ملخص: يعمل الكثير من الناس طوال حياتهم سعياً إلى تحقيق النجاح المادي، وبعد أن يتحقق هذا النجاح يجدون أنهم يفتقدون الشعور بالسعادة والهدف في حياتهم، وغالباً ما يقضون سنواتهم اللاحقة في البحث عما يجعل لحياتهم معنى. ولكن البحث عن المعنى في مرحلة متأخرة من حياتك يُعد فرصة ضائعة، فالنجاح دون وجود معنى للحياة، المتمثل في وجود هدف في الحياة وخدمة الآخرين وبناء علاقات صادقة، ليس نجاحاً حقيقياً على الإطلاق. لذا، من المهم أن تفكر تفكيراً سليماً في كيفية عيش حياة لا تملؤها الزينات السطحية "للنجاح" فحسب، ولكن يجب أن تكون أيضاً ذات معنى عميق وأن نشعر فيها بالمتعة في كل ما نقوم به بدءاً من الآن. اسأل نفسك: ما هو الغرض الأساسي من عملي؟ وكيف يجعل العالم أفضل؟ وما هي العلاقات الأساسية في حياتي؟ وكيف يمكنني تعميقها؟ وما الذي يمكنني فعله في عملي ومنزلي ومجتمعي لخدمة الآخرين؟ وما الذي يمكنني فعله لتطوير نفسي كل يوم؟
ألّف بوب بوفورد في عام 1995 الكتاب الأكثر مبيعاً "مرحلة منتصف العمر" (Halftime)، الذي بسّط فيه مفهوم "الانتقال من تحقيق النجاح إلى إيجاد المعنى" في النصف الثاني من العمر. فقد لاحظ بوفورد أن العديد من رجال الأعمال يعملون طوال حياتهم لتحقيق النجاح المادي، وبعد أن يتحقق هذا النجاح يجدون أنهم يفتقدون الشعور بالسعادة والهدف في حياتهم، وقد شجعهم هذا الكتاب على إيجاد معنى في الحياة وإحداث تأثير في سنواتهم القادمة.
صيغت عبارة "من تحقيق النجاح إلى إيجاد المعنى" بحسن نية، لكن أسيء استخدامها. كان الهدف منها هو تشجيع الأشخاص الذين قضوا حياتهم المهنية في تجميع الموارد؛ أي المال والسلطة والمكانة والإنجازات، على إعادة توظيف وقتهم ومواهبهم لخدمة الآخرين، لكن هذا يعني أيضاً أن "النجاح" المهني والحياة السعيدة ذات المعنى متعارضان. في الواقع، لا يمكن تحقيق النجاح دون وجود معنى للحياة.
إذا قرأت كتاب بروني وير الرائع الذي يحمل عنوان "أهم 5 أمور ندم عليها أشخاص يحتضرون" (The Top Five Regrets of the Dying)، أو دراسة "غرانت" التي أجرتها جامعة هارفارد، أو البحث الرائد الذي أجراه دانيال كانيمان وأنغوس ديتون حول السعادة والدخل، أو التعاليم الدينية أو الفلسفية، فستكتشف أن قلة قليلة من الناس يهتمون في نهاية حياتهم بالمال أو الشهرة أو السلطة بقدر ما اعتقدوا أنهم سيهتمون بها. ويندم الجميع تقريباً على قلة العلاقات الصادقة في حياتهم أو على عدم وجود معنى لعملهم وحياتهم، فالنظرة الصائبة إلى النجاح هي أنه يجب أن يهدف إلى ازدهار الإنسان، ما أشار إليه الإغريق باسم "اليودايمونيا" (eudaimonia)، الذي يقترح تعريفاً أكثر عمقاً للحياة الناجحة التي تتسم بأنها مزدهرة وذات معنى أيضاً.
أمضيت العقد الماضي في الكتابة عن القيادة وتطوير الذات، وعن المعنى والهدف بصفة خاصة، وإحدى الرؤى الأساسية المستخلصة من هذه الأعمال هي الطبيعة الجوفاء للنجاح المادي عندما يخلو من المعنى. فالنجاح دون وجود معنى للحياة، المتمثل في وجود هدف في الحياة وخدمة الآخرين وبناء علاقات صادقة، ليس نجاحاً حقيقياً على الإطلاق، وانتظار أن تصبح في النصف الثاني من حياتك لتحقيق نجاح حقيقي هو مضيعة للوقت.
قلة منا فكروا ملياً في المفهوم السائد للنجاح قبل السعي إلى تحقيقه. قد نفكر ملياً فيما نجيد فعله أو في المسارات المهنية للأشخاص الذين نحترمهم ونقدرهم عند اختيار وظيفة أو مسار مهني، ولكن بمرور الوقت قد تهيمن هذه الوظيفة على أجزاء أخرى مهمة من حياتنا (نتفهم جميعاً الكفاح لتحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية) أو قد نغفل عما يجعل هذا المسار المهني هادفاً من الأساس. لذا، غالباً ما نميل تلقائياً إلى السعي لإحراز تقدم مادي دون أن نتساءل حقاً عن السبب.
وبدلاً من ذلك، من المهم أن نفكر تفكيراً سليماً في كيفية عيش حياة لا تملؤها الزينات السطحية "للنجاح" فحسب، ولكن يجب أن تكون أيضاً ذات معنى عميق وأن نشعر فيها بالمتعة في كل ما نقوم به. وقد أوضح عالم النفس مارتن سيليغمان أن النجاح الحقيقي ينطوي على قدر من الإنجاز بالتأكيد، ولكنه يتضمن أيضاً المعنى والمشاعر الإيجابية والمشاركة والعلاقات. ويدفعنا التفكير في هذا التعريف الأكثر عمقاً للنجاح إلى سلوك مسار مختلف تماماً عن المسار الذي تؤيده الثقافات الشعبية؛ والقيام بذلك مبكراً، وعلى نحو متكرر، يسمح لنا بعيش حياة مفعمة بالمعنى باستمرار.
في كتابي الجديد "دليل هارفارد بزنس ريفيو لصياغة هدفك" (HBR Guide to Crafting Your Purpose)، أقترح أن الحياة الناجحة هي تلك المليئة بالأهداف، بما في ذلك الحب الصادق (العلاقات الإيجابية) والهوايات والجمال والمهنة (العمل الجيد) والمعتقدات الدينية أو الفلسفية وخدمة الآخرين. غالباً ما يكون أفضل وقت للتفكير في هذه الأمور هو في خضم مرحلة انتقالية في الحياة، مثل التخرج، أو اتخاذ قرار بشأن وظيفة جديدة، أو تغيير كبير في الحياة مثل الزواج أو إنجاب الأطفال أو الطلاق، أو التقاعد من الوظيفة الأساسية التي يشغلها الفرد. ويمكن استخدام هذه العملية أيضاً لبعث النشاط في الوظيفة الحالية أو لإحياء مجموعة من الأنشطة عندما تصبح من دون معنى.
عندما تبدأ في البحث عن رؤية أعمق للنجاح الباهر، اسأل نفسك بعض الأسئلة:
- ما هو الهدف الأساسي من عملي؟ وكيف يجعل العالم أفضل؟ وكيف يمكنني تحقيقه من خلال عملي اليومي؟
- ما هي العلاقات الأساسية في حياتي، داخل نطاق العمل وخارجه؟ وكيف يمكن أن أعمّقها وأثريها؟
- مَن الذين أخدمهم داخل نطاق عملي وخارجه؟ وما الذي يمكنني فعله في عملي ومنزلي ومجتمعي لخدمة الآخرين؟
- وما الذي يمكنني فعله لتطوير نفسي كل يوم؟ وكيف يمكنني ممارسة هوايات ذات معنى لحياتي الشخصية أو المهنية؟
كثير من الناس الذين يؤجلون التفكير في هذه الأسئلة إلى أن يصبحوا في النصف الثاني من حياتهم يجدون أنهم لا يستطيعون الشعور بالنجاح الحقيقي بعد قضاء عدة عقود في السعي وراء السراب. وعلى الرغم من أنه لم يفت الأوان لجعل بقية حياتك ذات معنى، فمن الأفضل أن تعيش حياة ذات معنى دوماً. وهذا أمر يمكنك من دون شك تحقيقه في حياتك اليوم. وقد يتضمن تغيير الطريقة التي تنظر بها إلى عملك أو الاستثمار في العلاقات الإيجابية الصادقة أو تعميق الخدمات التي تقدمها للآخرين أو ممارسة هوايات جديدة وذات معنى أو إجراء تغيير أكبر في حياتك المهنية أو مكان سكنك أو نمط حياتك. وأياً كان ما ستفعله، فيجب أن يتضمن أن تتوقف في الحال لتقييم حياتك الحالية والتفكير بعمق فيما إذا كان المسار الذي تسير فيه حالياً سيقودك بالفعل إلى المكان الذي ترغب في الوصول إليه.
لا تنتظر إلى أن تصبح الأفضل في مجالك أو إلى أن تصل إلى مرحلة متأخرة من حياتك لتعيش حياة ناجحة وذات معنى، بل ابدأ الآن سواء كنت تبلغ من العمر 15 أو 25 أو 55 عاماً، وفكر بجدية فيما سيجعل حياتك مبهجة ومُرضية وذات معنى.