3 مبادئ أساسية لبناء ثقافة قوية عن بُعد

7 دقائق
بناء ثقافة قوية عن بُعد
غاندي فاسان / غيتي إيميدجز

ملخص: يُعد بناء ثقافة قوية عن بُعد واستدامتها في بيئة عمل افتراضية أمراً صعباً، لكنها استراتيجية دأبت الشركات الاستشارية الرائدة على تنفيذها على مدى سنين. واليوم، لا يقضي معظم الاستشاريين إلا أوقاتاً قصيرة جداً في مكاتبهم. ويحدد المؤلف، وهو أحد كبار الشركاء السابقين في شركة "ماكنزي" 3 عناصر تمكّن الشركات من تحقيق النجاح في بناء ثقافة قوية عن بُعد. أولاً، تبني الشركات ثقافات تعليمية واجتماعية قوية؛ على سبيل المثال، تعقد مكاتب شركة "ماكنزي" فعاليات "الجمعة المميزة" مرة واحدة كل شهر يحضر فيها الموظفون بشكل شخصي، إضافة إلى عقد فعاليات "يوم القيم" السنوية لتجديد التزامهم بثقافة الشركة. ثانياً، تركز الشركات على بناء ثقافات صغرى بين الفرق؛ كان لدى شركة "ماكنزي" سابقاً ما يقرب من 5,500 فريق موزعين في جميع أنحاء العالم. تقوم الفرق في بداية كل مشروع بسن قوانين حول كيفية جدولة الاجتماعات وإدارتها، وكيفية مشاركة أعباء العمل واتخاذ القرارات، وطريقة تبادل الملاحظات فيما بينها، وكيفية مزج التفاعلات الافتراضية والشخصية، وكيفية احترام الأنماط والتفضيلات الفردية. أخيراً، تقوم تلك الشركات بتحسين جوهر ثقافتها للتكيف مع الظروف المتغيرة بشكل مستمر.

 

لقد جعلتنا الجائحة ننخرط في أكبر تجربة سلوكية في تاريخ العمل. ولم تعد الأسئلة التي كنا نطرحها سابقاً حول مستقبل العمل في عصر التكنولوجيا المتقدمة تتعلق بالمستقبل فقط، بل أضحت تدور حول الحاضر. ومن بين تلك الأسئلة الملحة: كيف يمكننا بناء ثقافة قوية واستدامتها في مؤسساتنا في وقت أصبح اجتماعنا تحت سقف واحد أمراً نادر الحدوث؟ هل يمكننا الحفاظ على مجموعة مشتركة وفاعلة من المعايير والقيم والمعتقدات؟ هل يمكننا حقاً الإحساس بنفس المستوى من التقارب والتعاون والتوجيه دون أن نتشارك مكتباً واحداً؟

قد يبدو ذلك الوضع غير مألوف، لكن الحقيقة عكس ذلك، إذ أظهرت الشركات الاستشارية الرائدة، إضافة إلى شركات أخرى إمكانية بناء ثقافات افتراضية أو هجينة قوية ومميزة. ما الذي يمكننا أن نتعلمه من تجربة تلك الشركات؟

خبرة الشركات الاستشارية

أمضيت 30 عاماً من مسيرتي المهنية في شركة "ماكنزي" الاستشارية التي بلغت أعلى مستويات التنظيم في ثقافتها المؤسسية. تنطوي ثقافة الشركة على معايير وقيم ومعتقدات وافتراضات واضحة يجري مشاركتها على نطاق واسع وتتسم بفاعليتها في جميع مستويات المؤسسة. وتُدرج شركة "ماكنزي" في تعريفها للثقافة عبارات مثل "العميل أولاً" و "شركة واحدة" و "المعرفة تاج على الرأس" و"الترقي أو الانسحاب"، وتدعمها بآليات مؤسسية عدة، مثل وضع بيان واحد للأرباح والخسائر على مستوى الشركة، واتخاذ القرارات بالإجماع والحوكمة الذاتية وانتخاب القادة. وعلى الرغم من أن متوسط الوقت الذي قد يقضيه أي موظف في شركة "ماكنزي" هو 4 سنوات فقط، مكّنتها الثقافة الراسخة اليوم من جني أرباح النمو على مدى عدة عقود، فضلاً عن توسّع نفوذها في عالم الأعمال وخارجه.

