تواجه المؤسسات تغيرات مستمرة وحالة من عدم الاستقرار في ظل بيئة الأعمال الحالية التي تتطور بسرعة، وتشهد قدراً عالياً من التنافسية. ولهذا تبحث الشركات عن طرق جديدة لاستخدام الموارد والاستفادة منها بشكل استراتيجي لزيادة القيمة التنظيمية وتحقيق ميزة تنافسية على مستوى الشركة. ويتغير الدور الذي تؤديه الموارد البشرية في عملية خلق القيمة لدى مؤسسة ما، مع انتشار الأتمتة والذكاء الاصطناعي وتجهيز مكان العمل بالروبوتات. كما تصبح مساهمة الموارد البشرية عامل مفاضلة أكثر قيمة. وتوجد الآن حرب لاستقطاب المواهب، حيث يزداد الطلب على الموظفين الذين يتمتعون بعقلية ومجموعة من المهارات الملائمة التي تؤهلهم للنجاح في مكان العمل في هذه الأيام. فحسب دراسة أصدرها مركز ماكنزي العالمي (McKinsey Global Institute)، سيحتاج أصحاب العمل في أميركا الشمالية وأوروبا في العام 2020 إلى 18 مليون عامل من خريجي المعاهد العليا، إضافة إلى العدد الذي سيكون متاحاً في ذلك الحين.
وتكتسي قدرة المؤسسة على جذب المواهب وإشراكها واستبقائها أهمية متزايدة لضمان استمراريتها. وهذا الأمر ينطبق أيضاً على دول مجلس التعاون الخليجي، فحسب دراسة أجريت هناك على أكثر من 300 من كبار المتخصصين في الموارد البشرية، يرى 60% من القادة أن إدارة المواهب واستبقاء الموظفين هو عامل حاسم في استمرار العمل في الأعوام القادمة.
هناك نتيجة أخرى لبيئة العمل الديناميكية في يومنا هذا، وتتمثل في تغيّر مفهوم "الوظيفة". فبينما تتحول طبيعة العمل وعلاقات العمل لتأخذ شكلاً افتراضياً وتصبح أكثر مرونة اعتماداً على نظام المشروع، تتغير أيضاً نظرة الموظفين وأفكارهم حول العمل. ويوجد اعتقاد متزايد لدى الموظفين وأصحاب العمل على حد سواء بأن هناك نهاية لمفهوم "الولاء" في مكان العمل، حيث يفضل موظفو الشركات حالياً تبديل وظائفهم بدرجة أكثر تواتراً لصقل مهاراتهم أو اكتساب مهارات جديدة لضمان العمل مدى الحياة. إضافة إلى ذلك، يزداد الأمر صعوبة بالنسبة لأصحاب العمل في توفير بيئة عمل يمكن اعتبارها مستقرة وعادلة وداعمة، وهي عوامل تفضي إلى إشراك المواهب واستبقائهم. وتظهر دراسة أعدّها معهد غالوب في العام 2017 أنّ 85% من الموظفين في مكان العمل لا يشاركون في تحقيق النتائج المرجوة منهم، ما يعني أن ممارسات الموظفين الحالية غير فعالة.
ويعتبر إيجاد طرق جديدة لتعلق الأشخاص وإشراكهم في مكان العمل أمراً أساسياً لضمان قدرة المؤسسة على التنافس في السوق. والأهم من ذلك أنّ السؤال الرئيس للقيادة يصبح "كيف ننشئ قوة عاملة ملتزمة في مكان العمل الحالي الذي يوصف بأنه سريع التغير؟". يناقش المقال هذا السؤال من خلال الكشف عن نتائج جديدة لبحث نفسي يتطرق إلى العلاقة بين الموظف والمؤسسة، ويقدم نماذج عملية حول كيفية إنشاء قوة عاملة مترابطة بشكل أكبر للتعامل مع بيئة الأعمال الديناميكية الحالية.
النهج الحالية المتبعة لإشراك الموظفين واستبقائهم تفقد مكانتها
تفقد الممارسات التنظيمية (الموارد البشرية) مكانتها بعد أن كانت فعالة في جذب الموظفين وإشراكهم، وهي بحاجة إلى إعادة تقييم واختبار للحفاظ على فعاليتها في طبيعة العمل المتغيرة في يومنا هذا. وقد شكلت دراسة العلاقة النفسية بين الفرد والمؤسسة عاملاً مهماً نحو فهم كيفية تأثير رأس المال البشري على الأداء. الالتزام التنظيمي هو مفهوم نفسي يشكل أساساً لعلاقات العمل التي توجه عملية التطوير التنظيمي والمهني، كما يعتبر بمثابة آلية مركزية لإدارة الموارد البشرية من أجل زيادة إشراك الموظفين واستبقائهم. ويمكن أن تؤدي دراسة الآليات النفسية التي يقوم عليها الالتزام التنظيمي إلى تقديم نظرة متعمقة حول كيفية الربط بين الموظفين واستبقائهم بشكل أفضل في بيئة عمل سريعة التغير.
ماذا يعني الالتزام التنظيمي؟
يُعرّف الالتزام التنظيمي بأنه رابطة نفسية يشعر بها الفرد تجاه مؤسسة ما، وهو بمثابة قوة دافعة تحدد سلوك العمل. ويعتمد النموذج التقليدي لتعزيز التزام الموظف تجاه المؤسسة على علاقة تبادل اجتماعي، بحيث يحصل على الأمن الوظيفي في مقابل بذل الجهد والالتزام. ويتم ذلك من خلال تقديم مجموعة سلع تعاملية مثل الراتب والعلاوة، وأخرى اجتماعية مثل التقدير والدعم والثقة. ويحكم هذه العلاقة التبادلية شيء يُعرف باسم "العقد النفسي"، وهو يقيّم الإيفاء بالالتزامات المشتركة على نحو عادل ومتوازن. فإذا اعتبر الموظف أنّ التبادلات في العمل مناسبة، حينها سيتطور التزامه تجاه المؤسسة. وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه سعي أغلب مدراء الموارد البشرية اليوم إلى تحسين مستوى الالتزام التنظيمي وأداء الموظف.
يمكن أن يأتي الالتزام تجاه المؤسسة بأشكال مختلفة، مثل التعلق العاطفي الذي يشعر به شخص ما تجاه المؤسسة، ويعكس رغبته في العمل في الشركة. ويمكن أن يكون الالتزام تجاه المؤسسة معتمداً بطبيعته على حساباتك، أي أنك تقرر البقاء في المؤسسة نظراً لإسهاماتك السابقة في مكان العمل أو لأنك لا تمتلك خياراً لعمل بديل. وفي النهاية، يشعر الأشخاص أيضاً بالتزام أخلاقي تجاه البقاء في مؤسسة ما بناء على قيم عمل شخصية أو كوسيلة لرد الفوائد التي حصلوا عليها من الشركة (مثل التدريب).
العلاقة بين الالتزام التنظيمي وخلق القيمة
أظهرت الأبحاث على نحو متكرر أنّ الموظفين الذي يتمتعون بالتزام تنظيمي عال ويبذلون جهداً أكبر في العمل، قليلو المرض والتغيب عن العمل، وأكثر استعداداً للبقاء مع أصحاب العمل، ويساهمون بشكل إيجابي في البيئة الاجتماعية والنفسية الخاصة بالمؤسسة. لذا فإنّ امتلاك موظفين مثابرين يريدون العمل لصالح المؤسسة هو أمر أساسي لخلق القيمة وتعزيز الأداء التنظيمي.
وعلى أي حال، تزداد صعوبة ضمان علاقة عمل متوازنة قائمة على التبادلات الاجتماعية فقط نظراً لقوى السوق الديناميكية والتي تؤثر على سوق العمل وزيادة العمل عن بعد. فقد غيّرت العولمة والتأثيرات التكنولوجية المكان الذي نعمل فيه والكيفية التي نعمل بها. وبالتالي لم يعد الموظفون يتشاركون نفس مكان العمل أو الفرق أو التوقيت الزمني أو حتى نفس ظروف العمل أو عقود التوظيف. ويتطلب مكان العمل في أيامنا هذه جهداً أكبر من الموظفين للتكيف والقيام بالعمل، وهو ما يشكل ضغطاً على المؤسسات لإيجاد طرق جديدة لإشراك مواهبها واستبقائهم. توجد نهاية للولاء التنظيمي بالطريقة التي عرفناها سابقاً، وهناك حاجة لإيجاد آلية تعلق قوية بما فيه الكفاية لربط الأشخاص في بيئة عمل رقمية وسريعة التغير.
تكوين نزعة التزام أكثر ثباتاً من خلال الهوية
لقد استقصى بحثي الآليات النفسية التي يقوم عليها التعلق بالعمل من أجل اكتشاف طرق جديدة لتحسين مستوى الالتزام التنظيمي في مكان العمل في عصرنا الحالي. وقد نتج عن هذا البحث ما يؤدي إلى إنشاء نموذج اجتماعي معرفي بشأن الالتزام التنظيمي. ويستعمل هذا النموذج "الهوية الاجتماعية" كآلية تعلق رئيسة لتعزيز الالتزام التنظيمي.
