بدأت نماذج الأعمال القائمة على الاشتراك في الازدهار بشكل كبير بالآونة الأخيرة، إذ كانت تقتصر في السابق على مجالات معينة مثل الصحف والمجلات وصالات اللياقة البدنية والخدمات وشركات الاتصالات، أما الآن، اتسع نطاقها وأصبحت تشمل تقديم المزيد من المنتجات والخدمات لفئات أكبر من الناس أكثر من أي وقت مضى. في عام 2017 تمكنت الأعمال التجارية القائمة على الاشتراك من اجتذاب 11 مليون مشترك في الولايات المتحدة، ووصل معدل نمو هذه الصناعة ككل إلى 200% سنوياً منذ عام 2011. ويوجد أكثر من 2,000 عمل تجاري قائم على اشتراك المستهلكين يعتمد على أذواق العملاء المختلفة. وبينما تقوم الكثير من الشركات ببيع منتجات تقليدية، مثل الأطعمة: "بلو أبرون" (Blue Apron) و"هالو فريش" (HelloFresh). ومنتجات العناية الشخصية "دولار شيف كلاب" (Dollar Shave Club) و"هاريز" (Harry’s). ومستحضرات التجميل "بيرتش بوكس" (Birchbox) و"إبسي" (Ipsy). والملابس "ستيتش فيكس" (Stitch Fix) و"ترنك كلاب" (Trunk Club). توجد المئات من الشركات التي تقدم منتجات غير تقليدية تناسب الأذواق الأقل إقبالاً، مثل ألعاب هاري بوتر ومنتجات النجاة والنباتات الطحلبية.
وعلى الرغم من النمو السريع لهذه الصناعة، إلا إنها تعد شديدة التقلب أيضاً، إذ يشير موقع "ماي سبسكربشن أديكشن" (My Subscription Addiction) إلى فشل 13% من الأعمال التجارية القائمة على الاشتراك التي قام الموقع باستعراضها، وشهد الكثير تراجعاً حاداً وخسائر كبيرة. فمثلاً، حققت شركة "بلو أبرون" نجاحاً كبيراً وأصبحت الشركة الأكبر في مجال توصيل المكونات الغذائية والوجبات في الولايات المتحدة، وبعد عرض أسهمها للبيع في شهر يونيو/حزيران، انخفض سعر سهم الشركة انخفاضاً كبيراً بنسبة 70% ما جعلها صاحبة عملية الطرح العام الأولي الأسوأ من بين الشركات الكبرى عام 2017. وفي الواقع، مضى بعض المحللين إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ يرون أنّ تجارة اشتراكات الصناديق تُعتبر كفقاعة من رأس المال الاستثماري ولا يختلف حالها عن الهوس بتجارة التخفيضات السريعة التي انتهت منذ 5 سنوات. ويرى المحللون أنّ السوق وصلت إلى حد التشبع نظراً لقلة الحواجز التي تحكم الدخول إليها (فمثلاً، هل نحتاج حقاً إلى 53 شركة تقدم اشتراكات خاصة بالمنتجات الشخصية)، فإجمالي حجم السوق لمعظم هذه الأعمال التجارية يعد صغيراً ويراها المستهلكون على أنها صرعات مبتدعة، ولا زالت الكثير من الشركات تتكبد خسائر كبيرة في محاولات تحقيق الأرباح بينما يعد نموذج الأعمال صعب القياس في الأساس.
وتثير هذه الإشكاليات لدينا الأسئلة التالية: كيف يمكن للمستثمرين، سواء شركات رأسمال استثماري وشركات أسهم خاصة أو مستثمرين في السوق العام، تقدير القيمة المالية الأساسية لهذه المشاريع بدقة؟ وما هي المقاييس الصحيحة التي يتعين على الجهات التنفيذية بالشركة استخدامها لإدارة الأعمال القائمة على الاشتراك ليتحملوا المسؤولية الكاملة عن أفعالهم أمام أصحاب المصالح؟ هناك منهجية جديدة نُطلق عليها اسم "التقييم المؤسسي القائم على العميل" (CBCV)، وتحمل هذه المنهجية الإجابة عن هذين السؤالين وغيرهما من الأسئلة الهامة.