لكن لا تستند ثقافات الشركات الاستشارية الراسخة مثل شركة "ماكنزي" إلى جعل الموظفين يقضون كثيراً من الوقت في مكاتبهم، أو على الأقل حثّهم على الحفاظ على مناصبهم، بل العكس هو الصحيح في الواقع. وإذا ما زرت مكتب أي شركة استشارية في أي يوم عادي، ستتفاجأ أن الشركة خالية من الموظفين الذين غالباً ما يكونون مع عملائهم.

وعادة ما يجري إعلام الاستشاريين الجدد أن الوقت الذي سيقضونه في مكاتبهم سيكون قليلاً جداً. والأمر سيّان بالنسبة إلى كبار الشركاء الذين يتعاملون عادةً مع مجموعة من العملاء، إذ يُفترض منهم أن يعملوا عن بُعد معظم الأوقات، سواء لدى العميل أو على متن الطائرات والقطارات، أو في المطارات والفنادق، وبالطبع في منازلهم. وقد يبدو أحياناً أنهم يعملون في كل مكان باستثناء مكاتبهم الخاصة، لاسيما خلال العقدين الماضيين، أي عندما أتاحت التكنولوجيا ممارسات العمل المتنقل.

3 عناصر من أجل بناء ثقافة عمل قوية عن بُعد

ما الذي تفعله الشركات الاستشارية إذاً للحفاظ على ثقافاتها في ظل الطبيعة المشتتة والمتنقلة لقوة عملها؟ تشير خبرتي المهنية والبحوث اللاحقة إلى وجود 3 عناصر لنجاح تلك الشركات:

1. بناء بيئات اجتماعية وتعليمية قوية

تتمثّل إحدى السمات الشائعة في كل مكتب من مكاتب شركة "ماكنزي" في إعداد فعاليات "الجمعة المميزة"؛ يجري تحديد هذا اليوم كل شهر، ويُطلب فيه من الموظفين الحضور شخصياً إلى المكتب. يُرتب الشركاء الإداريون في كل مكتب وجبات غداء خاصة ويعقدون "اجتماعات مفتوحة" تُبثّ عبر الإنترنت، وتجري نقاشات مفتوحة حول مواضيع مشتركة ويتم منحهم قسائم حسومات للمطاعم لضمان قضاء الموظفين وقتاً ممتعاً. كما يجدولون اجتماعات مكتبية في مواقع خارج المكتب مرة أو مرتين في السنة، جامعين بذلك بين النقاشات الجوهرية حول المصالح المشتركة والتي تتمثّل عادة في المبادرات ذات الصلة بالمعارف وبين التجمعات الاجتماعية. كما أنهم ينتهزون أي فرصة للاحتفال بمناسبات الترقية والأحداث الرئيسة على الصعيد الشخصي.

وتطلب الشركة أن يُخصص كل مكتب من مكاتبها المّوزعة في جميع أنحاء العالم "يوماً للقيم" كل عام، ويتمثّل الهدف من تلك الفعالية في أن يُجدد الموظفون التزامهم بمعايير شركة "ماكنزي" ومعتقداتها والافتراضات الأساسية التي تدعم ثقافة الشركة. وعادة ما ينطوي جدول الأعمال على مزيج من تمارين لعب الأدوار المستندة إلى تحديات القيم، ونقاشات جانبية تدور حول تعزيز معايير المكتب، وخطاب رئيسي يلقيه قادة الشركات والخبراء الخارجيين.

وتمكّنت شركات مثل "ماكنزي" من خلال تلك الاستراتيجيات وغيرها من إعادة تحديد مفهوم المكتب الفعلي بصفته مكملاً لتعزيز قيم العمل الافتراضي، بدلاً من اعتباره موقعاً يتشاركه الموظفون لأداء أعمالهم اليومية الفعلية. ويجري تعزيز ذلك التعريف للمكتب بصفته بيئة اجتماعية وتعليمية على مستوى الشركة ككل. وتساعد مؤتمرات الشركاء العالمية، وبرامج التدريب، والنقاشات المفتوحة، ولجان تقييم الأداء، بالإضافة إلى فرق خدمة العملاء متعددة الجنسيات في تعزيز الترابط الاجتماعي ودعمه والالتزام بالتعلم الذي ينظّم ثقافة الشركة الحديثة.

