يتزايد تطبيق الاقتصاد السلوكي في السياسة العامة من خلال استخدام التوجيهات السلوكية باطّراد على مدى العقود الماضية. كان "التوجيه السلوكي" أو ما نسمية "الترغيب" وهو ترجمة هارفارد بزنس ريفيو العربية لمصطلح (Nudging) قد ظهر على أنه تدخل صغير وفعّال من حيث التكلفة، كما كان مراعياً للحرية ويقود الناس في الاتجاه الصحيح. وعلى هذا النحو فهو يحوّل مسار عملية صنع السياسة العامة، ما يمهد إلى استخدامه في العديد من المجالات بما في ذلك تسريع تحصيل الضرائب، وخفض استهلاك الطاقة، وتحسين نتائج التعليم، وتوجيه سلوك المستهلك قليل الالتزام بالقانون.
وقد تم إنشاء العديد من وحدات التوجيه السلوكي على صعيد المستويات العليا في الحكومات كالمجالس الاستشارية الرئاسية ومكاتب رؤساء الوزراء لاختبار مختلف الخيارات المتاحة أمام السياسة باستخدام اختبارات التحكم العشوائية (RCTs). وكانت وحدة التوجيه السلوكي الأكثر شهرة حتى الآن هي تلك التي تم إنشاؤها في العام 2010 من قبل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ديفيد كاميرون. ومنذ ذلك الحين، تم تأسيس العديد من هذه الوحدات وعلى رأسها تلك الموجودة في البيت الأبيض والتي أسسها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
لم تكن منطقة الشرق الأوسط بعيدة عن كل ذلك، من خلال إعداد وحدة التوجيه السلوكي القطرية، وهي أول وحدة مؤسسية من نوعها في الشرق الأوسط. وتماشياً مع ذلك تم إطلاق مبادرة مماثلة – وهي "نادج ليبانون" (Nudge Lebanon) - وهي مبادرة غير حكومية وغير ربحية تعمل على تطبيق التوجيهات السلوكية في مجال التحديات السياسية التي يواجهها لبنان، حيث أجرت "ندج ليبانون" تجربة تهدف إلى توجيه الأسر لتسديد فواتير الكهرباء في الوقت المناسب.
وبالتعاون مع شركة كهرباء لبنان، والمزود في مدينة صيدا الشركة الوطنية للخدمات الكهربائية (N.E.U.)، تم إجراء التجربة التي استهدفت زيادة تسديد فواتير الكهرباء بحلول الزيارة الثانية لمحصلي الفواتير، من خلال استعمال رسائل توجيهية مكتوبة على إيصالات الفواتير التذكيرية المقدمة للمستهلكين.
تعتبر مشكلة التسويف شائعة ويواجهها الناس في مختلف مواقفهم اليومية، وإحدى هذه المشاكل هو تأجيل تسديد الفواتير. لكن بالاعتماد على النتائج الحديثة لعلم التوجيه السلوكي، يمكن أن يؤدي استخدام بعض الدلالات السياقية إلى التغلب والحد من المماطلة في تسديد الفواتير. وقد تم الاعتماد على كل من ميزات الظهور الاجتماعي، والنفور من الخسارة، والمعايير الاجتماعية، والتشجيع، والأنا، بوصفها أدوات سلوكية يمكن استخدامها لتغيير سلوك الناس وزيادة الاستجابة لسداد فواتير الخدمات العامة.
التصميم
بموجب أنظمة مؤسسة كهرباء لبنان، عادة ما تبدأ عملية التحصيل بإصدار فواتير الكهرباء من قبل مزودي الخدمة، ومن المفترض أن يتم تحصيل الفواتير لفترة سابقة في حي معين خلال 40 يوماً من تاريخ إصدار الفاتورة. إذ يطلب من المحصلين زيارة المشتركين المعينين لهم من حيث المبدأ، مرتين كحد أقصى، ولكنهم في نهاية المطاف، يقومون بأكثر من زيارتين خلال فترة الأربعين يوماً. خلال الزيارة الأولى، يقوم المحصلون بتسليم الفواتير لمشتركيهم وتزويدهم بالفرصة للتسديد مباشرة. ولكن الأقلية فقط تسدد الفواتير على الفور، أما بالنسبة لأولئك الذين لا يسددون خلال الزيارة الأولى، فيتم تسليمهم إشعاراً ورقياً يوضح المبلغ الواجب تسديده والموعد المقترح للزيارة الثانية. وفي حالة عدم السداد في الزيارة الثانية يُطلب من المشتركين، من حيث المبدأ، أن يسددوا ما عليهم في المكتب المحلي التابع لمؤسسة كهرباء لبنان، حيث سيتم فرض غرامة تأخير عليهم بقيمة 4 دولار تقريباً، ويؤدي التخلف عن سداد الفاتورة ثلاث مرات متتالية إلى إيقاف التزويد بالكهرباء. من الناحية العملية، يسدد أكثر من 90 في المئة من المشتركين ما عليهم في غضون 40 يوماً، ولكن تحقيق هذه النسبة غالباً ما يستدعي زيارة المحصلين لمنازل المستفيدين أكثر من مرتين.
وقد تم الاختبار على 429 أسرة في منطقة صيدا، وذلك باستخدام عامل الإزعاج، والمعيار الاجتماعي والحس الوطني، حيث تفوقت المجموعات الثلاث على مجموعة القياس، بنسبة 4% و 13%. و 15% من التحسن على التوالي، مما يثبت إمكانية زيادة احتمالية تسديد الناس لفواتيرهم من خلال بعض التغييرات الصغيرة والفعّالة.
فبالإضافة إلى الإيصال الأصلي الذي يعطيه مزود الخدمة عادة خلال زيارته الأولى، والذي تم توزيعه على أفراد مجموعة القياس، تم توزيع ثلاثة أنواع من الإيصالات عشوائياً مصممة استناداً إلى التوجيه السلوكي على ثلاث مجموعات اختبارية في الزيارة الأولى (الشكل 1 أدناه).
وتلقت 111 أسرة إيصالات مجموعة القياس، بينما تلقت 101 أسرة إيصالات اختبار عامل الإزعاج، وتلقت 114 أسرة إيصالات اختبار الأعراف الاجتماعية، بينما تلقت 103 أسر إيصالات اختبار الحس الوطني.
المجموعة الاختبارية الأولى إذاً تلقت إيصال "عامل الإزعاج والنفور من الخسارة"، والذي يحدد الخطوات التي يجب على المشترك اتباعها إذا لم يلتزم بالسداد بعد الزيارة الثانية، كما أنه يسلّط الضوء على الرسوم المالية الإضافية التي سيتم تحصيلها. ويتأثر السلوك في الغالب بما يتم لفت الانتباه إليه كما يقول عالم الاقتصاد دانيال كانيمان، وبالتالي فمن خلال تسليط الضوء على الزيادة في تكلفة تأجيل السداد وإبراز تبعات ذلك، من المتوقع أن تتقلص حالة عدم الامتثال. بالإضافة إلى ذلك، يكره البشر الخسارة، بحيث أنهم يهتمون بتجنب الخسائر أكثر من السعي وراء المكاسب. لذلك، من المتوقع أن يؤدي تعريضهم إلى عوامل الإزعاج المحتملة إلى توجيه سلوكهم في الاتجاه المرغوب، لتفادي تكبد أي خسارة.
تألفت المجموعة الاختبارية الثانية من الأسر التي وُزّع عليها الإيصال الذي يحمل رسالة التوجيه السلوكي المستند إلى "الأعراف الاجتماعية"، بحيث يعرّف الإيصال عن النسبة العالية من المشتركين في المجتمع المحلي الذين يسددون فواتيرهم في الوقت المحدد. تنصّ الرسالة على ما يلي: "أكثر من 90 في المئة من سكان منطقتك يسددون فواتيرهم في الوقت المحدد، فهل ستكون جزءاً من هذه المجموعة؟". تعتمد هذه الرسالة في أساسها المنطقي على شعور الناس بالراحة في التصرف بشكل يشبه سلوك الأغلبية وميلهم إلى استخدام المعايير الاجتماعية كمرجع يقارنون سلوكياتهم به. وعلى هذا النحو، فعند توجيه انتباههم إلى تسديد جيرانهم لفواتيرهم في الوقت المحدد، فمن المرجح أن يتصرفوا بما يتناسب مع السلوك "المتوقع اجتماعياً".
أما مجموعة الاختبار الثالثة، فقد لعبت على وتر المسؤولية الوطنية من خلال وضع العلم اللبناني على الإيصال واستخدام لغة لطيفة تحرّض الحس الوطني. بعبارة أخرى، يتألف هذا التوجيه السلوكي من المحفزات (استخدام صورة العلم أو العبارات المحفزة) لترسيخ الحس الوطني. ومن المتوقع أن يظهر تأثير ذلك على الأشخاص الذين يتعرضون لمثل هذه الإشارات من خلال سلوكهم اللاحق، ما سيسرع في نهاية المطاف من عملية السداد. تنص الرسالة على ما يلي: "إنّ بلدك تحتاج إليك، فكن مواطناً صالحاً وسدد فاتورة الكهرباء المستحقة في الوقت المحدد". وبالإضافة إلى ذلك، يدغدغ هذا التوجيه السلوكي غرورهم أيضاً، ما يدعم حاجتهم ورغبتهم في إظهار صورة إيجابية متسقة عن أنفسهم.
النتائج مبينة في الشكل 2.
وأشارت النتائج إلى أنّ لإيصالات "الأعراف الاجتماعية" و"الحس الوطني" تأثيراً هاماً من الناحية الإحصائية على عملية التسديد، علماً أنّ إيصالات "الحس الوطني" كانت الأكثر فاعلية: إذ أنّ حوالي 61.4 في المئة من الذين حصلوا على إيصالات "الحس الوطني" في الزيارة الأولى سددوا فواتيرهم في الزيارة الثانية، كما أن بعض الأشخاص سددوا الفواتير على الفور، أي من الزيارة الأولى.
وبالمقارنة مع مجموعة القياس، أدت إيصالات "الحس الوطني" إلى تحسن بنسبة 15 في المئة تقريباً في معدلات السداد. أما نتائج التوجيه السلوكي القائم على "الأعراف الاجتماعية" فقد كانت أقل بشكل طفيف: إذ سدد حوالي 60.2 في المئة من أسر هذه المجموعة فواتيرهم، ما يشير إلى تحسن بنسبة 13 في المئة تقريباً بالمقارنة مع مجموعة القياس. أما إيصالات مجموعة "عامل الإزعاج" فقد أدت إلى زيادة بنسبة 4 في المئة في معدل الاستجابة بالمقارنة مع مجموعة القياس، إلا أنّ النتائج لم تكن ذات دلالة إحصائية (إذ أنّ حوالي 55.3 في المئة من الأشخاص في هذه المجموعة قاموا بالسداد).
الآثار المترتبة
بصرف النظر عن طبيعتها الرمزية، تُعد تجربة التوجيه السلوكي هذه جديرة بالملاحظة على العديد من الأصعدة الملموسة. فهي تُظهر أولاً، قدرة التغييرات الصغيرة والفعالة من حيث التكلفة ضمن إطار السياق على تسريع معدلات سداد الفواتير بشكل واضح، وخصوصاً تلك التغييرات المستندة إلى التوجيهات السلوكية المتمثلة في "الأعراف الاجتماعية" و"الحس الوطني". إذ يمكن للتحسين الذي لا يتجاوز رقماً واحداً في النسبة المئوية في سداد الفواتير أن يخلق وفراً هائلاً إذا تم تكرار مثل هذه التجربة على المستوى الوطني. ثانياً، أظهرت هذه التجربة أنّ إيصالات الفواتير المصممة على أساس التوجيه السلوكي عوضاً عن الإيصالات العادية تزيد من احتمال تسديد الناس لفواتيرهم. وفي حين أنه ما تزال هناك حاجة لإجراء المزيد من التجارب، فمن المرجح أن يؤدي التوجيه السلوكي المشترك الذي يستخدم العاملين الأكثر نجاحاً، (أي تحديداً الحس الوطني والأعراف الاجتماعية)، إلى تحقيق معدل تسديد أسرع. أخيراً، تُعتبر هذه القضية فرصة للفت الانتباه إلى العديد من مجالات التدخل الممكنة في القطاعات الأخرى، بما في ذلك تسديد الضرائب، مع الإمكانية الكبيرة لتحقيق وفر هائل وتحسين تقديم الخدمات العامة على المستوى الوطني.