وغالباً ما يشار إلى الهوية الاجتماعية داخل المؤسسات كهوية تنظيمية وهي توحي بتكوين حس من الانسجام والتعلق من خلال انتماء الشخص إلى الشركة. ويبين بحثي أن تعزيز هويات اجتماعية قوية في العمل (مثل أن يصبح الشخص عضواً في فريق وتحسين الفخر التنظيمي والانتماء لشبكة مهنية) يساعد الموظفين الأفراد على فهم هويتهم ويحفزهم على التصرف بما يحقق المصالح التنظيمية التي تعود بالرفاهية على المؤسسة. والأهم من ذلك، أنه يشجع على الالتزام في مكان العمل بطريقة مميزة، تكون أقل تأثراً بالتغيرات غير المتوازنة في العلاقة بين الموظف والمؤسسة، وقوية بما فيه الكفاية للتعامل مع بيئة العمل الديناميكية في هذه الأيام.
يستطيع الموظفون الذين يحصلون على اعتراف كبير أن يتعاملوا بشكل أفضل مع الأوضاع المتقلبة، وهم يمتلكون دافعاً ذاتياً أكبر لتحقيق الأهداف التنظيمية ويمتلكون فهماً أفضل لما يحدث داخل المؤسسة. هذا يعني أن الهوية الاجتماعية تساعد في الربط بين الأشخاص داخل المؤسسة، حتى إذا كان الموظفون لا يعملون في المكان نفسه، وتساعد في توجيه السلوك باتجاه مشترك. ولذلك تعتبر القيم الأساسية والأهداف المشتركة والشعور بأهمية الهدف والعمل المجدي أدوات تنظيمية مهمة يمكن استخدامها للربط بين الموظفين وإشراكهم.
ويعتبر التعلق من خلال الهوية شديد المرونة، حيث يشكل هوية الموظف (تصنيف الذات) ويحدد المواقف والسلوكيات التي تنسجم مع المؤسسة أو الفريق. ويمكن للنموذج الاجتماعي المعرفي بشأن الالتزام، الذي يقوم على التبادل الاجتماعي والهوية الاجتماعية، أن يقوم بربط وإشراك الموظفين الذين يعملون بموجب اتفاقيات عمل مرنة وقصيرة الأجل، وفي أطر عمل افتراضية أو عن بعد، وضمن فرق متعددة الثقافات. وأسمي هذا النموذج الجديد من الالتزام باسم "نموذج الربط بين الموظفين" (Employee Connect Model) ويمكن اختصاره بـ (ECM).
كيف يمكن استخدام الهوية في العمل لبناء قوة عاملة متعلقة ومثابرة؟
يقدم هذا البحث نهجاً وأدوات فعالة حول كيفية إشراك الموظفين والربط فيما بينهم في مكان العمل. تتبّع فيما يلي بعض الأمثلة العملية لكيفية تعزيز الالتزام في مكان العمل وزيادة إشراك الموظفين من خلال نموذج الربط بين الموظفين.
القيم التنظيمية
تحتل القيم أهمية عظيمة لدى المؤسسات كما هو الحال بالنسبة للبشر. فهي التمثيل المعرفي لاحتياجاتنا وأفكارنا والتي تؤثر إلى حد كبير بسلوكياتنا الفردية وأحكامنا وعمليات اتخاذ القرار لدينا. وغالباً ما يشار إلى الثقافة والقيم التنظيمية على أنها الصمغ الذي يُبقي الأشخاص معاً ويجب أن تنعكس في جميع جوانب المؤسسة، مثل السياسات والإجراءات ونظام المكافآت والقصص والتوجه نحو تلبية طلبات الزبائن. ويعتبر تعزيز القيم في العمل طريقة فعالة تعمل على تعلق الموظفين وتساعد في خلق هدف لمكان العمل. ويؤدي القادة والمدراء دوراً بالغ الأهمية في تطبيق القيم التنظيمية وتيسير انسجامها على نطاق المؤسسة ككل.
قيادة الهوية
تساعد قيادة الهوية على ربط الموظفين بالقيم الأساسية ورؤية الشركة والمعايير التنظيمية وعلامة الشركة وسمعتها. وتمثل قيادة الهوية بشكل خاص استخدام تشكيل الهوية وتحسين الاستراتيجيات في مكان العمل من أجل تحفيز فهم العمل والسلوكيات المتبعة هناك ليعود ذلك بالنفع على المؤسسة، وهو ما يمنح الفرد والفرق إحساساً بالانتماء ووضوح الهدف. لذلك يعتبر تطبيق استراتيجيات قائمة على الهوية في العمل طريقة فعالة يستخدمها القادة للربط بين الموظفين وإشراكهم لتحقيق غاية أو هدف مشترك، بما يسمح للهويات الفردية بالازدهار. ويساعد ذلك الموظفين على فهم السبب وراء عملهم وكيف ينسجم عملهم في رسم الصورة الكبيرة، ما يدعم العمل الهادف ويعزز التعلق والأداء.