على سبيل المثال، تدعو شركة "ماكنزي" في كل عام كل مدير ارتباط واندماج تمت ترقيته حديثاً (عادة بعد 3 سنوات من مسيرته المهنية) إلى برنامج تدريبي لمدة أسبوع تُطلق عليه اسم "برنامج مدراء الارتباط" في "جامعة كامبريدج". لا تنطوي قيمة البرنامج على ما سيتعلمه المدراء، وإنما على تعرّفهم على مدراء آخرين في بيئة لا يمكن أن تُنسى، يعززون فيها الروابط الاجتماعية والعادات المشتركة التي ستدعم مساراتهم المهنية في الشركة. قد لا يرى الموظفون زملاء مكاتبهم في كثير من الأحيان، لكنهم يجعلون اللقاء معهم لا يُنسى عندما يلقونهم.

2. التركيز على الفرق

بيّن ماركوس بكنغهام وآشلي غودال أن الموظفين يميلون إلى إبداء اهتمام أقل بهوية الشركة التي يعملون فيها مقارنة باهتمامهم بالفريق الذي يعملون معه. وينطبق ذلك بشكل خاص على الشركات الاستشارية التي يعمل فيها الموظفون ضمن فرق صغيرة. لذلك، يزداد لجوء الشركات الاستشارية إلى تركيز معظم أوقاتها وجهودها على بناء ثقافات فاعلة مستندة إلى الفرق.

كان لدى شركة "ماكنزي" سابقاً ما يقرب من 5,500 فريق موزعين حول العالم. يجري اختيار العديد من تلك الفرق من مكاتب متعددة، وبالتالي لا يرتبط أعضاؤها بأي موقع فعلي محدد. كما أن عدداً كبيراً نسبياً من مستشاريهم، وخاصة كبار المستشارين، هم أعضاء في أكثر من فريق واحد موزعين جغرافياً. لذلك، لا مفر من أن يكون العديد من تفاعلات الفريق افتراضية، وكان ذلك هو النهج المتّبع سابقاً قبل تقييد الجائحة قدرة الموظفين على السفر.

وقد ساعدت معرفة ذلك في توضيح أهمية تشكيل الآلاف من "الثقافات الصغرى" المستندة إلى الفرق التي تتبع لشركة واحدة وأهمية استدامة تلك الثقافات. وبالنظر إلى أن تلك الفرق في تغير مستمر نتيجة تبدل أعضائها، تكون عملية تكوين الثقافة الصغرى وترميمها عملية ديناميكية في المقابل.

وبدورهم، يشارك الموظفون العاملون في البيئة "المرنة" التي تستند إلى مشاريع الشركة الاستشارية في المهمة الإبداعية المتمثلة في بناء ثقافة مصغرة لفرقها بشكل مباشر وعملي. تسن الفرق بداية كل مشروع قوانينها الخاصة حول كيفية جدولة الاجتماعات وعقدها، وكيفية مشاركة أعباء العمل واتخاذ القرارات، وكيفية تقديم الملاحظات لبعضها البعض، وكيفية مزج التفاعلات الافتراضية والشخصية، وكيفية احترام الأنماط والتفضيلات الفردية، بعبارة أخرى، يحددون طبيعة ثقافة عملهم. ويكررون تلك العملية المستدامة ذاتها في كل مرة يكوّنون فيها فريقاً جديداً.

ولتعزيز مفهوم الثقافات الصغيرة، يركز قادة الشركات الاستشارية اليوم بشكل مكثف على تحديد هوية أفضل فرقهم وسبب نجاح تلك الفرق. وقد تعلموا بالفعل من "مشروع أرسطو" (Project Aristotle) الذي طوّرته شركة "جوجل" أهمية تكوين فرق تتميز بالأمان النفسي وتمارس عملية تبادل الأدوار في المحادثات.

