هل يمكن اعتبار بيان المائدة المستديرة للأعمال مجرد كلام أجوف؟

6 دقائق

ها قد عُدتُ من إجازة امتنعت فيها عن سماع نشرات الأخبار لأفاجأ بتشكيلة من القصص الغريبة والمهمة في الوقت ذاته؛ إذ حاولت الولايات المتحدة شراء جزيرة جرينلاند (ماذا؟)، ونشبت الحرائق في غابات الأمازون، وتوفي الملياردير ديفيد كوك، وأعلن الرؤساء التنفيذيون لمائة وواحد وثمانين شركة من كبرى شركات العالم – ضمن لوبي المائدة المستديرة للأعمال – أن الغرض من وجود أي شركة ليس فقط خدمة مصالح المساهمين (وهو موقفهم الرسمي المعلن منذ عام 1997 بالمناسبة)، بل "تحقيق قيمة للأطراف المعنية جميعها".

هذه القصة الأخيرة هي ما سأركز عليه هنا، لكن العجيب أن تلك القصص كلها مرتبطة ببعضها البعض. وإليكم الأسباب.

يبدو بيان المائدة المستديرة للأعمال أمراً ذا شأن. فلطالما كانت الأولوية تُعطى للمساهمين كمبدأ أساسي لإدارة الشركات المساهمة منذ حوالي 50 عاماً، منذ أن أعلن الخبير الاقتصادي ميلتون فريدمان أن "المسؤولية الاجتماعية للشركات هي زيادة أرباحها". لاقت هذه الأفكار رواجاً كبيراً لعقود من الزمن بفضل التمويل السخي للغاية والجهود الجبارة – وفي القلب منها الأخوان كوك – حتى نجحتْ في صياغة النموذج الاقتصادي العالمي السائد اعتماداً على فلسفة السوق الحرة وأولوية المساهمين والنيوليبرالية.

تتخذ العديد من مراكز البحوث التي يمولها الأخوان كوك وغيرهما من هذه المسألة قضية محورية يثيرونها يومياً. فهم يعملون أيضاً على تقويض علوم المناخ، وهو ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحفاظ على الوضع الراهن للطاقة. حتى جاءت وفاة ديفيد كوك في الأسبوع نفسه الذي شهد تراجع الرؤساء التنفيذيين عن الفكرة ضيقة الأفق التي تنادي بالتركيز على المساهمين فقط، لتمثل حدثاً رمزياً. (وللعلم، فقد قدمت خدمات استشارية أو حاضرت في فعاليات أقيمت برعاية العشرات من الشركات المنضوية تحت لواء المائدة المستديرة للأعمال).

ولفهم سبب أهمية بيان المائدة المستديرة للأعمال، وعلاقته بالأخبار الأخرى المذكورة آنفاً، وما سيتغير (أو لن يتغير) فعلياً بشأن رأسمالية المساهمين، يجب وضع ثلاث نقاط وسؤال في الاعتبار.

أولوية المساهمين لن تحل مشكلاتنا الحالية.

يشعر قادة الشركات بالضغوط الواقعة عليهم لإعادة النظر في دور الشركات في المجتمع لعدة أسباب. أولاً، لتغير المعايير الاجتماعية وارتفاع سقف التوقعات المنتظرة من الموظفين والزبائن وحتى المستثمرين بسرعة كبيرة. ثانياً، تزايد الوعي بأن التركيز على أحد الأطراف الرئيسية أو مقياس بعينه يعتبر خطأً لا يقل فداحة عن استخدام مستوى الكوليسترول في الجسم باعتباره المقياس الوحيد للصحة البدنية. ثالثاً، ممارسة عدد من المستثمرين مثل لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة "بلاك روك" (Blackrock)، ضغوطاً متزايدة على الشركات للتركيز على غرضها ومساهماتها في المجتمع.

إلا أن السبب الرابع، وربما الأهم على الإطلاق، هو أن العالم يواجه تحديات هائلة وشائكة تتأثر بها تلك الشركات مثل تغيُّر المناخ، وتزايد عدم المساواة (وفكرة أن دخل هؤلاء الرؤساء التنفيذيين يساوي مئات أضعاف دخل موظفيهم)، وشح المياه والموارد، وتصحر التربة وفقدانها التنوع البيولوجي، وغيرها الكثير. تتطلب تلك المشكلات جهوداً منهجية وتعاوناً وتحديد كُلفة تلك "المؤثرات الخارجية" (كالتلوث وانبعاثات الكربون) التي نجحت الشركات في تصديرها إلى المجتمع. فالنظام الحالي المهووس بالمساهمين لا يصلح لهذا الغرض. ولن تفلح جهود تحفيز الشركات التي تعمل على تحقيق أكبر ربح ممكن للفرد على مواجهة التحديات العالمية المشتركة.

ولكن رغم شعور الرؤساء التنفيذيين في كبرى الشركات بالضغوط الواقعة عليهم لإعداد صياغة مختلفة لأغراضهم، فإننا لا نزال بعيدين كل البعد عن معالجة المشكلات الكبرى التي تهدد اقتصادنا ورفاهنا الجماعي. وعجزنا عن مواجهة أكثر مشكلات المجتمع إلحاحاً يتعدى في الواقع الاعتماد المفرط على القيمة المضافة لحاملي الأسهم - وهي فكرة جديدة نسبياً - والذي قد يكون أحد أعراض مشكلتنا الحقيقية أكثر من كونه سببها الجوهري.

لطالما كان هناك مُشككون في أولوية المساهمين.

عد بذاكراتك عشر سنين إلى الوراء، وستسمع جاك ويلش، الرئيس التنفيذي لشركة "جنرال إلكتريك" (GE)، الذي يعتبر نموذجاً للرئيس التنفيذي المهتم بخفض التكاليف، يعلن أن التركيز على القيمة المضافة لحاملي الأسهم باعتبارها استراتيجية أساسية هي "أغبى فكرة في العالم". أيضاً في عام 2009، أبلغ بول بولمان الرئيس التنفيذي الجديد لشركة "يونيليفر" (Paul Polman) آنذاك مساهمي الشركة بأنه سيتبع استراتيجية الإدارة على المدى الطويل وبالتالي فلن يلتقي بهم كل ثلاثة أشهر، حتى أنه غيَّر قاعدة المالكين لتضم المستثمرين الذين يريدون الاحتفاظ بالأسهم لفترات أطول من الوقت، وتفوقت شركته على نظرائها في العقد الثاني من هذا القرن.

لكن يمكننا العودة بالذاكرة إلى الوراء وصولاً إلى ما هو أبعد من بولمان وويلش، إلى زمن نشر شركة "جونسون آند جونسون" (Johnson & Johnson) ميثاقها الشهير عام 1943، والذي حددت فيه مسؤولياتها الرئيسية تجاه العالم ككل. يصف روبرت وود جونسون مسؤوليات شركته بهذا التسلسل: المرضى - الأطباء - الممرضون، ثم الزبائن، ثم الشركاء التجاريون، ثم الموظفون، ثم المجتمعات المحلية، ثم البيئة والموارد الطبيعية، ثم بعد ذلك كله "ينبغي أن يحقق المساهمون عائدات مجزية". يُثبت الميثاق أن التفكير في الأطراف المعنية فكرة قديمة، أكثر اتساقاً مع الأسباب الداعية لتأسيس معظم الشركات. (ستجد المزيد عن شركة "جونسون آند جونسون" بعد قليل).

ثمة مشكلة في أولوية المساهمين، ولكنها قد لا تكون المشكلة الحقيقية.

يُعتبر الخبير الاقتصادي ألفريد رابابورت أحد مؤسسي فكرة القيمة المضافة لحاملي الأسهم. لكنه يقدم حجة مقنعة في كتابه "إنقاذ الرأسمالية من فكرة تحقيق المكاسب السريعة" (Saving Capitalism from Short-Termism)، بأن مشكلتنا الحقيقية تكمن في فكرة تحقيق المكاسب السريعة وطريقة تفكيرنا في "القيمة". ببساطة: إذا كنت تدير الشركة من أجل القيمة طويلة الأجل، فستحتاج بالطبع إلى مراعاة مصالح الزبائن والموظفين والمجتمعات المحلية وغيرها. أما عندما ننظر إلى القيمة باعتبارها مسألة محصورة في أرباح الربع الحالي من العام، فهذا يعني أننا لن نستثمر (وبالتأكيد لن نعطي الأولوية للضرورات طويلة الأجل مثل التغير المناخي). أعتقد أن النموذج الاقتصادي الحالي يشجع على استنزاف الثروات الطبيعية من أجل الربح. ولكن ما علاقة هذه الظاهرة بالاهتمام بمصالح المستثمرين في حد ذاته، أو بالتركيز على الربح قصير الأجل فقط؟ علاقة قوية، ولهذا السبب ربما كان الالتزام النهائي الوارد في بيان المائدة المستديرة للأعمال الذي يعلنون فيه التزامهم بالقيمة طويلة الأجل هو العنصر الأهم.

ما الذي قد يعنيه اتباع هذه الشركات لتلك المبادئ حقاً؟

هذا هو السؤال المهم؛ فلإثبات مدى تعقيد "وضع الأطراف المعنية في المقام الأول"، انظر إلى هذا التباين. حالما انتهيت من كتابة الجمل السابقة عن شركة "جونسون آند جونسون"، انتشرت الأخبار بأن قاضياً أصدر حكماً ضد الشركة وغرمها 572 مليون دولار بسبب تورطها المزعوم في أزمة المواد الأفيونية المفعول في أوكلاهوما. وحتى إذا استأنفت الشركة الحكم وحصلت على البراءة، فإن الموقف يُثبت ما يلي: (أ) يُتوقع من الشركات بشكل متزايد أن تلعب دوراً إيجابياً في المجتمع، وأن تتحمل المسؤولية عن الآثار واسعة النطاق لإجراءاتها ومنتجاتها. (ب) الشركات معقدة – فأقوالها لا تتسق مع أفعالها على الدوام، وقد يكون لدى الشركة مبادئ قويمة على الورق، لكنها في بعض الأحيان تغفل المعنى الحقيقي لخدمة الأطراف المعنية على اختلاف مشاربهم.

