لو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب مشترك في مجلة "هارفارد بزنس ريفيو" لاستطاع تجنب الموقف المحرج الذي وضع نفسه فيه بخطابه الذي أعلن فيه انسحاب الولايات المتحدة من "اتفاقية باريس للمناخ"، والذي قال فيه تحديداً جملة: "لقد انتخبني أبناء مدينة بيتسبرغ، لا باريس".
لقد كان التخلي عن الاتفاقية متوقعاً لأجل إبقاء الأميركيين في وظائفهم. ولكن لو أن ترامب شاهد ندوة مجلة "هارفارد بزنس ريفيو" على شبكة الإنترنت بعنوان المرونة الاقتصادية في نموذج الطاقة الجديدة، التي تحدثت عن الطاقة النظيفة في مدينة بيتسبرغ، لكان قد وجد فيها تحذيراً مسبقاً من أن مدينة بيتسبرغ تُجرّد حججه كلياً. إذ تسعى هي وشركاؤها من الشركات إلى الاستفادة من "اتفاقية باريس"، على اعتبار أنهم رواد لمستقبل يستعين بالطاقة النظيفة والطاقة الخضراء. وبعد إعلان ترامب، قال عمدة مدينة بيتسبرغ بيل بيدوتو: "إن المدينة بدأت فعلاً بتطبيق ما نصت عليه اتفاقية باريس". وما تفعله بيتسبرغ لا يترتب عليه آثار فيما يخص السياسة المتبعة في المدينة فحسب، بل فيما يخص استراتيجيات الشركات ومستقبل التعاون بين القطاعين العام والخاص أيضاً.
الطاقة النظيفة في مدينة بيتسبرغ
لقد صوّر ترامب في خطابه الافتتاحي مدناً مثل مدينة بيتسبرغ وكأنها في وضع كارثي، وبحسب قوله: "ممتلئة بمعامل صدئة مهترئة متناثرة في البلاد وكأنها شواهد أضرحة". وكانت هذه الصورة صحيحة منذ 40 سنة، ولكن ليس اليوم. فمع انهيار صناعتي الفحم والفولاذ في سبعينيات القرن الماضي، مرت بيتسبرغ بمرحلة أزمة وجودية متصاحبة مع ركود اقتصادي أنهك سكان المدينة. وهذه الأزمة استدعت ما يسميه أهل المدينة "طريقة بيتسبرغ" للنجاة، وهي قدرة زعماء الحكومة والأعمال والأوساط الأكاديمية في المجتمع على الاتحاد والتعاون معاً لحل المشكلات.
كما أدرك زعماء مدينة بيتسبرغ أن اجتذاب الأعمال والاختصاصيين الموهوبين يحتاج إلى إعادة إنعاش للبنية التحتية الهرمة الملوثة. بعد نسف الصناعات الأساسية في المدينة جاءت فكرة أن استعادة المدينة لعافيتها يكمن في استخدام الوقود الأحفوري. ولكن بيتسبرغ الملقبة بمدينة الدخان، دفعت ثمناً باهظاً عقب الازدهار الصناعي الأخير فيها. فمعظم الناس لا يريدون العودة إلى تلك المدينة التي يحتاج المرء فيها إلى تغيير ثيابه مرتين في اليوم لشدة تلوثها، والتي كانت مصابيح الإنارة في شوارعها تحترق على مدار الساعة لشدة سطوعها في جوها المليء بالدخان. فكان الخيار أمام زعماء المدينة هو إما استثمار المستقبل أو الماضي.
وكانت الطاقة التي تدير المدينة ناشئة عن نظام مركزي يغتمد على تقنية الشبكة الكبرى "ماكروغريد". إذ أنشأه صناعيون مثل جورج وستنغهاوس في بداية القرن. ويقال إن بيتسبرغ كانت منشأ نظام توليد الطاقة الذي يسمح للمرء بتحميص قطعة الخبز باستخدام كهرباء يتم توليدها على بعد مئات الأميال. مرّت عشرات السنين على تقنية ويستنغهاوس هذه، وعلى الرغم من أنها غيّرت العالم في ذلك الوقت، فإن سنيناً من الهدر والتفكك جعلت فعالية تقنية "الماكروغريد" تتناقص أكثر فأكثر ليصبح الاعتماد عليها غير ممكن. وإجراء الإصلاحات اللازمة لإعادة فعالية هذا النظام يكلف عشرات المليارات من الدولارات.
وفي سبيل التغلب على مشكلات البنية التحتية في المدينة، تعاون زعماء بيتسبرغ مع العديد من الجهات، ومنها جامعات "كارنيغي ميلون" و"بيتسبرغ" و"دوكين"، بالإضافة إلى شركائها من الشركات مثل "دوكيه لايت" و"إن آر جي إنرجي" و"سيمنز"، حيث بدأ الجميع بالعمل على التفكير المنظّم مع الشركات المحلية والمؤسسات غير الربحية حول كيفية التقدم إلى الأمام. كانت الخطة وضع المدينة في مقدمة ثورة الطاقة النظيفة. وبدلاً من إعادة إعمار النظام المركزي القديم، مضى مشروع المدينة الذكي قدماً نحو سلسلة ذكية من شبكات كهربائية مصغرة على مستوى المقاطعات، وربط توليد الطاقة ونقلها وتوصيلها لتأمين بنية تحتية عالية التقنية للجامعات والمراكز الصحية ومراكز البيانات والمجتمعات وحتى لأسطول السيارات الكهربائية التابعة للمدينة. وبالفعل، النظام اللامركزي الجديد سيكون أكثر نظافة وملائمة للبيئة وأكثر مرونة، حيث بإمكان الشبكات المصغرة مشاركة الطاقة في حال انقطاعها ضمن إحدى المقاطعات. وباستخدام نظام البيانات الذكي، حتى بطاريات السيارات الكهربائية تُصبح جزءاً من موارد الطاقة المخزنة للنظام.
لقد أصبحت مدينة بيتسبرغ رائدة في استخدام نظام الطاقة المتجددة. الأمر الذي يقود إلى ازدياد عدد الوظائف وفعالية الاقتصاد. فالمدينة توظف 13 ألفاً من العمال ضمن معامل الطاقة المتجددة وفعالية الطاقة. مقارنة مع 5,300 موظف في معامل الحديد والفولاذ. وهنا، يمكننا رؤية لماذا تؤيد بيتسبرغ "اتفاقية باريس للمناخ". لقد ساعد إنتاج طاقة أكثر ملاءمة للبيئة في تنظيف المدينة وخلق جودة للحياة فيها تجذب الشركات والمواهب. وترسم مختبرات البحث في الجامعة منصة انطلاق حيوية، كما أنشأت شركة "جوجل" مركزاً لها في المدينة، وضاعفت عدد موظفيها فيها، في حين اختارت شركة "أوبر" مدينة بيتسبرغ مركزاً لإطلاق سيارتها ذاتية القيادة.
فهل يجد إداريو الحكومة من هذا درساً مفيداً؟ إن التخلي عن "اتفاقية باريس" ما هو إلا إشارة لقضية أكبر. إذ لن تكون هناك سياسة وطنية للطاقة مع تفكيك الحكومة الإدارية. وقد أشار العمدة بيدوتو مؤخراً إلى أن مدينة بيتسبرغ "لن تجد المساعدة من الحكومة الفيدرالية". وفي مواجهة البنية التحتية المهترئة، يبدو أن الشركات ستكون بحاجة إلى صياغة سياساتها الخاصة للطاقة. أما الإداريون في الحكومة فهم متأخرون كثيراً. حيث استنتجت استطلاعات مجلة "هارفارد بزنس ريفيو"، أن غالبية القراء يوافقون على حاجتنا إلى طاقة فعالة وموثوقة أكثر. بينما قال عدد قليل من الشركات التي استطلعنا رأيها إنهم يتبعون استراتيجيات خاصة بهم فيما يتعلق بالطاقة. ويولّد عدداً أقل من طاقتهم بأنفسهم أو يعملون على أي نوع من المبادرات الاستراتيجية التي تدور حول توليد الطاقة. هذه المواقف كانت مناسبة عندما كان هناك إجماع وطني على تغذية البلاد بالكهرباء عن طريق توليد طاقة وفيرة وموثوقة. ولكن هذه المرحلة انقضت.
وفي السياق ذاته، يمكن للشركات الانفصال عن الشبكة العامة وإنشاء أنظمة توليد الطاقة المشتركة الخاصة بهم، ليقطعوا بذلك اعتمادهم على النظام المركزي. وتزداد سهولة تنفيذ ذلك أكثر مع تطور تقنيات توليد الطاقة المتجددة وتخزينها. إلا أن الحقيقة تقول: "ليس هناك أي شركة منعزلة عن بقية البلاد". فكل الشركات والأعمال تعتمد على شبكة موردين وخدمات محلية أساسها الطاقة. كما تعتمد الشركات على المواهب العاملة التي تحتاج إلى العيش في مجتمعات ذات بنى تحتية عصرية ونظيفة. ولا يبدو بناء وحدات توليد طاقة منعزلة ومغلقة مساعداً على إنشاء ما يُرضي رغبات الشركات وموظفيها من حياة فعالة في مدينة تتوفر فيها الفنون والثقافة والترفيه.
وهكذا، نجد أن هذا ما يجعل مثال الطاقة النظيفة في مدينة بيتسبرغ واعداً جداً. يتعلق الأمر بالمدن. فالموظفون يعملون في المدن، أنت تعمل في المدن، وعاجلاً أم آجلاً ستنقاد الشركات القائدة تدريجياً إلى الاهتمام بمستقبل الطاقة في المجتمعات التي يعملون بها. والروح التعاونية بين الخاص والعام . و"طريقة بيتسبرغ" ستكون ما يحتاجه الجميع في كل مكان من البلاد، هذا إن كانت رغبة الشركات جادة حقاً في جعل الولايات المتحدة عظيمة من جديد.