ملخص: عندما نواجه موقفاً نشعر فيه بتوتر شديد، أو حتى تهديد، قد نشعر بأننا لا نسيطر على ردود أفعالنا. أظهرت الأبحاث أنه من الممكن أن تلجأ أجسامنا إلى حالة "الكر والفر" كرد فعل عفوي على التوتر. وبوصفك قائداً، كلما ازدادت كفاءتك في تنظيم رد الفعل عند التوتر الشديد ازدادت قدرتك على القيادة ومساعدة الآخرين. تقدم الأبحاث الجديدة في علوم الأعصاب رؤى ثاقبة في عملية التنظيم الذاتية لردود الأفعال وطريقة انتقال المرء من رد الفعل المتمثل في حالة "الكر والفر" إلى حالة أقوى من الصراحة والانفتاح تحفز التعاون مع الآخرين والابتكار والازدهار.
اتصلت رئيسة تنفيذية بأحد مؤلفي هذه المقالة، وهو روبرت، طلباً للمساعدة. فقد كانت الشركة التي تقودها على أعتاب فرصة هائلة تتعلق بتقنية جديدة، لكنها كانت في مأزق حرج.
كان ممثل أحد المستثمرين في المشروع حازماً للغاية ومركزاً على مصالحه الشخصية، وأرهب عدداً من أعضاء مجلس الإدارة الأقوياء في الشركة، فسحبوا الدعم المالي الذي التزموا بتقديمه من قبل، وبات المشروع بأكمله في خطر.
استغرقت الرئيسة التنفيذية 20 دقيقة لشرح جميع التعقيدات، وفي أثناء ذلك شعر روبرت بتشنج في معدته. كانت الرئيسة التنفيذية تتوقع أن يتمكن من تقديم مساعدة ذات قيمة، لكنه كان يعاني من صعوبة في استيعاب الأمر، وكان يشعر بالخوف من عدم القدرة على مساعدتها، وأراد جزء منه إنهاء المكالمة والابتعاد عن هذه المشكلة. لكنه بدلاً من الخضوع لهذه الرغبة، فهم أن قلقه هذا كان إشارة له كي يتمهل. فبدأ العمل على التنظيم الذاتي لرد فعله.
تقدم الأبحاث الجديدة في علوم الأعصاب، لاسيما نظرية "بولي فيغال" (Polyvagal Theory)، رؤى ثاقبة في عملية التنظيم الذاتية لردود الأفعال، وطريقة انتقال المرء من رد الفعل المتمثل في حالة الكر والفر، إلى حالة أقوى من الصراحة والانفتاح تحفز التعاون مع الآخرين والابتكار والازدهار. بينت الدراسات أساليب محددة سنتحدث عنها لاحقاً، وهي تساعدنا على تجاوز نزعتنا الطبيعية لاتخاذ موقف دفاعي عندما نجد أنفسنا في مواجهة ما.
طور ستيفن، وهو أحد مؤلفي هذه المقالة، نظرية "بولي فيغال" التي توضح كيف يقوم نظامنا العصبي بتنظيم سلوكنا التعاوني والدفاعي بواسطة العصب المبهم، وهو أكبر عصب لا ودي في النظام العصبي الذاتي. يوفر هذا العصب اتصالات ثنائية الاتجاه بين الدماغ والقلب والأمعاء والأعضاء الأخرى في الجسم، وهو جزء من استجابة متسلسلة يمكن التنبؤ بها ويتم تنشيطها عندما نتعرض للتهديد.
وتضم هذه الاستجابة 3 مستويات
يتمثل المستوى الأول في شل الحركة. من الممكن أن تصاب الزواحف أو الثدييات أو الإنسان بانهيار يحاكي الموت عند التعرض لتهديد شديد، وهذا رد فعل طبيعي وتكيفي. على سبيل المثال، عندما تحاصر القطة فأراً، قد يتسبب رد الفعل الانعكاسي لدى الفأر في فقدانه الوعي ليبدو ميتاً، فتفقد القطة اهتمامها به ويتمكن من الهرب. رد الفعل هذا نادر لدى البشر، ولكنه يحدث.
المستوى الثاني هو الاستنفار. عند مواجهة التهديد تتسارع نبضات القلب، ويتم تنشيط الجهاز العصبي الودي، وينتج الجسم الكورتيزول والأدرينالين ويستعد للعمل. وهذا ما يسمى استجابة "الكر والفر"، أو "القتال أو الهرب"، فإما أن نصبح عدوانيين، وإما أن نهرب.
المستوى الثالث من الاستجابة هو التفاعل والتواصل. عندما يعود إلينا الشعور بالأمان مرة أخرى، نعمل على نحو مختلف. في هذا المستوى، يتم تنشيط مسار العصب المبهم الذي تتميز به الثدييات، فيهدئ السمات الدفاعية في مساري "الكر والفر" و"شل الحركة"، ويفرز الجسم هرمون الأوكسيتوسين. عندئذ، نصبح أكثر تقبلاً للآخرين ونشعر بالترابط الذي يمكن أن يؤدي إلى التعاون مع الآخرين والتعلم.
أعاد ثيودوسيوس دوبجانسكي، عالم الأحياء التطوري المعروف صياغة الاقتباس الشهير عن تشارلز داروين الذي يقول إن التطور هو "البقاء للأصلح"، ليضيف ما يلي: "قد يكون الأصلح أيضاً هو الألطف، لأن البقاء يحتاج غالباً إلى المساعدة والتعاون المتبادلين". تقول وجهة نظر دوبجانسكي، إن الترابط والتعاون مع الآخرين هما اللذان أديا إلى نجاح التطور لدى الثدييات والبشر.
وعندما نتمكن من الوصول إلى المستوى الثالث، يصبح عمل كل من الرؤية والسمع والصوت والعقل منسقاً مع عمل القلب. فنصبح قادرين على الشعور بأجسادنا، على عكس الخدر وانعدام الإحساس الذي نعاني منه في المستويين الأول والثاني في أثناء المواجهة، ونخرج من حالة "الكر والفر" التي تجعلنا نرى الأمور من منظور ضيق، فنتمكن من قراءة وجوه الآخرين والإشارات غير اللفظية التي يصدرونها بصورة أدق، ونتمكن من رؤية الصورة الأكبر والتحدث إلى الآخرين عن الأهداف المشتركة. باختصار، تزداد قدرتنا على بناء العلاقات والتعلم.
خطوات تنظيم رد الفعل
وبوصفك قائداً، كلما ازدادت كفاءتك في تنظيم رد فعلك، لاسيما الانتقال من المستوى الثاني الذي تجد نفسك فيه بصورة متكررة إلى المستوى الثالث، ازدادت قدرتك على القيادة ومساعدة الآخرين. واستناداً إلى تجاربنا التي أجريناها لتطبيق نظرية "بولي فيغال" في مواقف مثل الذي وجد روبرت نفسه فيه عندما اتصلت به الرئيسة التنفيذية، تمكنا من تطوير إطار عمل من 5 خطوات تساعد على القيام بهذه النقلة.
الخطوة الأولى: الفهم
الخطوة الأولى هي معرفة العوامل الحيوية الكامنة وراء ردود الأفعال هذه وقبول أن المرور بالمستوى الأول أو الثاني أو الثالث أمر طبيعي. تمنحك معرفة مكانك من هذه المستويات القدرة على الاختيار والانتقال من مستوى إلى آخر.
الخطوة الثانية: الإدراك
عندما تشعر بالتحدي، لاحظ الإشارات الجسدية والعاطفية التي تدل على شعورك بالتوتر. هل تشعر بتشنج في معدتك؟ هل تتسارع نبضات قلبك؟ اعتبر هذه الأمور إشارات تدلك على مستوى رد الفعل الذي تقف عنده، وهو المستوى الثاني على الأرجح.
الخطوة الثالثة: التذكر
استرجع تجاربك السابقة التي تمكنت فيها من تجاوز حالة عدم اليقين. حتى أنه بإمكانك كتابة ما فعلته لتجاوز موقف صعب والاستفادة من نجاحك السابق لتستمد الأمل بالنجاح في تجاوز هذا الموقف أيضاً.
الخطوة الرابعة: التركيز على الهدف
مع وجود الأمل، ستتمكن من التخلي عن الحاجة إلى إرضاء غرورك عن طريق توضيح هدفك الأسمى. سيؤدي التركيز على هدفك إلى إفراز هرمون الأوكسيتوسين ويساعدك في الانتقال إلى المستوى الثالث.
الخطوة الخامسة: الثقة بأنك ستنجح
عندما تصل إلى المستوى الثالث، يسهل كثيراً استكشاف الأفكار وتطويرها مع الشخص الآخر. التفاعل هو عملية تعلم ناشئة، ستكون صعبة بلا شك، لكن ما دمت تحافظ على اتصالك بالشخص الآخر وتحرص على عدم العودة إلى المستوى الأول أو الثاني، فستتمكن من تجاوز الموقف مع هذا الشخص. في الحقيقة، ستصبح ماهراً في منح الآخرين شعوراً بالأمان والاستمرار في إعادتهم إلى محادثات تعود بالفائدة على الطرفين.
استخدم روبرت إطار العمل هذا في أثناء محادثته مع الرئيسة التنفيذية، وانتبه لرغبته في الفرار من المحادثة فأدرك أنه يكاد يدخل في حالة الكر والفر. وكي يضمن بقاءه في حالة تمكنه من التفكير بوضوح، تعمد استرجاع التحديات التي نجح في مواجهتها سابقاً. وفكر في التجارب السابقة التي تمكن من التقدم فيها على الرغم من شعوره بانعدام اليقين والضعف. زادته هذه الذكريات ثقة بقدرته على التعامل مع هذا الموقف. كما فكر أيضاً في الفائدة التي يمكنه تقديمها في هذه المحادثة مع الرئيسة التنفيذية، أي هدفه الأسمى، ما مكنه من الانتقال الواعي من الخوف إلى الأمل.
مده هدفه بالطاقة، وشجع الرئيسة التنفيذية على الاستمرار بشرح مشكلتها بدلاً من أن يحاول إنهاء المكالمة. واستخدم إشارات تدل على تفاعله والتزامه كي يعزز شعورها بالأمان والثقة، وشملت هذه الإشارات تعبيراً عن الضعف الحقيقي وأساليب الاستفهام الصادق. مثلاً، عندما انتهت من الكلام، قال لها: "المشكلة التي تواجهينها صعبة للغاية، ويصعب عليّ فهمها. لذا، اسمحي لي أن أقول لك ما فهمته كي تصححي الخطأ فيه".
كان اعترافه بعدم فهم ما قالته تماماً ينم عن الضعف، لكن صدقه أشار إلى أنه يثق بها، وأشارت صراحته إلى أنه بإمكانها الوثوق به. فقضت 7 دقائق أخرى في توضيح الأمر أكثر، ودخلت مع روبرت إلى حالة من التنظيم المشترك أتاحت لهما تبادل الأفكار والعواطف والاحتمالات من دون تردد أو إحراج أو خوف.
وما أن شعر روبرت بالأمان، وأصغى بإمعان إلى شرحها، بدأ هرمون الأوكسيتوسين بالتدفق في جسده وشعر بمزيد من الانفتاح الذهني. وبدلاً من تركيز تفكيره على المشكلة، ركز على الاحتمالات ولفت انتباهها إلى صورة أوسع. فبدلاً من السعي للحصول على الموارد التي وُعدت بها، هل يمكنها اتباع نهج جديد؟ هل يمكنها استكشاف النوايا الأصلية لكل المشاركين في الاستثمار؟ لماذا اهتموا بالمشروع لدرجة المشاركة والاستثمار فيه؟ هل التزموا بما يكفي لزيادة تفاعلهم؟ هل يمكنها أن تطلب بجرأة التمويل الذي يمكن أن يحقق تقدماً للشركة ويساعدها على قطع شوط كبير نحو المستقبل قد يصل إلى عدة أشهر، بل عدة أعوام؟ هل يمكنها تشجيع المستثمرين على تقديم التزام أكبر؟ هل يمكنها أن تقودهم في عملية تنظيم مشتركة لتحقيق تعاون أكبر فيما بينهم؟
أبدت الرئيسة التنفيذية اهتمامها الشديد وقالت إنها ستجرب هذه الاستراتيجية. وبعد شهر من الزمن، اتصلت بروبرت كي تخبره بأن الاستراتيجية حققت نجاحاً بعد أن أجرت عليها بعض التعديلات، وأن أعضاء مجلس الإدارة زادوا التزامهم، وأنها الآن تشعر بتفاؤل أكبر.
يفتح تنظيم رد الفعل عند التوتر الشديد والتنظيم الذاتي مجالاً للتعاون مع الآخرين وإجراء التغييرات، ويمنحنا فهم ردود أفعالنا الحيوية في المواقف التي نشعر فيها بتوتر شديد طريقاً واضحاً لنسلكه، وعندئذ يكون الخيار في أيدينا، فإما أن نسير في هذا الطريق وإما أن نقاومه. وغالباً ما يكون الخيار الذي نتخذه هو الفيصل في نجاحنا أو فشلنا.