزمة "كوفيد-19" في وقت مبكر، بينما تمثل متغير آخر في اشتراطات الاعتماد المسبق. ويتكون النموذج التنبؤي الجديد من مجموعة من النماذج الأكثر بساطة وشفافية من النموذج المستخدم قبل الجائحة، حيث استخدمت مزيجاً من البيانات الجديدة والمدخلات المستمدة من الخبراء. ونتيجة لذلك، خفضت الشركة خطأ توقعها بشكل كبير خلال أسابيع.

اختبر، ثم اختبر، واختبر مرة أخرى

لا تزال الأسواق الاستهلاكية تعاني من عمليات الإلغاء وازدياد أعداد الإصابات والمفاجآت غير المتوقعة والتغيرات الإقليمية، لذا يحتاج المدراء إلى عملية منضبطة للتحقق من صحة النتائج عن طريق الاختبار على وجه السرعة وعلى نحو متكرر. وتوفر الأساليب البسيطة مثل اختبارات (A/B) عنصري السرعة والمرونة.

حيث تتزايد كثافة الإقبال الآن على هذه الخدمات، على سبيل المثال، من قبل البالغين الملتزمين بالحجر الصحي الذين تبلغ أعمارهم 65 عاماً أو أكثر والذين لم يفكروا مطلقاً في شراء البقالة عبر الإنترنت. ويمكن لمحال البقالة إعداد اختبارات (A/B) لقياس الرسائل التسويقية الأكثر فاعلية مع هذه التغيرات الديموغرافية الجديدة، كما يمكن أيضاً تقييم فاعلية قنوات التسويق المختلفة ومقارنة أداء التقسيم مناصفة لبث إعلانات الفيديو ووسائل التواصل الاجتماعي بمزيج إعلاني مختلف من خلال اختبارات (A/B).

ثمة فائدة لوجستية جانبية أيضاً للاختبارات، فقد تود إحدى الشركات، مثلاً، تحديد أثر مضاعفة نوع معين من الإعلانات التجارية أو اختزاله إلى النصف في مناطق المترو التي تعاني موجة جديدة من العدوى. لا يؤدي إجراء الاختبارات إلى ظهور رؤى تحليلية فحسب، بل يسهم أيضاً في تقييم ما إذا كان تنفيذ هذه الإجراءات ممكناً، أو تقييم الأساليب المتاحة أمام الشركة لشراء المساحة الإعلانية الإضافية، أو معرفة ما إذا كانت تمتلك المرونة التعاقدية للحصول على تخفيض.

ونظراً لأن مدراء الشركات الذين يتعاملون مع المستهلك بصورة مباشرة شهدوا فشلاً ذريعاً في دقة توقعاتهم خلال عام 2020، فقد تراوحت استجاباتهم ما بين تقليص الإنتاج والتريث في التسويق لحين انقشاع غبار المعركة وإجراء تعديلات بسيطة وموحَّدة في مجلس الإدارة. وعلى النقيض من ذلك، فإن البعض الذين اتبعوا المصادر الجديدة للبيانات وعمليات المحاكاة وطوروا نماذجهم يحققون نجاحاً أولياً في توقع الطلب بصورة أدق، حيث يساعدهم ذلك في كبح جماح التكاليف مع عدم التضحية بمعدلات النمو، كما يضعهم في موقف أقوى بمجرد استقرار الأسواق. ويجب على مسؤولي الكثير من الشركات أن يحذوا حذوهم مع احتمال استمرار التقلبات خلال عام 2021.

اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: عيوب التسويق الفيروسي

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي