هل يتواطأ بعض الموظفين مع السلوكيات المؤذية والمسيئة لأنهم مكرهون على ذلك؟ لأسباب نفسية مركبة مثل الخوف والطمع والولاء المطلق والإذعان؟ أم إن الأمر يتعلق بقرارات مدروسة ترفع شعار "لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم" عن سبق إصرار؟ هل من يكتم حقيقةَ واقعةٍ ما أو يتغاضى عن معطيات مؤثرة بمصير زميل حديث الالتحاق، ضحية لهواجس النفس أم جلّاد صغير؟ متواطئ عن قصد أم "عبد المأمور"؟
أستاذ إدارة الأعمال بكلية هارفارد للأعمال، ماكس بازرمان (Max Bazerman)، يميل في كتابه "التواطؤ: كيف نساعد في انتشار السلوكيات غير الأخلاقية (بصمتنا) وكيف نتوقف عن ذلك"، إلى رد المسألة إلى آليات نفسية تفسّر التواطؤ مثل اجتماع الولاء والإذعان ضمن أسباب أخرى.
ويعرّف الولاء بأنه "الالتزام بالعمل وفقاً لمصالح شخص آخر، أو أشخاص آخرين، أو مؤسسة ما دون التفكير إذا ما كان هذا العمل عقلانياً أو أخلاقياً"، والإذعان للسلطة على أنه إعطاء قيمة كبيرة "للمؤسسات والتقاليد". يحاول بازرمان تفسير التواطؤ بما يعتمل في النفس البشرية من هواجس كالحذر من فقدان وظيفة والطمع والجشع والخوف وما شابهها.
أستاذة الفلسفة الأخلاقية بجامعة ماريلاند، سوزان دواير (Susan Dwyer)، ترفض بشدة تفسيرات بازرمان. وفي مراجعة شيقة لكتابه، تختلف مع الطريقة التي يصوّر بها المؤلف المتواطئين في شكل أشخاص مسلوبي الإرادة وضحايا ألاعيب النفس، في حين "أنهم أناس واعون، يقيّمون المواقف، ويتخذون القرارات، ولهم كامل الحرية باختيار أفعالهم" حسب دواير. دواير ترى أن سلوك الناس، بشكل عام، سيء. هذه هي الخلاصة التي لا مفر منها.
تدعم دراسة أجراها باحثون بجامعة تورونتو سكاربورو ما تقوله أستاذة الفلسفة الأخلاقية. فالناس لا تتصرّف بشكل جيد، في الغالب، إلا حين تكون تحت المراقبة. "حين يُخيّر الناس علناً بين القيام بسلوك جيد وسلوك سيء، مع زخم المشاعر التي تأتي مع الاختيار العلني مثل الشعور بالذنب والحرج، ينتهون إلى اختيارات أخلاقية. أما حين يكون السلوك السيء مضمراً بشكل أكبر فالغالبية تختار السلوك السيء"، يقول معدو الدراسة في خلاصاتهم.
أحياناً يكون سبب هذه السلوكيات المسيئة هو رغبة الموظف في إثبات ولائه وانتمائه للإدارة، وقد تتعدى السلوكيات المسيئة بهذه الحالة التواطؤ مع الإدارة العليا وضد زملائه أو نزاعات العمل الداخلية إلى تحريف تقارير موجهة لهيآت خارجية مثل إدارات الضرائب وأجهزة الرقابة والتدقيق.
في ورقة بحثية مشتركة، تصف أستاذة الإدارة بكلية فوستر للأعمال التابعة لجامعة واشنطن، إليزابيث أمفريس (Elizabeth Umphress)، هذا النوع من السلوكيات بـ "السلوكيات غير الأخلاقية الموالية للمؤسسة" (Unethical Pro-Organizational Behavior)، وهي السلوكيات التي تنتهك القوانين والأخلاق والأعراف لكن الموظف يقوم بها خدمة للمؤسسة التي ينتمي إليها، أو على الأقل هذا ما يعتقد أنه يصنعه.
حسب ورقة أمفريس فالموظف الذي يقدم على هذه التصرفات يبررها بالدفاع عن انتمائه للمؤسسة ويرى فيها عربون إخلاص ومحبة. يعتقد وهو يقدم عليها أن يقوم بـ "المطلوب منه" حتى دون أن يطلب منه أحد ذلك. فهو في الغالب موظف مفتون بقراءة "الإشارات" الخفية للقيادة والعمل وفقاً لها.
وفي هذه العملية يحدث التواطؤ. فـ "الإشارات" كانت لتبقى إشارات مرسلة لو لم تجد من يتطوّع لترجمتها إلى أفعال ووقائع مسيئة.
لا ينفي الباحثون صعوبة الحسم في مسألة أصل الميل للإيذاء: بيئة العمل أم الصفات الشخصية للإنسان أم اجتماعهما معاً، لكن عدداً من الأبحاث تتفق على أن التواطؤ مهما كانت أسبابه ومبرراته يؤول وبالاً على الشركة وينذر، مهما طال واستفحل، بفنائها الوشيك.
تجاوز التواطؤ يتطلب وعياً بكل هذا أي بأن له كلفة باهظة، وإذا كان يحل بعض الإشكالات القصيرة فهو يهدد بإسقاط الشركة وضرب مبادئها "المزعومة" في مقتل. على القادة أن يشجعوا ثقافة الإيجابية والصراحة والنقاش الهادئ، وعلى الموظفين أن يتحلوا ببعض الشجاعة لقول "لا" حين لا يكون هناك أي بديل أخلاقي لها.