الانتقال من التقييم "التنازلي" إلى "التصاعدي"
يُعتبر التقييم "التنازلي" بطبيعة الحال هو التقييم الافتراضي لدى متخصصي الشئون المالية. على سبيل المثال، يمكن أن يضع متخصص الشئون المالية تقديرات للإيرادات المتوقعة يستخدم فيها مدخلات مثل اتجاهات الاقتصاد الكلي للشرائح السكانية الأساسية. وتكمن صعوبة هذا النهج في صعوبة إجراء مثل هذه التقديرات بشكل دقيق، والأهم من ذلك أنها لا تراعي سلامة قاعدة عملاء الشركة وتكوينها بالشكل المطلوب.
أما منهجية التقييم المؤسسي على أساس العميل، تتخذ اتجاهاً "تصاعدياً" في عملية تقييم المؤسسة عن طريق الإقرار صراحة أنّ العميل هو مصدر كل دولار في إيرادات الشركة، وأنّ العملاء لم يخلقوا جميعهم سواسية. وهذه المنهجية تناسب الأعمال القائمة على الاشتراك بوجه خاص، فلا يُعد حجم الإيرادات مرتبطاً باكتساب العملاء الجدد مع مرور الوقت، وأنماط الاحتفاظ بالعملاء عند تجديد اشتراكاتهم (أو التوقف عن ذلك)، ومتوسط دخل الشركة لكل عميل. ويعكس هذا التحليل المنطق الحسابي البسيط بأنّ عدد العملاء في نهاية أي فترة محددة ينبغي أن يساوي عدد العملاء الجدد المنضمين خلال تلك الفترة إضافة إلى عدد العملاء الذين كانوا مع الشركة عند بداية تلك الفترة وظلوا معها حتى نهاية الفترة نفسها.
ولتقدير عدد العملاء الحاليين الذين ظلوا مع الشركة عند نهاية كل ربع سنة، يتعين على المحللين استنتاج الفروقات بين مختلف الفترات المتعلقة بقاعدة عملاء الشركة (مثلاً، ما عدد العملاء الحاليين المنضمين حديثاً للشركة؟ وما عدد العملاء "الموالين المخلصين" الذين تجاوزت فترة انضمامهم للشركة 10 سنوات؟ وما هو معدل خروج العملاء في كل فئة من هذه الفئات؟)، وتصبح هذه العملية بسيطة نسبياً إذا توافرت لدى المحلل كمية كافية من البيانات (مثلاً، سجل معاملات الشركة)، وفي هذه الحالة، يمكننا على الفور معرفة مدة بقاء جميع العملاء، وهناك نماذج مجربة يتم استخدامها عادة من قبل خبراء حسابات التأمين لوضع توقعات حول أنماط خروج العملاء حسب الفترات الزمنية بين المجموعات المختلفة من العملاء. ولكن لا يتوافر هذا النوع من البيانات لدى المحللين عند تقييم الشركات المساهمة العامة، إذ لا تفشي هذه الشركات سوى البيانات شديدة العمومية في سجلات الشركة وعروض المستثمرين (مثل، الحجم النهائي لقاعدة العملاء وعدد العملاء المنضمين كل ربع سنة).
وفي دراسة نُشرت مؤخراً ضمن مجلة "جورنال أوف ماركيتنغ" (Journal of Marketing)، نوضح أنه باستخدام بعض المنهجيات الإحصائية الذكية، يمكننا التنبؤ بأنماط خروج العملاء وباستخدام البيانات شديدة العمومية نحصل تقريباً على نفس النتائج التي نحصل عليها عند استخدام البيانات التفصيلية الوفيرة. والفكرة الأساسية وراء هذه المنهجية هي فكرة بسيطة نوعاً ما: يساعدنا معرفة ما نفعله حيال سلوك العملاء على المستوى التفصيلي في فهم ما نتوقع رؤيته على المستوى العام. ولكن في هذه الحالة، نتعامل مع البيانات من الاتجاه المعاكس، حيث نبدأ بالنمط العام لخروج العملاء (من بيانات الشركة العامة المعلنة)، ونستنتج مجموعة من الأنماط السلوكية على المستوى الفردي المتوافقة معها. وبعدها، نتوقع حدوث هذه الأنماط التفصيلية كما لو كانت لدينا تلك البيانات منذ البداية. وطبقنا هذه المنهجية على شركتين من شركات القطاع العام، وهما "ديش نتوورك" (DISH Network) و"سيريوس إكس إم ستالايت راديو" (Sirius XM Satellite Radio)، لنوضح فعالية هذه المنهجية عند تطبيقها بشكل عملي.
تتميز هذه المنهجية بدقتها وكفاءتها في التشخيص أكثر من أساليب التقييم المالي التقليدية، وذلك أنها تقوم بإدخال عوامل أساسية جديدة مؤثرة في القيمة إلى النموذج المالي. فمن الأهمية بمكان معرفة ما إذا كان نمو المبيعات يعتمد على اكتساب عملاء جدد أو الاستفادة بشكل أكبر من العملاء الحاليين، إذ تتطلب الأولى المزيد من التكاليف الأولية. وبالمثل، يؤثر مستوى الاحتفاظ بالعملاء تأثيراً كبيراً على استقرار عائدات الشركة، إذ يحدد ما إذا كانت السيولة النقدية التي تدخل الشركة من العملاء الجدد تُعتبر بمثابة دفعات سنوية تُدفع إلى ما لا نهاية أم مبلغ مقدم يدفع دفعة واحدة ويتم تغييره في الفترة التالية لتجنب حدوث أي خسائر.
دراسة حالة: "بلو أبرون"
بعد إعداد إطار التقييم المعتمد على العملاء، وضعنا تصوراتنا لواحدة من المؤسسات القائمة على الاشتراك المفضلة بالنسبة لنا، والتي حققت نجاحاً باهراً بسرعة خيالية، وهي شركة "بلو أبرون" المتخصصة في توصيل مكونات الوجبات، وأشرنا إليها في بداية المقال.
أفصحت شركة "بلو أبرون" بشكل رسمي عن نيتها في التحول إلى شركة عامة مطلع شهر يونيو/حزيران عام 2017. وكانت معظم البيانات التي تم الإفصاح عنها حينها مقاييس تصاعدية تقليدية (مثلاً، يبلغ إجمالي حجم المبيعات في سوق البقالة بالولايات المتحدة 800 مليار دولار تقريباً لا يتم سوى 1.2% منها عن طريق الإنترنت، ومن المتوقع أن يصل معدل النمو السنوي لمبيعات البقالة على الإنترنت إلى 8.5%). وفي عام 2016، ارتفعت عائدات الشركة بأكثر من 100%، وبدى الأمر مبشراً ورائعاً.
وبينما لم توضح "بلو أبرون" أي معلومات خاصة بالحفاظ على العملاء من سجلاتها، قمنا بوضع نسخة موسعة للنموذج من مقالتنا التي نُشرت في المجلة والتي شملت بعض بيانات العملاء المنتقاة من المعلومات التي قدمتها الشركة، ما ساعدنا على وضع الاستنتاجات الإدارية نفسها التي تم وضعها في السابق.
وكانت نظرتنا القائمة على المنهجية التصاعدية أقل تفاؤلاً بشكل ملحوظ عن تلك الصورة الحالمة التي رسمتها إدارة الشركة بناء على الاستراتيجية التنازلية. على سبيل المثال، توقعنا خروج حوالي 70% من المشتركين بعد ستة أشهر، وارتفاع تكلفة اكتساب عملاء جدد بشكل سريع، وإنفاق عملاء الشركة القدامى مبالغ أقل من العملاء الجدد، لا أكثر منهم. وكانت الإيرادات، في الواقع، تنمو سريعاً، ولكن لم يكن ذلك إلا لزيادة إنفاق الشركة على التسويق بشكل أكبر. إذ بلغت نفقات التسويق وتكاليف اكتساب عملاء جدد حداً كبيراً للغاية في الاثني عشر شهراً التي سبقت الطرح العام الأولي للشركة، ما أعطى انطباعاً بأنها تحاول لفت انتباه بورصة "وول ستريت" من خلال النمو الكبير لمبيعاتها حتى وإن جاء ذلك على حساب قيمة عمر العلاقة مع العميل.
وأشارت التحاليل التي قمنا بها إلى أنّ شركة "بلو أبرون" تدور في "دوامة اكتساب العملاء" التي سيكون من الصعب عليها الخروج منها لأن أي تراجع في نفقات التسويق سيصاحبه انخفاض في المبيعات. وتمت إثارة هذه المخاوف المتعلقة بالعملاء في العديد من الشبكات الإخبارية الكبرى، بما فيها "وول ستريت جورنال" (Wall Street Journal) و"فورتشن" (Fortune) و"بارونز" (Barron’s)، التي ما لبثت أن تحققت بعد الطرح العام للشركة. وعندما بدأت الشركة في تخفيض نفقات التسويق قليلاً لكي تتمكن من التركيز على العمليات التشغيلية اللازمة لافتتاح منشأتها الجديدة، انخفض عدد العملاء بدوره كما هو متوقع. بمعنى آخر، وقعت الشركة في دوامة اكتساب العملاء، ما دفع المستثمرين لإعادة التفكير في الجدوى من دفع مبالغ مضاعفة لشركة ينخفض مستوى مبيعاتها عاماً بعد عام.
ولكن، ما زال هناك جانب مشرق في هذه القصة، حيث لم تقف شركة "بلو أبرون" مكتوفة الأيدي عند هذا الحد، بل اعترفت بما لديها من مشاكل متعلقة باكتساب العملاء وبدأت في اتخاذ بعض الإجراءات مؤخراً للتقليل من معدلات خروج العملاء، بما فيها عرض المزيد من خيارات الوجبات على المشتركين وإتاحة عدد غير محدود من تشكيلات الوجبات والسماح بتغيير عدد الوجبات التي يمكن للعميل طلبها كل أسبوع. وستكون هذه الخطوة إيجابية وتحقق هدفها المنشود إذا أدى انخفاض معدلات خروج العملاء إلى تغطية الزيادة في التكاليف والانخفاض في متوسط دخل الشركة لكل مستخدم الذي يترتب على هذه الأساليب التي بدأت الشركة في اتباعها. ومع ذلك، بدأت الجهات المستثمرة في الاستعداد لاستقبال شركات أُخرى متخصصة في توصيل الوجبات والتي أبلت بلاء حسناً في الحفاظ على العملاء والاستفادة من عملائها الحاليين. على سبيل المثال، حظيت شركة "غوبل" (Gobble) بالاستحسان في عدد من التغطيات الإعلامية وحصلت على جولة تمويل ثانية (Series B)، حيث استطاعت التفوق على شركة "بلو أبرون" في معدل الاحتفاظ بالسعر بنسبة 40%. وتستحق شركة "غوبل" المكافأة، وحصلت عليها بالفعل، لنجاحها في التعرف على المقياس الهام واستخدامه.
يقدم التقييم المؤسسي القائم على العميل للمستثمرين طريقة أكثر دقة لتحليل الأعمال التجارية القائمة على الاشتراك وتقييمها، ما يساعد فريق الإدارة في التركيز على الأمور الأكثر أهمية لتحقيق النجاح، وخلق قيمة مستدامة وطويلة الأجل من خلال اكتساب العملاء والاحتفاظ بهم وتطوير العلاقة معهم، وعدم إعطاء أهمية كبيرة للمقاييس السطحية مثل نمو المبيعات بمعزل عن العوامل الأُخرى. وفي الواقع، يؤدي مبدأ "تحقيق النمو مهما كان الثمن" إلى تدمير القيمة الحقيقية كما حدث مع شركة "بلو أبرون"، ونحن نظن أنّ الدور سيأتي على العديد من الشركات القائمة على الاشتراك التي تتبع حالياً الاستراتيجية ذاتها. ولدحض أي شكوك والحفاظ على ازدهار صناعة الأعمال القائمة على الاشتراك، لابد من اتجاه هذه الصناعة ككل نحو اعتماد استراتيجيات تركز على قيمة العميل.