ملخص: تجمع الهند بين ضدين متناقضين، فهي من ناحية تمتلك أحدث ما توصلت إليه التقنيات الرقمية في القرن الحادي والعشرين، ولكنها تعيش من ناحية أخرى كل مشاكل القرن التاسع عشر كعدم وصول خدمات الكهرباء والصرف الصحي والرعاية الصحية والصيرفة لقطاعات كبيرة من مواطنيها، ومن ثم فقد استعانت بعض الشركات بالتقنيات التكنولوجية للتعامل مع هذه التحديات. سنتناول بين ثنايا هذا المقال بعض الأمثلة، ونقدم بعض النصائح في هذا الخصوص.
كنت أقف قبل عامين على رصيف محطة القطار في نيودلهي، ورأيتُ عدداً من الرجال يشاهدون مباراة كريكيت مهمة بين فريقي مومباي ودلهي على شاشات هواتفهم الذكية، وكانت الصورة غاية في النقاء والوضوح.
كانت جودة خدمة البث المباشر لا تقل بحال من الأحوال عن تلك التي أستقبلها في منزلي في مدينة أوستن بولاية تكساس، في الولايات المتحدة، وإن كان المشهد العام يوحي في بعض جوانبه بأننا لا نزال نعيش في القرن التاسع عشر، فقد كانت الأجواء مكفهرة بالغبار ودرجة الحرارة مرتفعة، وكان عدد الركاب الذين ينتظرون قطاراتهم أكبر بكثير من عدد المقاعد المتاحة للجلوس، وكان من المستحيل تجاهل كل الروائح التي تنتشر في الأماكن العامة في الهند.
يخلق هذا التجاذب بين تحديات القرن التاسع عشر وفرص القرن الحادي والعشرين تفاعلات مثيرة للاهتمام لما يقرب من 86% من المستهلكين على مستوى العالم الذين يعيشون في الدول النامية والشركات التي تقوم على خدمتهم، حيث لم تدخل خدمات الصرف الصحي أو الكهرباء إلى منازل الغالبية العظمى من الهنود، ولا يستطيع الكثير من المواطنين الحصول على خدمات الرعاية الصحية أو التعليمية بجودة عالية، خاصة في القرى والمناطق الريفية، ولكن بمقدور التقنيات الرقمية والتكنولوجيا الحديثة التصدي للكثير من هذه التحديات.
شغلني التفكير في هذه المسألة عام 2017 وأنا أشاهد إعلانات فيلم "دورة مياه: قصة حب" (Toilet, a Love Story). هذا الفيلم مقتبس من قصة حقيقية لامرأة هندية رفضت العيش مع زوجها الجديد لأنه لم يكن لديه مرحاض في منزله، ولقي صدى واسعاً في جميع أنحاء الهند، إذ لا يزال ما يقرب من نصف سكان البلاد يتغوطون في العراء، وفقاً لإحصاءات منظمة اليونيسيف، لذا وعد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بإنشاء 100 مليون دورة مياه جديدة في مختلف أنحاء البلاد في إطار حملة "سواش بهارات" (Swachh Bharat)، أو الهند النظيفة، للمساعدة في تحسين خدمات الصرف الصحي والحد من حوادث التحرش ضد المرأة، وتم تخصيص تطبيق على الهاتف الجوال يمكن للمقيمين في الهند استخدامه للعثور على أقرب مرحاض عملاً بإرشادات اللوحات الإعلانية التي تقول: "إذا نادتك الطبيعة، فاستخدم هاتفك!" وهكذا استطاعت الحكومة توفير دورات مياه لأكثر من 600 مليون مواطن في غضون خمس سنوات، وفقاً لما جاء في تصريحات مودي، على الرغم من استمرار بعض العادات السيئة والقضايا المستعصية على الحل مع إدارة البرنامج.
وتستخدم أنجح شركات السلع الاستهلاكية في الهند التقنيات الرقمية للتواصل مع ملايين المستهلكين في المناطق الريفية وتوسيع رقعة الأسواق من خلال تحسين الفرص الاقتصادية وتحسين نتائج الصحة والرفاهة. ولك أن تنظر إلى صعود شركة "ريلاينس جيو" (Reliance Jio)، وهي شركة اتصالات تأسست عام 2016 من قبل موكيش أمباني أغنى مواطن في الهند، فقد نجحت شركته في تكوين قاعدة ضخمة من المشتركين في أقل من عامين، وذلك من خلال توفير هواتف منخفضة التكلفة وإتاحة تشغيل بيانات الاتصال بتقنية الجيل الرابع مجاناً للمستهلكين خلال الأشهر السبعة الأولى، واستعدت الشركة لتغيير وجه الأسواق الهندية بمختلف أنواعها، لدرجة أن قيمتها قُدّرت بنحو 65 مليار دولار، وحصلت شركات عدة، مثل "فيسبوك"، على حصة فيها.