وقد أطلقت شركة "ماكنزي" قبل فترة "مقياساً للفرق" يصدر كل أسبوعين يتيح الحصول على رؤى ثاقبة متكررة وآنية حول هوية الفرق التي كان أداؤها جيداً والفرق التي تواجه صعوبات في أداء مهامها. وينطوي الهدف من تلك المقاييس أو "فحوصات النبض"، وهو المصطلح الذي تُطلقه شركة "ديلويت" (Deloitte) على آلية مماثلة لضمان تأكيد الاستشاريين بصراحة على أنهم "محاطون بأشخاص يشاركونهم قيمهم"، و"أنهم يحظون بدعم زملائهم في الفريق".

تعكس مثل تلك العبارات قوة ثقافة الشركة على نحو هادف أكثر من أي شيء آخر. إذ يتلقى كل فريق نتائج مقياس فريقه ويكون قادراً على التعامل مع أي مخاوف ناشئة حول الأساليب التي يتّبعها أعضاؤه في عملهم معاً. وتكون النتائج متاحة أيضاً لمدراء التوظيف والمواهب الذين سيتدخلون إذا لزم الأمر، كما أنها تشكّل جزءاً من عملية مراجعة الأداء لمدراء الفرق.

3. صقل الجوهر الثقافي

لقد نجحت الشركات الاستشارية الرائدة في تصحيح الكثير من المعتقدات، وهو ما أدى إلى تأسيس بعض المؤسسات الأكثر نجاحاً واستدامة خلال نصف القرن الماضي. وتُدرك تلك الشركات في الواقع حاجتها إلى مواصلة التكيف مع الظروف المتغيرة، ولاحظت فشل كثير من عملائها في القيام بذلك. وكما أفاد الأستاذ الجامعي في "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" (إم آي تي)، إدغار شاين (إد شاين): الثقافة ديناميكية، لأنها قادرة على التكيف مع التجارب الجديدة. وقد يحدث التغيير فيها نتيجة تعرضها إلى أزمة واضحة هي متلازمة "المنصة المحترقة"، أو من خلال تطور منظّم تحت إشراف مدير ماهر ومحترف".
بالنسبة للشركات الاستشارية الرائدة مثل شركة "ماكنزي"، تضمنت عملية "التطور المُنظّم" في ثقافتها التكيف مع توسعها العالمي المتزايد مع خلال تطوير هيكلها التنظيمي وعملياتها؛ وتلبية احتياجات عملائها المتمثّلة في رغبتهم في الحصول على مزيد من معرفة الخبراء المتخصصين؛ وتحديد تطلعات واضحة لاعتبارات النوع الاجتماعي والتنوع العرقي؛ وتطوير عمليات إدارة المخاطر وتحمل المسؤولية استجابة للأخطاء الدورية في الأحكام والخلافات العامة.

تمر كل مؤسسة اليوم بفترة "أزمة راهنة وواضحة"، وقد تتطلب صقلاً أساسياً للجوهر الثقافي. وتمثّل رد شركة "ماكنزي"، مثل الشركات الرائدة الأخرى، في "تقبّل" الأزمة، والالتزام بهدف اجتماعي أكثر وعياً، ليس فقط لعملائها، وإنما للمجتمعات التي تعمل فيها في جميع أنحاء العالم. وأعادت من خلال ذلك النهج التأكيد على ملاحظة بكنغهام وغودال التي تُفيد بأن الثقافة هي الشعار الذي يُنير طريق شركاتنا. "فالثقافة هي سبيلنا للنجاح في المستقبل وليس في الحاضر".

ومن شبه المؤكد أن يتضمن "الوضع الطبيعي التالي" استمرار "العمل الافتراضي"، أو على الأقل "العمل الهجين". وقد يتحول ذلك إلى أكبر تغيير سلوكي في تاريخنا. لم يعد الاستمرار باتباع المعايير والقيم والمعتقدات نفسها خياراً. في الواقع، ربما نمر بمرحلة مؤقتة يشوبها الغموض اليوم، مرحلة تقوّض البنيان الاجتماعي الذي بنيناه سابقاً. ويُعتبر التصدي لذلك التحدي مهمة القيادة اليوم، وذلك من خلال إدراك وجود الثقافات الافتراضية أو الهجينة وقدرتها على تحقيق النجاح بالفعل بسبب بناء ثقافة قوية عن بُعد.

اقرأ أيضاً: طرق لحل الخلافات

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي