كان عمري 11 عاماً عندما وصلنا أنا ووالدتي إلى "مطار جون إف كينيدي الدولي (جيه إف كيه)" من غيانا، وكل ما نملك 34 دولاراً. وقفنا أمام آلة ضخمة لم نرَ مثلها من قبل ونفكر فيها كيفية الدخول والخروج منها. بعدها علمت أن تلك الآلة اسمها "الدرج كهربائي". كان أمراً لا يمكن تصوره في تلك اللحظة عندما كنت أنظر من أسفل الدرج أنني سأدير يوماً شركة تقنية. بمرور الوقت، أصبحت مواطناً أميركياً، وحصلت على شهادات جامعية من "ستانفورد" وعملت في "آي بي إم" (IBM) و"هيوليت-باكارد" (آتش بي). واليوم أنا الرئيس التنفيذي لشركة "كاربونايت" (Carbonite)، وهي شركة لحماية البيانات أسهمها مطروحة للتداول العام.
ما حدث لي كان ممكناً لأن هذه هي الولايات المتحدة الأميركية. حيث أرى أن الولايات المتحدة تستمد ثقلها التنافسي العالمي من انفتاحها على أشخاص جدد وأفكار جديدة، وهي قدرة سيكلف التقليل من أهميتها البلاد كثيراً. لأنه إذا صعّبنا على المواهب الوصول والمنافسة على الوظائف، عندها نخاطر بعرقلة النمو في مجالات مثل التقنية المتقدمة وعلوم الحياة. ومن تجربتي الشخصية، ومنها تجربتي في المواقع القيادية، أُؤمن بشدة أن الحد من الهجرة سوف يُصعّب استدامة المزيج الإبداعي الحيوي للولايات المتحدة.
وبحسب تصنيف "فورتشن 500"، 40% من الشركات الكبرى تأسست على أيدي مهاجرين أو أولاد مهاجرين. فأندي غروف، مؤسس شركة "إنتل"، كان لاجئاً من هنغاريا الشيوعية. ستيف جوبز الشريك المؤسس "لآبل" هو ابن لمهاجر من سورية اسمه عبد الفتاح الجندلي. وتستمر الحكاية. إذ وجدت دراسة على شركات ناشئة قيمتها بالمليارات أن أكثر من نصفها أسسها مهاجرون. هذا ما سيكون عليه أيضاً حال الجيل القادم من شركاتنا العظيمة التي ستعتمد على المهاجرين، كما سيعتمد الاقتصاد الأميركي كله عليها.
لكن تأمل معي الآن في حال بلدي الذي نشأت فيه. في عام ولادتي 1970، أعلن ديكتاتور غيانا البلد بلداً تعاونياً وعمّق العلاقات مع كوبا وكوريا الشمالية والاتحاد السوفييتي. كما حُظر الاستيراد، بما في ذلك الطحين. وبدأ الرئيس بتأميم الشركات. وبحلول عام 1979، كانت مساهمة القطاع الصناعي خُفِّضت إلى 10% فقط من الاقتصاد. وكان الشح متفش في الطعام والوقود والماء والكهرباء. وكانت والدتي مدّرسة، ووالدي ضابطاً في الشرطة. وحالنا أفضل من معظم الناس، فلدينا بيت من الخشب بدل الطين، ومبلغ صغير من المال ولو أنه لم يكن هناك الكثير لشرائه. وطلبت منا الحكومة زرع الخضراوات، فكنا نمشي مسافات طويلة لجلب الماء لعدم وجود أنابيب تنقل المياه.
وفي عام 1980، قرر والديّ الهجرة للتخلص من هذه الأوضاع الصعبة. فوجد طريقه للذهاب إلى الولايات المتحدة أولاً، ثم جئنا أنا ووالدتي في العام التالي، وبعدها بثلاث سنوات جاء أخي الأصغر وأختي. والتأم شمل العائلة، ومع أننا كنا نعيش فيما يشبه الفقر في نيويورك لكن المهم أننا معاً وكان لدينا أمل. وفي عام 1991، أصبحنا مواطنين أميركيين.
هناك الملايين مثلنا كافحوا للوصول إلى حياة أفضل في أميركا. وبفضل اجتماعنا جميعاً تحت مظلة قواعد ثابتة اسمها الدستور، كنا ننافس بقوة وننتصر على المستوى العالمي. هذا هو نوع الفريق الذي يتوق الرؤساء التنفيذيون للحصول عليه وهو ما يبني شركات رائعة.
لقد رأيت هذه القوة المحركة تفعل فعلها في أيقونتين من الشركات هما "آي بي إم" و"هيوليت-باكارد". عند انضمامي إليهما كانت كل شركة تتمتع بحوالي 100 مليون دولار من العائدات ولديها أكثر من 250 ألف موظف مباشر، وهو ما جعلهما فخورتين وقانعتين ومعزولتين. أما الأفكار الجديدة والدماء الجديدة فلم يكن مرحباً بهما.
وفي عام 1993، كانت "آي بي إم" على بعد شهور من الإفلاس. ولأول مرة في تاريخ الشركة، عيّن مجلس الإدارة رئيساً تنفيذياً من خارجها أشبه ما يكون بالمهاجر بالنسبة لمجتمع "آي بي إم". إذ خلق لويس غريستنر بيئة أعطت الموظفين الجدد مثلي فرصة للابتكار والمنافسة. وقمنا لاحقاً باستبعاد القرص الصلب وجهاز الحاسوب الشخصي الشهير للأعمال من "آي بي إم". واستثمرنا بدلاً من ذلك في البرمجيات والتحليلات.
الأمر نفسه حصل في "هيوليت-باكارد" خلال عام 2011، عندما كانت الشركة تهوي بانحدار شديد. جاءت الرئيسة التنفيذية الجديدة ميغ وايتمان لإصلاح شركة عالقة في حبال الرضا بالحال والفكر الانعزالي. فبدأت بضخ المواهب الجديدة، بمن فيهم أنا، وقمنا لاحقاً بتقسيم الشركة إلى أجزاء أصغر، بحيث يمكّننا المنافسة أفضل والتحرك أسرع بأفكار جديدة.
حيث عانت كلا الشركتين "آي بي إم" و"هيوليت-باكارد" من الجمود، فالكثير من الموظفين كانوا متمسكين بأساليبهم بالعمل والقليل جداً من الأفكار الجديدة، إذ كان جلب الموظفين الجدد طريقة لبث النشاط في الشركة. فلا غنى لأي شركة عن مزيج صحي من الأفكار الجديدة والقديمة من أجل حيويتها.
وفي وقت سابق من هذا العام، عندما اقترحت ونفذت الولايات المتحدة تغييرات على سياسات السفر والهجرة، أعدّت شركتي مؤتمراً صوتياً لموظفيها في الولايات المتحدة، وانضم له أكثر من 10% من الموظفين أغلبهم كان مولوداً في بلدان غير متأثرة بالحظر مثل الصين والمكسيك. ثم سألَنا الموظفون إن كان لدينا خطة طوارئ في حال لم يتمكنوا من الدخول مرة أُخرى إلى الولايات المتحدة بعد السفر إلى الخارج. بطبيعة الحال، كنت أفضل لو أستطيع الإبقاء على تلك المواهب ضمن الولايات المتحدة بعد أن انضموا إلى شركتنا، لكن حتى أتمكن من المحافظة على هؤلاء الموظفين في حال فُرضت تقييدات أكثر على الهجرة والسفر، ربما نُجبر على توسيع مكاتب شركتنا في أوروبا وكندا مثلما فعلت شركات مثل "مايكروسوفت" وغيرها.
وتُعتبر هذه الإلهاءات اللوجستية مخاوف تؤذي الإنتاجية. لكن التهديد الوشيك للابتكار والتقدم يتمثل في أن القطاع الاقتصادي يعاني أصلاً من قلة المواهب، وهناك حاجة للاستثمار في المناهج المدرسية وبرامج التوظيف والتدريب، من أجل الحفاظ على العمال الأميركيين والمهاجرين على حد سواء. أضف إلى هذا أن البلد ليس بوسعه تحمّل النتائج التي تترتب على تقليص ما يخلقه المهاجرون من شركات ووظائف.
في الأشهر الأخيرة، عادت بي الذاكرة كثيراً إلى الدرب الذي سلكته نحو الجنسية الأميركية. بعد 3 عقود من وقوفي مدهوشاً أمام ذلك الدرج الكهربائي، أنا اليوم مساهم في الاقتصاد الأميركي وفي خلق الوظائف. الحلم الأميركي لا يزال حياً ويشكّل صلب الابتكار والتنافسية. لكن علينا حمايته.
ودُعيت هذا العام للترحيب بـ 200 مهاجر يؤدون قَسَم الجنسية الأميركية في متحف ومكتبة "جون إف كينيدي" الرئاسية. أخبرتهم أنه على الرغم من كل الصعاب التي واجهوها لديهم ذاك التفاؤل والشجاعة التي تحتاجها الولايات المتحدة اليوم. وأخبرتهم أن بإمكانهم أن يصبحوا عاملين مجتهدين يحترمهم المجتمع، كما كان والدي. ثم أخبرتهم أن بإمكانهم أي يصبحوا رؤساء تنفيذيين لمؤسسات، مثلي أنا. وأخبرتهم أن أحداً من أبنائهم ربما يصبح رئيساً للولايات المتحدة، كما كان جون كينيدي، ابن حفيد لمهاجرَين.
كما تحديتهم أن يثبتوا قيمتهم، وتحديتهم أن يجتهدوا في العمل والدراسة وأن يؤسسوا أعمالاً ويخلقوا وظائف ويبنوا الاقتصاد الأميركي. ولا شك لدي أنهم سيفعلون ذلك. فهم يعرفون كيف هي الحياة في أماكن كثيرة من العالم، ولهذا اختاروا الولايات المتحدة. فالجنسية هي شارة فخر وهي أملنا المشترك.
اقرأ أيضاً: قيود نموذج القوى الخمسة لبورتر