ومن هنا، يجب على شركات السلع الاستهلاكية استيعاب الفرص والتحديات التي يفرضها هذا التداخل وذلك لتعلم كيفية الحصول على عملاء جدد.
يمكن للمشاريع الصغيرة والمتوسطة ورواد الأعمال الوصول إلى عملاء جدد وأسواق جديدة
يوضح نجاح منصة "إنديا مارت" (IndiaMART) للتجارة الإلكترونية في الهند كيف يمكن للشركات زيادة فرصها في السوق من خلال ربط الشركات المحلية والمستهلكين بالعالم الخارجي. وتسهل التقنيات الرقمية هذه التفاعلات على المستوى الكلي والمستوىالجزئي، ما يتيح الفرصة للوصول إلى عموم الناس والتسويق كذلك لنوعية محددة من الجماهير، فهي تلبي في بعض الحالات احتياجات المستهلكين المتعلمين في المناطق الحضرية: فرئيس الوزراء ناريندرا مودي، مثلاً، يحب فطر "غوتشي" الذي توفره "إنديا مارت"، لكن الموقع الإلكتروني للمنصة يساعد أيضاً المستهلكين في المناطق الريفية، وقد لاحظت خلال زيارتي لمقر الشركة أن عشرات الأشخاص يبيعون مخلفات البقر لاستخدامه في الزراعة العضوية.
ويمكن أن يؤدي تسهيل الربط بين البائعين والمشترين إلى تعزيز الرخاء والقدرة الشرائية للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، ولكنه مفيد أيضاً لشركة "إنديا مارت" التي نجحت في تحقيق نمو متسارع وطرحت مؤخراً أسهمها للاكتتاب العام الأولي.
يمكن تحديث الأسواق
أتاحت التقنيات الرقمية للشركات المبتكرة إمكانية مزج التفاعلات عبر الإنترنت وفي وضع عدم الاتصال (بالإنترنت) بطرق تسمح لها بالوصول إلى المستهلكين الأقل ثراء أو الذين يعيشون خارج الأسواق الحضرية، ومن المتوقع إلى حد كبير أن تتخطى تجارة التجزئة الهندية مرحلة مراكز التسوق الضخمة ومرحلة متاجر التجزئة الكبرى، وتقفز بدلاً من ذلك إلى المبيعات الرقمية (على الرغم من استمرار وجود تفاعلات شخصية وشبه شخصية).
وقد ازدهرت الأسواق الإلكترونية مثل "فليبكارت" (Flipkart) و"غروفرز" (Grofers) والآن "جيومارت" (JioMart)، مع وجود مساحة كبيرة للنمو، وذلك بفضل الانتشار السريع للمحافظ الرقمية ومنصات الدفع الإلكتروني. وتتوقع مؤسسة "فورستر ريسيرتش إنك" (.Forrester Research Inc) للأبحاث، وفقاً لتقرير "صحيفة وول ستريت جورنال" أن تزيد مبيعات التجارة الإلكترونية الهندية بأكثر من الضعف لتصل إلى 68.4 مليار دولار عام 2022 بعد أن كانت لا تتجاوز 26.9 مليار دولار عام 2018.
ولا تقتصر هذه الظاهرة على الطبقات الحضرية الثرية، بل تعمل التقنيات الرقمية على تعزيز رفاهية المستهلكين الريفيين والأقل ثراء، وهو ما لاحظته عام 2018 في أثناء إجراء مقابلات في مدينة غورغاون، فقد تحدثت مع مدراء "أوبر" الذين أوضحوا لي كيف أخذ العمال الريفيون يتدفقون إلى المراكز الحضرية لكسب المال من عملهم سائقين، ثم انتقلت إلى مناقشة معمقة مع المؤسس المشارك لشركة "إيكو فايننشال" (Eko Financial) الذي تحدث عن نظامهم الأساسي وكيف أنه مكّن هؤلاء السائقين أنفسهم من تحويل الأموال إلى أسرهم في قراهم بسلاسة وفي الوقت الحقيقي تقريباً، ثم تحدثت مع أحد مسؤولي متجر صغير في موقع مشروع "دي إل إف فيز 3" (DLF Phase 3) بغورغاون في إحدى ضواحي نيودلهي، حيث كان يهتم بأمر السائقين وعمال التوصيل وغيرهم ممن يرسلون الأموال بانتظام إلى قراهم الأصلية عبر منصة "إيكو".
تأسست "إيكو" عام 2007 لخدمة المهاجرين إلى المناطق الحضرية والذين يعملون بصورة غير رسمية، ولأن العملاء أصبحوا أكثر دراية بالمدفوعات الرقمية، فقد استخدموا "إيكو" أيضاً لتسديد مدفوعات المرافق أو لشحن خطوط هواتفهم الجوالة، وكانت "إيكو" قبل الجائحة المنصة الوحيدة المختصة بمعالجة التحويلات المحلية بقيمة بلغت حوالي 330 مليون دولار شهرياً.
حاول تطويع تقنيتك بما يلائم ظروف السوق، وليس العكس
يكمن سر النجاح في هذا السياق في تخصيص التكنولوجيا وتطويعها بما يلائم ظروف السوق المحلية، وليس انتظار السوق حتى تتكيف مع التكنولوجيا.
فقد يكون الحفاظ على فاعلية سلسلة التوريدات أمراً غاية في الصعوبة في الدول النامية، إذ يجب على الشركات تحديث الخدمات اللوجستية، ولكن بطريقة تلائم الحقائق على أرض الواقع. خذ على سبيل المثال قصة شركة "ريفيغو" (Rivigo) المتخصصة في النقل بالشاحنات والتي يقع مقرها في غورغاون، فقد غيرت "ريفيغو" أسلوب النقل والتوصيل بالشاحنات في الهند، حيث قامت بتعديل كل من الأنظمة الرقمية والهياكل المادية لشاحناتها بغرض تحسين كفاءة "سائقيها" وجودة حياتهم.
كانت سوق الهند في الماضي تفتقر إلى النظام وكانت بنيتها التحتية مهترئة، وهو ما كان يضطر سائقي الشاحنات إلى مغادرة منازلهم لفترات طويلة من الزمن، فلم يكن يستطيع السائقون ترك الشاحنات، نظراً لصعوبة فصل مقصورات السائقين عن المقطورات في معظم الشاحنات في البلاد، وكانوا يضطرون إلى ربطها بحمولة شاحناتهم، ولم يكن بوسعهم ترك أي من مقطوراتهم لسائق آخر ليأخذها في طريقه إلى المحطة التالية. أدخلت "ريفيغو" تغييراً جذرياً على هذا النظام بعد أن ابتكرت ما أسمته "التسليم على مراحل كخدمة" الذي يسمح لسائقي الشاحنات بتسليم المقطورات من مركز إلى آخر، وهو ما يسمح لهم بالبقاء بالقرب من منازلهم وقضاء المزيد من الوقت مع الأسرة، والسماح للشركة بالاحتفاظ بآلاف الشاحنات على خطوط السير.
وهكذا، حققت الشركة نجاحاً كبيراً مع السائقين، وغدت محط أنظار العملاء من خلال رفع مستوى الكفاءة وتقليل وقت توصيل الطلبات، وقد فعلت ذلك عن طريق تحويل كل شاحنة إلى شبكة لإنترنت الأشياء، حيث تغطي الشركة الشاحنات والمقطورات بمجموعة من أجهزة الاستشعار الذكية التي تتفاعل باستمرار مع شبكة الخدمات اللوجستية سريعة الاستجابة في الوقت الحقيقي، فتنبه الإطارات "الذكية" السائقين، على سبيل المثال، إلى مشاكل ضغط الإطارات وقياس الحمل العمودي ودرجة الحرارة، وبات بمقدور شركات النقل بالشاحنات وأساطيل النقل استخدام البيانات للتعرف على أي إصلاحات قد تحتاج إليها والاحتفاظ بسجلات الإنتاج والتسليم الخاصة بها وتقليل مدة توقف السائقين عن العمل، ويمتلك السائقون، في الوقت نفسه، تطبيقاً يمكنهم استخدامه لتتبع الرحلات والبقاء على اتصال مع مدرائهم والوصول في المواعيد المحددة، وأخيراً، تتعقب الشركة ما يقرب من 200 نقطة بيانات، وكلها تعمل كمقاييس لأداء السائقين، ونجحت "ريفيغو" في تقليل وقت التنفيذ بنسبة 50% إلى 70% وخفضت التكاليف التي يتكبدها العملاء بشكل كبير في قطاعات التجارة الإلكترونية والأدوية والسيارات وسلسلة التبريد والسلع الاستهلاكية سريعة التداول.
اعمل على تمكين عملائك
أدت البنية التحتية المنقوصة، إلى جانب ضعف القدرات والمهارات الرقمية، إلى نقص البيانات في الأسواق الناشئة مقارنة بتلك المتوافرة في أسواق الدول المتقدمة. وقد تشكل اللغة والأمية أيضاً عقبتين رئيسيتين أمام المنصات الرقمية، خاصة في الهند التي يتحدث سكانها 22 لغة "معترفاً بها رسمياً" بالإضافة إلى 99 لغة أخرى وآلاف اللهجات المحلية المختلفة.
يجب على الشركات التأقلم مع هذا الواقع، والشركات التي يقدّر لها النجاح في هذا المسعى ستستطيع إيجاد الطرق المناسبة لتمكين عملائها، وقد أرادت شركة "سوشيال كوبس" (SocialCops) عند تأسيسها عام 2012 الاستفادة من ثورة البيانات الضخمة في التصدي للتحديات التي تؤثر على رفاهة مليارات الأشخاص الذين لا يمتلكون وجوداً قوياً في عالم التقنيات الرقمية.
وتعتبر مبادرة "برادهان مانتري أوجوالا يوجانا" (Pradhan Mantri Ujjwala Yojana) أحد أكثر برامج الشركة تميزاً، وهي مبادرة انطلقت في مايو/أيار 2016 لاستبدال مواقد الطبخ التقليدية أو ما تعرف بـ "التشولهاس" (Chulhas)، وهي عبارة عن مواقد تقليدية مصنوعة من الطين تستعمل حرق الأخشاب أو الفحم أو الفضلات العضوية أو غيرها من أنواع الوقود الملوثة. وتقدّر منظمة الصحة العالمية أن وقود الطهي غير النظيف يؤدي إلى نصف مليون حالة وفاة سنوياً، معظمهم من النساء اللاتي يستنشقن ما يعادل دخان 400 سيجارة في الساعة عند الطهي في المنزل. ولا يستطيع ما يقرب من نصف الأسر الهندية الحصول على الوقود النظيف، لذلك فإن برنامج "أوجوالا يوجانا"، المقام بالشراكة بين شركة "سوشيال كوبس" و"وزارة البترول والغاز الطبيعي" وشركات تسويق النفط الثلاث في البلاد، يهدف إلى توفير الغاز المسال مجاناً للأسر التي تعيش تحت خط الفقر.
كان على المسؤولين التأكد أولاً من قدرة أكبر عدد ممكن من المواطنين على الوصول إلى مركز توزيع الغاز المسال لإنجاح البرنامج، وعلى هذا الأساس، حللت "سوشيال كوبس" أكثر من 6 ملايين نقطة بيانات لتحديد أفضل المواقع لإنشاء 10,000 مركز جديد، حيث حللوا مجموعات القرى للتعرف على أفضل المواقع، ثم أنشأوا منصة توضيحية تسمح للمسؤولين باتخاذ قرارات فاعلة، ثم شرعوا في فهم آليات التنفيذ العملي على أرض الواقع مع المستخدمين. أسفرت هذه الجهود عن أكثر من 100 مليون تطبيق وفرت بيانات تفصيلية بما يكفي للسماح للمسؤولين بالتمييز بين الأساليب الناجحة وغير الناجحة، فقد لاحظت الوزارة في مرحلة ما، على سبيل المثال، أن النساء لاقين رفضاً بنسب كبيرة من قبل الموزعين لعدم امتلاكهن حسابات مصرفية، لذا، عمل المسؤولون على التنسيق مع مبادرة حكومية أخرى لزيادة فرص الحصول على الخدمات المالية والقضاء فعلياً على حالات الرفض بسبب عدم امتلاك حسابات مصرفية، وهي خطوة استطاعت في حد ذاتها تمكين عشرات الآلاف من النساء الهنديات خلال العقد الماضي.
ونجحت لوحة المعلومات المملوكة لشركة "سوشيال كوبس" ضمان قدر أكبر من الشفافية لمسؤولي الحكومات والشركات عبر ستة مستويات من التراتبية الهرمية، بداية من المقرات الحكومية في دلهي، وصولاً إلى المواطنين في القرى الصغيرة، حيث يستطيع وزراء الحكومة إلقاء نظرة على مستوى القرية ومعرفة مكان توافر البرنامج ومدى جودة تشغيله وكيفية تحسينه. وقد أسهم هذا المستوى غير المسبوق من الشفافية والرؤية في ربط البرنامج بأكثر من 22 مليون امرأة في العام الأول، ووصل هذا العدد إلى 40 مليون امرأة في عامه الثاني، فرفعوا هدفهم من 50 مليوناً إلى 80 مليون امرأة. ويتضمن البرنامج الآن أكثر من 72 مليون مشترك، وفقاً لموقع "سوشيال كوبس".
تستطيع الشركات بقليل من الإبداع الحصول على عملاء جدد وتمكين المستهلكين المحرومين من تحقيق مكاسب كبيرة باستخدام التقنيات الرقمية والتكنولوجيا، ومن ثم توفير حياة كريمة لهم.
اقرأ أيضاً: ما هي أنواع الشركات؟