ويحتاج القادة إلى التركيز أيضاً على فهم الهوية على مستوى الفرد، إلى جانب تطوير الاستراتيجيات القائمة على الهوية على مستوى المؤسسة والفريق. وبالتالي، فلا بد لهم من تطوير إحساس قوي بالذات لتعزيز الهويات الفردية والجماعية في العمل. لذا من المهم أن يقوم القادة والمدراء التنظيميون بتطوير مستوى عال من الوعي الذاتي وفهم قيمهم الخاصة قبل تطبيق نهج تشكيل الشخصية وتحسينها داخل المؤسسة وخارجها. وتعتبر قدرتك على تحقيق الترابط والانسجام مع المرؤوسين على المستوى المعرفي أمراً بالغ الأهمية لتعزيز الهوية وتحفيز الأشخاص في العمل. بعبارة أخرى، على القادة تطوير مهارات سلوكية ونفسية لقيادة الذات والمؤسسات في بيئة سريعة التغير.
الأدوار الوظيفية
يمتلك الجميع هويات متعددة. وتؤثر الهويات المختلفة التي نظهرها على مدار اليوم (على سبيل المثال: أب وقائد فريق وريادي أعمال ومناصر لحماية البيئة ومتدين) بطرق مختلفة على تفكيرنا وسلوكنا. وهذا الأمر ينطبق أيضاً على العمل. إذ يمكن أن تؤدي هويات العمل المتغيرة إلى مواقف وسلوكيات مختلفة في العمل. على سبيل المثال: يمكن أن يطلق عليك اسم "معلّم" بدلاً من "قهوجي" بحيث يساعدك ذلك على تمييز المحترفين في إعداد القهوة من غيرهم، الأمر الذي يؤثر بشكل كبير في شعورك أثناء العمل وطريقة تعاملك مع الزبائن، وحتى أنه يؤثر في زملائك، ما يؤدي إلى خلق سلوكيات معززة ووقائية في المجموعة (على عكس ما هو الحال خارج المجموعة). إنّ تحفيز هويات فردية وجماعية داخل العمل يمكن أن يساعد في تعزيز نظرة "نحن" تجاه العمل، وهو ما من شأنه تطوير البيئة الاجتماعية والنفسية للمؤسسة وتحسين الأداء ورفاهية الموظفين. ويبين بحثي أنّ الهويات الاجتماعية القوية في مكان العمل تحفز الموظفين لتقديم أهداف الجماعة على أهدافهم الشخصية، بما يعكس التضحيات الشخصية التي يقوم بها الموظف للمساهمة في رفاه الفريق أو المؤسسة.
الدمج التنظيمي
تظهر نتائج البحث أيضاً أن الاهتمام الإضافي تجاه خبرات الموظف عند شروعه في وظيفة جديدة أو تغيير منصبه يمكن أن يكون له آثار إيجابية طويلة الأمد على الأداء التنظيمي. وقد يتسبب دخول بيئة جديدة أو تحمل مسؤوليات جديدة بمشاعر من الريبة، تحفز معرفة عملية تراعي العوامل القائمة على التبادل الاجتماعي والهوية الاجتماعية. ويعني ذلك أن خبرات العمل المتكونة (مثل دمج موظفين جدد) يجب أن يتم تصميمها بعناية إذا كان لها دور رئيس في تطوير علاقات نفسية قوية من شأنها تعزيز التعلق والمشاركة.
يعمل نموذج ربط الموظفين على مساعدة القادة والمدراء (مدراء الموارد البشرية) التنظيميين على جذب المواهب وإشراكها واستبقائها بفعالية. وبالنسبة للأعمال، يتطلب إنشاء قوى عاملة ملتزمة في بيئة متغيرة ذات طابع رقمي في يومنا هذا، تطوير عقد اجتماعي جديد لا يحتوي فقط على الراتب والعلاوات، إنما يوفر أيضاً الفخر والهدف والبراعة والإحساس بالانتماء. ستنعم المؤسسات التي تقوم بتطوير الالتزام بكفاءة في مكان العمل باستخدام كل من العوامل القائمة على التبادل الاجتماعي والعوامل القائمة على الهوية الاجتماعية، بمكانة أفضل تمكنها من تحسين الأداء على نحو استراتيجي من خلال الأشخاص. وهذا لا يساهم في عملية خلق القيمة وكفاءة المؤسسة فحسب، بل يساعد أيضاً على تحقيق ميزة تنافسية على مستوى الشركة.