ساهمت الفجوة بين الجنسين، على مدار سنوات طويلة، في حجب فرص حقيقية للنمو الاقتصادي في الكثير من المجتمعات، وهو ما عبّرت عنه الرئيسة التنفيذية للبنك الدولي، كريستالينا جورجيفا، بقولها: "لا يمكن لأي اقتصاد أن ينمو إلى أقصى إمكاناته ما لم يشارك النساء والرجال مشاركة كاملة"؛ إذ يُقدِّر صندوق النقد الدولي أن سد الفجوة بين الجنسين يمكن أن يؤدي إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 35%، كما يشير تقرير البنك الدولي لعام 2022م، إلى أن ما يُقارب 2.4 مليار امرأة لا تتمتعن بنفس الحقوق الاقتصادية التي يتمتع بها الرجال عالمياً.
غير أن العديد من الدول بدأت تعي ما يفوتها بسبب هذه الفجوة، وعليه، أنجزت إصلاحات مُمكِّنة للمرأة، آتت ثمارها خلال فترة قصيرة جداً، من بينها، المملكة العربية السعودية، التي ازدادت جهودها في تمكين المرأة في العقد الثاني من القرن الميلادي الحالي، وتضاعفت بعد تدشين رؤية المملكة 2030، بما تضمنته من طموحات عالية تتعلق بزيادة مشاركة المرأة في سوق العمل عامة، وزيادة حصة المرأة في المناصب الإدارية خاصة، قادت –على إثرها- وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، عدة مبادرات انطلاقاً من توجهات الرؤية تجاوزت نتائجها حتى الأهداف المتوقعة؛ إذ ارتفعت المشاركة الاقتصادية للإناث السعوديات إلى 33.6% في الربع الأول 2022 مرتفعاً 13.1 نقطة خلال ثلاث سنوات، وارتفع معدل المشتغلين للإناث السعوديات إلى 26.8% في نفس الفترة. كذلك زياد عدد المواطنات في سوق العمل الخاص من حوالي 100 ألف عام 2011 ليصل لأكثر من 670 ألف عام 2022.
دفعت هذه الإصلاحات البنك الدولي لتصنيف السعودية كأكبر دولة في الإصلاحات على مستوى العالم، في تقريره السنوي لعام 2020، بعنوان "المرأة وأنشطة الأعمال والقانون"، إذ حققت إصلاحات ملحوظة في 6 من أصل 8 مؤشرات يقيسها التقرير، وهي التنقل، ومكان العمل، والزواج، والوالدية، وريادة الأعمال، والمعاش التقاعدي، تبعها تحقيقها لإصلاح في مؤشر سابع وهو الأجور في النسخة اللاحقة –عام 2021- من التقرير.
فكيف استطاعت المملكة أن تضرب مثالاً للإرادة السياسية الحقيقية والرؤية المدروسة القادرة على تحقيق مثل هذه النتائج خلال سنوات قصيرة؟
بناء الأساس، التعليم
اهتمت المملكة العربية السعودية بتعليم النساء منذ مدة طويلة، منذ افتتاح أول مدرسة للبنات عام 1955، ثم إتاحة التعليم الجامعي للنساء عام 1970، علاوة على شمول النساء بفرص الابتعاث أسوة بالرجال، كالطبيبات والأكاديميات، ثم تغطيتهن ببرنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي المُطلق عام 2005، تبع ذلك إتاحة العديد من التخصصات المحصورة سابقاً على الرجال للنساء في العقد الأخير من القرن الميلادي الحالي، كالتخصصات الهندسية، في العديد من الجامعات، كجامعة الملك عبدالعزيز، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن –المحصورة على الرجال سابقاً-، وغيرهم، حتى بلغت الفجوة في التعليم بين الجنسين عام 2020 (0.08%)، ونسبة الأمية بين النساء السعوديات –فوق 15 سنة- (4%)، ونسبة التحاق الفتيات بالمدارس الثانوية حال وصولهن للسن الملائم (108.3%)، ونسبة النساء السعوديات -فوق الـ 25 سنة- الحاصلات على تعليم ثانوي (58.8%)، ونسبة النساء السعوديات -فوق الـ 25 سنة- الحاصلات على تعليم ما بعد ثانوي في نفس العام (36.4%)، بتنوع في التخصصات؛ حيث التحقت (14.65%) بتخصصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM) عام 2021، و(25.26%) بتخصصات القانون وإدارة الأعمال، و(7.02%) بالتخصصات الصحية، و(10.22%) بتخصصات العلوم الاجتماعية والمعلومات والصحافة، و(18.19%) بالتخصصات التربوية، و(22.46%) بالتخصصات الإنسانية والفنية، و(0.02%) بالتدريب المهني.
وفّر هذا التوسّع في التعليم أساساً متيناً للمملكة العربية السعودية لتنفيذ إصلاحاتها المُمكّنة للمرأة.
منهج متكامل
سارت المملكة وفق منهج متكامل لزيادة تمكين المرأة، يمكن للعديد من المجتمعات أن تحذو حذوه للاستفادة من القوة النسائية في النمو الاقتصادي، تضمّن:
- الإصلاحات التشريعية والتنظيمية.
- المبادرات والبرامج الداعمة.
- تعزيز حضور المرأة في شتى مجالات العمل والمناصب العليا.
1. الإصلاحات التشريعية والتنظيمية
لدى معظم البلدان سياسات وقيود اجتماعية تحد من فعالية المشاركة الاقتصادية للنساء، وهذا ما بدأت المملكة بإصلاحه، حيث سمحت للمرأة بقيادة السيارة، وللأمهات باستخراج سجل الأسرة، وأتاحت سفر المرأة خارج المملكة دون موافقة ولي الأمر لمن تجاوزت 21 عاماً، وسهّلت استخراجها للوثائق الرسمية وتجديدها لأفراد أسرتها، وأقرت نظام مكافحة التحرش.
أما بالنسبة للإصلاحات المتعلقة بالعمل، فقد تم تشريع برنامج نطاقات وبرامج التوطين بهدف إدخال مزيد من المواطنين لسوق العمل وأزالت جميع العوائق لعمل المرأة في جميع المهن ومنعت التمييز بينهم في الأجر، ونوع الوظيفة، ومجالها، وساعات العمل –مع ملاحظة تساوي سلم رواتب الوظائف الحكومية بين الجنسين منذ صدوره-، ووحّدت المملكة سن التقاعد بين الجنسين، وكذلك سمحت للمرأة بممارسة الأعمال التجارية دون الحصول على موافقة ولي الأمر.
علاوة على ذلك، حظرت فصل النساء أو إنذارهن بالفصل في أثناء الحمل أو التمتع بإجازة الوضع، ومنحت ساعات إرضاع للمرأة العاملة، كما مدّدت إجازة الوضع لشهر كامل لمن أنجبت طفلاً مريضاً أو من ذوي الاحتياجات الخاصة، مع الحق في تمديدها لشهر آخر دون أجر.
2. المبادرات والبرامج الداعمة
تواجه المرأة العاملة عدة عوائق - وإن بدت غير مرئية للبعض- تحتاج لدعم حكومي للتغلب عليها، منها، إجازة الأمومة، التي تُعدّ من الأمور الشائكة للأمهات العاملات، إذ ترفض بعض القوانين الإجازات الطويلة، وحتى في الدول التي تمنح قوانينها فترة إجازة مناسبة فإن بعضها يعتبرها أمر سلبي على المسيرة المهنية للنساء، إذ تُظهِر دراسة أن النساء اللواتي يقرّرن قضاء إجازة أمومة أطول يمكن أن يتوقّعن دفع ثمن التزامهنّ بالأمومة عند عودتهن إلى العمل، وفقاً لمقال منشور بعنوان "هل تضر إجازات الأمومة الطويلة بالحياة المهنية للنساء؟"، إضافة إلى أن غالبية عبء رعاية العائلة يقع على المرأة.
علاوة على ذلك، يعزو مؤشر الفجوة بين الجنسين تناقص دور المرأة في سوق العمل عالمياً إلى أن معظم الوظائف صارت مؤتمتة، وتحتاج إلى مهارات تقنية، وهو ما تفتقر إليه الكثير من النساء؛ إذ تشكلن 26% فقط من وظائف الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، و12% فقط من الوظائف المرتبطة بالحوسبة السحابية، كما أثبتت عدة أبحاث واستطلاعات للرأي أنه عندما يتعلق الأمر بتدريب الموظفين، فإن الرجال والنساء الذين يعملون في المكان نفسه لا يحصلون على الفرص التدريبية نفسها.
بالإضافة إلى ذلك، تظهر البيانات أن النساء غير مُمثّلات بشكل كاف في جميع مستويات صنع القرار في جميع أنحاء العالم، حيث تبلغ نسبة النساء في البرلمانات حول العالم 25% فقط، وتبلغ نسبتهن في المناصب الإدارية العليا والمتوسطة 31%.
بناء على ذلك، وضعت المملكة مُمثّلة في وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية عدة برامج ومبادرات حكومية، منها "برنامج قرة" الهادف لتحمّل جزء من تكاليف ضيافة أطفال المرأة العاملة، وقد استفادت منه 7,050 عاملة حتى اليوم. كذلك "برنامج وصول" لدعم تكاليف المواصلات ويهدف لتخفيف عبء تكاليف النقل من وإلى مكان العمل، واستفادت منه 97,285 عاملة، كذلك شرعت و سهلت أنماط العمل الجديدة من خلال ثلاث مبادرات هي: "مبادرة العمل المرن"، و"مبادرة العمل الحر"، و"مبادرة العمل عن بعد"؛ تهدف لتحقيق التوازن بين العمل ومتطلبات الحياة كذلك توفير نماذج أكثر مرونة للعمل، وقد أُطلِق لهذه المبادرات منصات رسمية، سجل فيها آلاف النساء حتى اليوم. وفيما يخص التأهيل والتدريب فقد أطلقت مبادرة "التدريب الموازي لمتطلبات سوق العمل"، وهي مبادرة تابعة لبرامج التحول الوطني لرؤية المملكة 2030، لدعم الباحثات عن عمل بالتوظيف والتدريب على رأس العمل، بحيث يزوّدهن التدريب بمجموعة من البرامج التدريبية المؤهِّلة للمهارات الأساسية، والمهارات الفنية، والإرشاد المهني، بالإضافة إلى مهام تُقدّم من صاحب العمل للمستفيدات لرفع مستوى الأداء الوظيفي لديهنّ وضمان نجاحهن في سوق العمل، وقد استهدفت المبادرة توظيف وتدريب 100 ألف مواطنة، استفاد منها حتى اليوم 2,500 امرأة. وفيما يتعلق بتدريب القيادات فقد أوجدت مبادرة "التدريب والتوجيه القيادي للكوادر النسائية" الهادفة لتأهيل السعوديات لتقلّد المناصب الإدارية العليا والوسطى في القطاعين العام والخاص، وهي مبادرة تابعة لبرامج التحول الوطني لرؤية المملكة 2030، تنقسم إلى قسمين: الأول: تأهيل السعوديات لشغل منصب قيادي في الإدارة العليا. والثاني: تأهيل السعوديات لشغل منصب قيادي في المستويات الإدارية الوسطى. وقد خرّجت المبادرة نحو 1,161 متدربة حتى اليوم. وقد أطلقت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بالتعاون مع جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن؛ المنصة الوطنية للقيادة النسائية السعودية "قياديات"، وهي منصة تفاعلية تحتوي على قاعدة بيانات القيادات الوطنية النسائية؛ لتسهيل الوصول السريع لهن سواء من القطاع العام، أو الخاص، أو مؤسسات المجتمع المدني، وقد سجلت بها نحو 9,000 امرأة قيادية حتى اليوم.
بالإضافة إلى ذلك، وضعت جهات حكومية أخرى في المملكة برامج ومبادرات داعمة للمرأة، منها: تالة المرأة لدعم رواد الأعمال وأصحاب المنشآت والعاملين لحساب أنفسهم في إطلاق مشاريع تنموية وأفكار تخدم المرأة في عدة مجالات. وصندوق النفقة لتوفير نفقة الأسرة للأم وأولادها خلال مرحلة التقاضي وعدم الاستقرار مع ضمان الاستدامة وتنمية الموارد المالية.
3. تعزيز حضور المرأة في شتى مجالات العمل والمناصب العليا
علاوة على إزالة القيود التشريعية وإطلاق البرامج والمبادرات؛ سعت المملكة إلى زيادة عدد النساء السعوديات في المناصب الإدارية المتوسطة والعليا وفي الجهات التي انخفضت مشاركة النساء فيها سابقا؛ تجنّباً لعدم وصول أصوات النساء حال انخفاض مشاركتهن في المناصب العليا، وتعزيزاً للصورة الذهنية للمرأة العاملة، لتغيير نظرة المجتمع لدور المرأة، وخلقًا لنماذج وقدوات نسائية سعودية تُحفّز الفتيات على رفع سقف طموحاتهن، وتدفعهن نحو اتباع خطاهنّ.
حيثُ عُيّنت أول سفيرة سعودية، وذلك في الولايات المتحدة الأميركية، تبعها تعيين ثلاث سفيرات، في كل من مملكة النرويج، ومملكة السويد، وجمهورية آيسلندا، كما عُيّنت أول مساعدة لرئيس مجلس الشورى، وأول نائبة وزير للتجارة، بالإضافة لتعيين العديد من الوكيلات في مختلف الوزارات، إلى غيرهن من القياديات في مختلف الجهات الحكومية والخاصة، حتى بلغت نسبة القياديات السعوديات 32.72%
علاوة على ذلك، وسّعت وزارة الدفاع السعودي النطاق العسكري النسائي عبر فتح بوابة القبول والتجنيد الموحد للتقديم على وظائف عسكرية برتب مختلفة (جندي - أول - عريف - وكيل - رقيب) في أفرعها المتعددة من القوات البحرية والجوية والبرية السعودية والخدمات الطبية للقوات المسلحة، وشكّل الاتحاد السعودي لكرة القدم أول منتخب سعودي للسيدات.
استجابت المرأة السعودية لهذه الإصلاحات وأثبتت جدارة لافتة، وكأنها كانت تقف استعداداً لإتاحة فرص التمكين الذي صاحب رؤية 2030، لتعزيز مكانة المرأة السعودية كفرد أساسي وشريك في المجتمع.