يتعين على القادة على جميع المستويات في مؤسسات القطاعين العام والخاص أن يراعوا ظروف الأفراد واحتياجاتهم أكثر من أي وقت مضى، لمساعدتهم على التعامل مع التحديات الجسيمة التي يفرضها الاقتصاد الهش والاضطرابات الاجتماعية. في معظم الحالات لا يرجع فشل التفاعلات في مكان العمل إلى النوايا السيئة، بل إلى عدم وعي القادة بتأثير سلوكياتهم في أفراد المؤسسة، سواء كنا نتحدث عن فريق مشروع أو وحدة عمل أو شركة كبيرة، وتحلي القيادة بالوعي الذاتي مهم جداً في خضم هذه الاضطرابات.
لكن العديد من المؤسسات يفتقر إلى نهج منظم للنظر في الخيارات المتاحة من أجل زيادة الوعي الذاتي لقادتها، فهل من الأفضل تعيين مدرب لتدريب فريق الإدارة أم إرسال الفريق بأكمله لحضور برنامج قائم على التعلم التجريبي؟ نقدم فيما يلي 4 خيارات أساسية تساعد الشركات على اختيار النهج الأمثل لموقف معين.
لماذا يصعب بناء الوعي الذاتي؟
يحكم الإنسان على نفسه عادة من خلال نواياه لا أثر أفعاله، ولذلك نجد أن الأفراد الذين يشغلون مناصب مؤثرة لا يعرفون كيف ينظر الآخرون إلى سلوكياتهم، وقد وثّق علماء الاجتماع منذ فترة طويلة كيف يمكن أن يحول إغفال هذا الجانب دون خوض محادثات بناءة. وفقاً لمعهد أربينجر (Arbinger Institute) يميل الإنسان إلى خداع ذاته، ويقول الباحث الرائد في مجال التعلم التنظيمي كريس أرغيريس، إن الإنسان يميل أيضاً إلى اتباع منطق دفاعي.
يرى الإنسان بصورة فطرية أن قدراته هي المسؤولة عن نجاحاته وأن العوامل الخارجية هي سبب إخفاقاته، وهذا الاتجاه المعروف باسم انحياز محاباة الذات (Self Serving Bias) يحمي كبرياء الفرد ولكنه يمنعه من تقبل الملاحظات البناءة. ويفاقم هذه المشكلة ما يسمى تأثير دانينغ كروغر (Dunning-Kruger Effect): وهو ميل الشخص الذي يفتقر إلى القدرة والمعرفة اللازمتين لأداء مهمة معينة إلى المبالغة في تقدير قدرته على أدائها.
إذا كانت هذه السلوكيات فطرية، فهل يعني هذا أن علينا الاستسلام لها؟ لا، فهناك مجموعة من الخيارات المتاحة للقادة لتطوير الوعي الذاتي. ولكن هل ينبغي للمرء أن يستعين بمدرب أم أن يحضر برنامجاً خارج نطاق العمل يعزز اكتشاف الذات من خلال التمارين الجماعية؟ تتطلب الإجابة عن السؤال مفاضلة بين الأساليب القائمة على المناقشة والأساليب التجريبية، وبين أساليب التدريب الفردي وأساليب التدريب الجماعي.
يرتبط أحد المتغيرات بنوع التعلم. سواء كان قائد فرد أو فريق كامل يخضع إلى برنامج التعلم، يمكن استخدام التعلم التجريبي لاكتساب رؤى شخصية مهمة من خلال تجارب تفاعلية عاطفية تعزز اكتشاف الذات اعتماداً على عنصر المفاجأة. يتوقع المتعلم أن ينجح في تحدٍ ما لكنه يدرك أنه تجاهل معلومات بالغة الأهمية على الرغم من أنها كانت متاحة بسهولة، فينبهه ذلك الأمر ويلفت انتباهه. لكن التعلم التجريبي يمكن أن يستغرق وقتا طويلاً ويكون مكلفاً، لأنه المتعلم يتلقاه خارج سياق العمل. على النقيض من ذلك، فإن الأسلوب القائم على المناقشة، مثل تلقي الفرد أو الفريق ملاحظات صريحة ومباشرة من مدرب تنفيذي، هو أسلوب أبسط وأكثر مرونة، على الرغم من أن التفاعل العاطفي فيه قد يكون أقل.
القرار الرئيسي الآخر هو تحديد إذا كان التدخل يجب أن يستهدف فريقاً كاملاً أو قائداً فرداً، ويعتمد ذلك على الهدف الأساسي: تطوير الفريق بوصفه وحدة أداء، مثل فريق القيادة أو فريق المشروع، أو مساعدة قائد بمفرده. وثمة العديد من القيود التي يمكن أن تؤثر في تنظيم مشاركة الفريق في جلسات تطوير القدرات القيادية، مثل العمليات اللوجستية أو توفر الوقت أومدى سهولة الحضور أو التكلفة. بعد اتخاذ هذين القرارين تظهر 4 خيارات يساعد كل منها القادة الجدد وأصحاب الخبرة على حد سواء على إدراك الجوانب التي يغفلون عنها؛ يتضمن خياران منها مناقشات تجري في سياق أنشطة العمل الفعلية، في حين يتضمن الخياران الآخران جلسات غير مرتبطة بأنشطة العمل مصممة لتحفيز الرؤى والوعي الذاتي من خلال تجارب جديدة.
1. المشاركة في تمرين محاكاة العمل الجماعي
هناك عدة أنشطة تسمح بمحاكاة العمل الجماعي، مثل ألعاب الحبال في الهواء الطلق التي يعيش المشاركون فيها تجربة عميقة يفهمون من خلالها شعور الثقة المتبادلة عند العمل على مهمة صعبة، أو تمارين صنع القرارات المتعددة الجولات التي تشارك فيها الفرق الثابتة. لنأخذ مثلاً برنامج إيفرست لمحاكاة عملية صنع القرار الجماعية التابع لجامعة هارفارد، إذ تزود الفرق بسلسلة من القرارات يدرك المشاركون لاحقاً أنها تضمنت معلومات بالغة الأهمية لم يتبادلها أعضاء الفريق. يتطلب بعض التمارين من أعضاء الفريق العمل معاً بفعالية للتعامل مع مواقف تهدد حياتهم، مثل تمارين "التائهون في البحر" (Lost at Sea) وتمارين "النجاة على سطح القمر" (Survival on the Moon) التابعة لوكالة ناسا، وهي تمارين تساعد على إرساء معايير المناقشة البناءة والتعاون وصنع القرار داخل مجموعة عمل جديدة أو تعريف أفرادها بقيمة التآزر. الهدف في كل حالة هو اكتشاف ممارسات محددة في إطار زمني قصير لاستخدامها في مساعدة الفرق على العمل بأسلوب أكثر فعالية.
لقد شهد كلانا فعالية الاكتشاف الشخصي خلال العمل مع الفرق للفوز في ألعاب الحبال؛ فقد تدرب آرون مع قوات مشاة البحرية الأميركية وتعلم كيف يحافظ على هدوئه ويوجه أعضاء الفريق الآخرين الذين أصيبوا بالتوتر حينما كانوا يسيرون على الحبال على ارتفاع 5 إلى 6 أمتار، على الرغم من وجود شبكات الأمان في الأسفل، ودرست إيمي فرق الإدارة المشاركة في ألعاب الحبال، ورأت أن هذه الفرق اكتسبت رؤية عميقة حول حل المشكلات بطريقة بناءة خلال خوض تحدٍ غير مألوف، قال أحد المشاركين: "إذا تمكنا من تطبيق طريقة حل المشكلات هذه في العمل فسيصبح أداء فريقنا رائعاً".
2. تعيين ميسّر ماهر لمساعدة الفريق
يمكن لأصحاب الخبرة الرائدين في مجالات عملهم مساعدة أفراد الفرق القيادية الثابتة في تطوير قدرتهم على معالجة القرارات الصعبة والمحادثات الشائكة بفعالية، بالتزامن مع أداء مهامهم العادية. يتمثل دور المستشار في تحديد التفاعلات غير البناءة والتدخل لحمل المشاركين على معالجتها فوراً، وتركز الملاحظات على تحديد مدى ميل الأفراد إلى اقتراح اتجاهات أو إجراءات جديدة، أو الاتفاق مع أفكار الآخرين والبناء عليها، أو الاختلاف مع الأفكار ومعارضتها. تنطوي محادثات الفريق الصحية على مزيج من هذه السلوكيات، وإذا خرجت محادثة ما عن السيطرة فتريث وراقب التفاعلات بين أفراد الفريق وعلق عليها. يتطلب هذا العمل جهداً فكرياً وعاطفياً، ولكنه يحقق نتائج فعالة عندما يؤخذ على محمل الجد ويطبق في سياق المشاركة في أنشطة العمل الفعلية.
3. الاستعانة بمدرب
ثمة محاضرة للجراح والكاتب والمبتكر في مجال الصحة العامة، أتول غواندي، في مؤتمر تيد 2017 بعنوان "هل تريد التميز في مجال ما؟ استعن بمدرب" (Want to get great at something? Get a coach)، وهي تضع معايير هذا الأسلوب. نحن جميعاً معرضون للفشل في محاولتنا النجاح بمفردنا، والأهم هو أننا في كثير من الأحيان لا ندرك العوائق التي نضعها بأنفسنا في طريقنا، وإن أدركناها فلا نعرف كيف نزيلها. تروي لنا فرانسيسكا جينو في هذا المقال المنشور بمجلة هارفارد بزنس ريفيو، كيف يساعد أحد المدربين الرئيسيين في شركة بيكسار، جيمي وولف، زملاءه في الفريق على توسيع نطاق تفكيرهم لاكتشاف الحواجز التي يضعونها أمام أنفسهم والعمل على معالجتها.
4. حضور جلسات في مختبر تطوير مهارات التعامل مع الآخرين
أنشأ جيم ديتيرت وبوبي بارمار مختبر تطوير مهارات التعامل مع الآخرين (ISL) التابع لكلية داردن للأعمال بجامعة فيرجينيا لإشراك الأفراد في سيناريوهات اتخاذ قرارات واقعية صعبة جنباً إلى جنب مع ممثلين، ثم تقديم ملاحظات موضوعية من خلال مقاطع الفيديو والبيانات الفيزيولوجية. يواجه المشاركون صعوبة وحالة من عدم اليقين عمداً خلال خوضهم تجربة القيادة، ويرى ديتيرت أن المختبر يشرك الطلاب، من الشباب أو ذوي الخبرة، في جلسة اكتشاف عميقة. يذكر المشاركون أنهم شاهدوا أنفسهم في مقاطع الفيديو وواجهوا أخطاءهم بصورة مباشرة بعد أن فوجئوا بها جداً، قال أحد المشاركين متعجباً: "شاهدت نفسي في مقطع الفيديو المسجل لي أول مرة منذ بضع دقائق وولد لدي رد فعل يختلف عن رد فعلي وأنا أشاهده الآن مرة أخرى، أنا أدرك الآن كم كنت مخطئاً". يعرّض الباحثون المشاركين في التجربة إلى ضغط شديد عمداً ثم يقدمون لهم التدريب؛ فسرعة اكتشاف المشاركين أخطاءهم وتوفر الفرصة ليجربوا أساليب جديدة يؤديان إلى تعزيز وعيهم الذاتي وتطوير مهاراتهم.
من خلال المفاضلة بين البرامج القائمة على المناقشة والبرامج التجريبية وبين التدريب الفردي والتدريب الجماعي، يمكن للمدراء اختيار الأسلوب الأمثل لأنفسهم أو لفرق القيادة. ومن خلال تقليل الجوانب المبهمة التي يغفل عنها القادة، ستتمكن الشركات من زيادة قدرتها على النجاح في عالم قائم على العلاقات المترابطة ويسوده عدم اليقين.