إليك مثال آخر: يُعزى تزايد انتشار حرائق غابات الأمازون بدرجة كبيرة إلى السياسات الموضوعة لمساعدة الزراعة الصناعية وصناعات اللحوم، بدعم من الرئيس البرازيلي الذي يريد تحقيق الربح بالاستفادة من الثروات الطبيعية. فما مسؤولية الشركات للتصدي لهذه الأعمال؟ يُفترض بالشركات الموقعة على بيان مثل بيان المائدة المستديرة للأعمال أن تمتنع عن الشراء من موردي اللحوم الذين أحرقوا غابات الأمازون لإنشاء المراعي. ويتعين على الشركات التي تعطي الأولوية للأطراف المعنية كلها، والاحتياجات طويلة الأجل على حساب المصالح قصيرة الأجل للمستثمرين أن تبادر بمحاربة تلك السياسات المدمرة. وعلى المنوال نفسه، يجب أن تجاهر الأطراف الموقعة على البيان بدفاعها عن فرض أسعار إضافية على الكربون.

بالنسبة للعديد من الأطراف الموقعة على بيان المائدة المستديرة، فإن تنفيذ بنود البيان يتطلب إعادة النظر في طبيعة أعمالهم بشكل كامل. إذ يعمل الوقود الأحفوري على تطوير العالم الحديث، لكن حرقه يتعارض الآن مع الحياة نفسها. فهل ستضع شركات الوقود الأحفوري المدرجة في هذه القائمة خططاً لإسدال الستار على أعمالها الأساسية (كما فعلت شركة الطاقة الدنماركية "أورستيد" (Orsted) خلال العقد الماضي)؟ أو أن هذه الشركات نفسها ستتخلى عن التنقيب عن الموارد الطبيعية في القطب الشمالي وجرينلاند، والذي أصبح أكثر سهولة الآن لأننا أذبنا الجليد بحرق الوقود الأحفوري من البداية؟ هذا مستبعد.

في الواقع، رفضت العديد من الأطراف الموقعة على البيان أي إجراء بشأن المناخ، حتى مع إصدار بيانات عامة لفرض أسعار إضافية على الكربون. لم يمض على هذا وقت طويل؛ ففي انتخابات 2018، جرى الاقتراع على مبادرة في ولاية واشنطن تقضي بفرض سعر متواضع على الكربون. وتدفقت الأموال من جماعات المصالح المهتمة بالوقود الأحفوري، بما في ذلك العديد من الأطراف الموقعة على بيان المائدة المستديرة، للتصويت ضد المبادرة.

يمكنني أن أقول، من واقع خبرتي، أن بعض هؤلاء الرؤساء التنفيذيين يعنون ما يقولون، ويريدون العثور على غرض وبناء تراثهم. لكن من الصعب أخذ بعض تلك التوقيعات على محمل الجد، مما يقوض الجهود المبذولة في هذا الصدد. فقد قضت شركة "إكسون موبيل" عقوداً في التشكيك في علوم المناخ وإبطاء الإجراءات العالمية (طالع المدونة الصوتية القوية بعنوان Drilled للاطلاع على الحكاية المؤسفة كاملة). إلى أي مدى يمكن لشركة مثل هذه أن تهتم بـ"الأطراف المعنية" جميعهم؟

إن بيان المائدة المستديرة للأعمال ما هو إلا بداية، وهذه المناقشة الجديدة للغرض خطوة جيدة على الطريق الصحيح، وتعكس ما يقوله بعض كبار المستثمرين. لكننا نحتاج إلى محور أكبر بكثير لتعميمه، ونماذج للشركات التي تعتمد على الطاقة المتجددة والتي تقدر المنظور بعيد المدى، وتحمي الثروات الطبيعية، وتستثمر في القضايا الماسة بالتنمية البشرية والمساواة. وهذا المستوى من التغيير يسبق بيان المائدة المستديرة للأعمال بسنين ضوئية.

لذا، دعونا نُلزم تلك الشركات بادعاءاتها، كموظفين وزبائن وأفراد في المجتمع ومساهمين. دعونا نطالبهم بتبني المنظور طويل الأجل، والنضال من أجل سياسات تساعد على ازدهار العالم. أما خلاف ذلك، فهو مجرد كلام أجوف.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي