قدر تقرير لشركة استراتيجي آند (&Strategy) أن العطاء السنوي لأكبر 100 مؤسسة عائلية في منطقة الخليج العربي قد تجاوز السبعة مليارات دولار أميركي. وذكر التقرير الذي صدر في العام 2017 أن قياس تأثير هذه المبالغ التي تساهم عادة في أعمال خيرية وتبرعات ما زال غير واضح في ثقافة "العطاء الاستراتيجي" على مستوى المنطقة.
وما يزيد من صعوبة قياس التأثير لهذه التبرعات هو أنها تنطلق من ثقافة التبرع أو الزكاة والصدقة والتي لا تترافق عادة مع رغبة الشركات أو الأفراد بتتبع طريقة صرف هذه التبرعات، بل قد لا يرغب المتبرع في معظم الحالات بالتعريف عن نفسه. غير أن الدراسة التي قمنا بها عبر مبادرة "بيرل" والتي تحمل عنوان: "حالة الحوكمة في قطاع العطاء الاجتماعي في منطقة الخليج" بينت أن ثمة توجهاً متزايداً نحو تحويل العطاء إلى عمل مؤسسي، حيث جاء في التقرير: "تبرز الدراسة أن الكثير من المساهمات المقدمة للمؤسسات غير الربحية ومؤسسات العطاء الاجتماعي تقدم بصيغة منح استراتيجية والتي تمثل نسبة تقل قليلاً عن 70% من الإسهامات المقدمة. وعلى عكس التبرعات والتمويلات التي تقدم كاستجابة لحالات معينة، فإن التمويل الاستراتيجي يعتبر طريقة أشمل للعطاء يقودها الحرص على إيجاد حل جذري لسبب المشكلة بدلاً من تقديم "حلول سريعة مؤقتة". كما تبين في الدراسة أن المنح والتبرعات النقدية تمثل نسبة أقل من 30% من إجمالي عمليات التمويل".
العطاء الاستراتيجي
لطالما كان العطاء مكوناً أصيلاً من تراث منطقة الخليج وجزءاً لا يتجزأ من موروثها الثقافي والديني، غير أن العطاء في المنطقة ما زال مرتبطاً بطابع الأعمال الخيرية الفردية، ويغيب عنه مفهوم العطاء الاستراتيجي الذي يهدف إلى إحداث تغيير اجتماعي مستدام من خلال التخطيط الاستراتيجي المستند إلى البيانات مع ضمان التحلي بالمرونة للاستجابة للاحتياجات والتحديات الناشئة.
وعلى الرغم من هذه الحالة التقليدية، فإن الأخبار الجيدة في هذا المجال هي أن الشركات والأفراد باتوا اليوم ينظرون باهتمام لوضع أهداف محددة وخطط استراتيجية لتتبع الأثر الذي تحدثه تبرعاتهم، وفيما إذا كانت تصب في المشاريع والأهداف التي يتوقعونها. وهذا ما لاحظه تقرير مبادرة بيرل، حيث تبين أن 68% من المتبرعين في منطقة الخليج العربي باتوا يفضلون تقديم المنح بناء على أساس خطة استراتيجية وأهداف محددة تلتزم بها المؤسسات التي تتلقى المنح.
واليوم، ومع تحول المناخ العام للشركات العائلية في المنطقة نحو العمل المؤسسي الذي يتبع حوكمة معينة، فإن العديد منها بات يحدث مؤسسات خيرية واضحة الهيكلية وخاضعة بالكامل لشروط الحوكمة الحديثة، حيث أثبتت دراسة مبادرة بيرل والتي شملت 50 مؤسسة معنية بالعطاء بين مانحة ومتلقية أن 83% من المؤسسات والشركات العائلية لديها مجلس إدارة رسمي أو لجنة للمساعدة في قيادة استراتيجية المؤسسة وتوجيهها فيما يتعلق بالتمويلات التي تقدمها أو برامج المسؤولية الاجتماعية التي تنفذها.
ومن التجارب التي نود استعراضها في هذا المقال لتقديم الأسس التي استطاعت عبرها شركة عائلية تحويل "العطاء" إلى عمل مؤسسي يتبع إلى حوكمة ومحدد الأهداف وقابل لتقييم النتائج هي مجموعة تمر السعودية، تلك المجموعة التي تأسست عام 1922 وتخصصت بالصناعات الصيدلية، عملت عبر ثلاثة أجيال من قياداتها إلى اعتبار العطاء جزءاً من هوية الشركة ومسؤوليتها الاجتماعية، لكنها عبر الجيل الثالث عملت على تحويل العطاء إلى عمل مؤسسي، حيث أسست المجموعة عام 2010 مؤسسة "ساعد والمجتمع" لتكون الذراع الرسمي للمسؤولية المجتمعية للمجموعة وفي عام 2013 أسست العائلة "مؤسسة تمر العائلية" لإدارة العمل الخيري الخاص بالعائلة. وتخصصت أعمالهم الخيرية بتقديم الدعم لمشاريع بالصحة والتعليم والفن والثقافة وبيئة العمل وتمكين المرأة وتمكين ذوي الإعاقة والبيئة، فكيف تتم إدارة هذا المشروع؟ يوضح أيمن تمر رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب في مجموعة تمر أنها تتم عبر شراكات مع مؤسسات تشارك المانحين ذات الأهداف في الحوكمة: "مثل مركز الحسين للسرطان والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) ومؤسسة الكوكب الإيجابي (Positive Planet Foundation) وغيرها".
ويقدم أيمن تمر قائمة بخمس نتائج من تجربة مجموعة تمر في العطاء الاستراتيجي:
- تحقق الجهات المانحة أثرها المرغوب إذا كانت لديها أهدافاً واستراتيجية واضحة وفعالة خاضعة للتقييم.
- تلعب الشراكات مع المؤسسات غير الربحية دوراً مهماً في تطوير كفاءة قطاع العمل الخيري.
- التزام كل من الجهات المانحة والمؤسسات غير الربحية بمبادئ الشفافية يساهم في تطبيق أفضل ممارسات التقييم وقياس الأثر ما يساهم في تحسين فاعلية العطاء.
- يلعب مجلس الإدارة دوراً أساسياً ليس فقط في عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بالمنح، ولكن أيضاً في قياس وتقييم أثر رأس المال الخيري.
- تقدم الأعمال الخيرية المؤسسية فرصة عظيمة للجيل القادم من أصحاب الشركات العائلية للمساهمة في تحديد وتطوير نظام القيم للشركات العائلية.
وبحسب تمر، فإن تجربة دمج أهداف الشركة بأهداف العطاء المؤسسي للعائلة تعتبر أمراً مهماً للغاية، وأنه يقدم إشارة على التزام العمل العائلي بالمؤسساتية والحوكمة حتى في قضايا العطاء والأعمال غير الربحية.
وعبر عملنا في مبادرة بيرل فإننا نكتشف يوماً بعد يوم بأن مسؤولية تعزيز فعالية العطاء الاستراتيجي تقع على عاتق كل من الجهات المانحة والمؤسسات غير الربحية التي تنفذ البرامج الخيرية. ويمكن أن يتم ذلك من خلال وضع أهداف واستراتيجيات واضحة تساهم في وضع حلول جذرية للمشاكل الاجتماعية، بدلاً من الحلول الجزئية غير المستدامة.
اقرأ أيضاً: