من مكان للعمل إلى فضاء للثقافة.
في يونيو/ حزيران 2019، افتتحت اللجنة الأولمبية الدولية مقرها الجديد في مدينة لوزان السويسرية وأطلقت عليه اسم "البيت الأولمبي". وسرعان ما أصبح هذا المبنى الجديد الذي استغرق إنشاؤه ستة أعوام وبتكلفة تبلغ 150 مليون دولار خاوياً على عروشه في غضون تسعة أشهر. فموظفو اللجنة الأولمبية الدولية، حالهم حال العاملين في قطاع المعرفة في جميع أنحاء العالم، كانوا يعملون من منازلهم.
تُظهرُ التجربة الطبيعية التي فرضها فيروس كورونا على العالم قسراً أن الأكاديميين وأصحاب الرؤية في مجال التكنولوجيا ممن كانوا يتحدثون منذ ثمانينيات القرن الماضي عن احتمالات العمل عن بعد لم يكونوا يُبالغون. فالأبحاث التي تعود إلى ما قبل حقبة الجائحة كانت قد أثبتت أن بعض العاملين في الدول الصناعية الغنية يستطيعون العمل بفاعلية من المنزل، وأن 80% منهم تقريباً يرغبون في ذلك، على الأقل لبعض الوقت. وبعد أشهر من العمل عن بعد، عرف أصحاب العمل أيضاً أن معظم المهام تُنجز ومعظم الاجتماعات تسير على خير ما يُرام دون الحاجة إلى التواجد في المكتب.
بطبيعة الحال، لن تتخلى الشركات عن مكاتبها فجأة، لأن الذهاب إلى المكتب لم يكن بهدف العمل فقط. كما أن التكنولوجيا لن تجعل التواصل الاجتماعي أقل اعتماداً على الاتصال الشخصي المباشر في أي وقت قريب. لكننا بحاجة إلى إعادة النظر في تصميم المكاتب على شكل مربعات عمل وهو التصميم الذي نراه في الكثير من الشركات.
قبل الجائحة، كانت الشركات تنظر إلى المكتب بوصفه مكاناً يسمح للأفراد بإنجاز العمل. أما في حقبة ما بعد الجائحة، فإن المكتب لن يكون مكاناً لإتمام المهام أو حضور الاجتماعات الروتينية، ولاسيما بالنسبة للعاملين في الحقل المعرفي، إلا بصورة ثانوية. فهم سيكونون قادرين على أداء جزء كبير من هذه المهام من المنزل، بفضل تنامي وظائف تكنولوجيا المعلوماتية والاتصالات. ونتيجة لذلك، فإن الموظفين سيعملون وبصورة متزايدة فيما نسميه "المكتب الهجين" حيث سيتنقلون بين مكان العمل في المنزل والمبنى التقليدي الذي يوجد فيه المكتب. وسيتحول الأخير بصورة أساسية إلى فضاء ثقافي يوفر للعاملين مساحة لترسيخ التآلف الاجتماعي وتسهيل التواصل وتمكين عملية التعلم وتعزيز التعاون غير المخطط له مسبقاً والقائم على الابتكار.
في السطور التالية سوف نستكشف الوظائف الاجتماعية للمكتب، ونصفُ الطريقة التي لجأت إليها مجموعة من الشركات ذات الفكر التقدمي لتطوير نموذج جديد باستعمال تصميم ذكي يستند إلى التكنولوجيا لتحويل أماكن العمل المريحة إلى فضاءات ثقافية محفزة للتواصل الاجتماعي.
فكرة المقالة باختصار
المشكلة
يسهم العمل عن بعد حالياً في زيادة الإنتاجية وتخفيض التكلفة على المدى القصير، لكن تأثيره على المدى البعيد قد يكون سلبياً جداً بالنسبة لأداء الشركة.
لماذا يحصل ذلك
يحتاج البشر إلى التواصل الشخصي من أجل بناء الثقة. كما يستدعي التعلم عبر الملاحظة إلى القرب الجسدي. وتعتبر فرص الالتقاء العرضي بين أفراد متنوعين مصدراً غنياً للابتكار.
الحل
ستكون مكاتب الغد بصورة أساسية مكاناً لتجديد الأواصر الاجتماعية، وبناء ثقافة تعلّم، وتوفير الفرص للقاءات العفوية. وسوف تكون مصممة ومدارة بطريقة تسمح لها بتعزيز الروابط الإنسانية بمساعدة التكنولوجيا.
أظهرت الدراسات منذ زمن طويل أن التواصل الشخصي المتكرر يقود إلى الالتزام، والدعم، والتعاون بين الموظفين الذين يعملون ضمن الفرق.
المكتب بوصفه مرساة اجتماعية
في معرض بحثنا الذي أجريناه عن أثر العمل عن بعد، أخبرَنا أحدُ كبار مدراء التسويق الذين يعملون انطلاقاً من باريس أنه قبل تطبيق الإغلاق العام في مارس/ آذار 2020، كان يتبنى جدول دوام مرناً، وكان يستمتع بالعمل من المنزل مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع. لذلك فإنه لم يمانع كثيراً عندما أعلنت الشركة أن المكتب سيظل مقفلاً حتى نهاية ديسمبر/ كانون الأول على الأقل. مع ذلك، وبحلول شهر يوليو/ تموز، وعلى الرغم من كونه حاضراً في الاجتماعات الافتراضية طوال اليوم كل يوم تقريباً، إلا أنه شعر بالوحدة وكان يتوق إلى رؤية زملائه في العمل وجهاً لوجه من جديد. وقد سمعنا هذه الفكرة مراراً وتكراراً. في بادئ الأمر، يبدو أن العلاقات الحالية تنتعش عندما يعمل الناس عن بعد. ولكن مع مرور الوقت، تبدأ المشاكل بالظهور إلى السطح. وحتى الأشخاص الذين يقولون عن أنفسهم إنهم انطوائيون ويستمتعون بفرصة العمل في المنزل يكتشفون أن هناك مبالغة في تصوير إيجابية هذا الأمر.
تُظهرُ الدراسات في علم النفس المعرفي والعلوم العصبية أن الإدراك لدى البشر لا يعتمد فقط على الطريقة التي يعالج بها الدماغ الإشارات، وإنما يتوقف أيضاً على البيئة التي تُستلم فيها هذه الإشارات. لذلك فإن محدودية لغة الجسد المتاحة في المكالمات المرئية يمكن أن تقود إلى حالات من سوء التفسير، ويمكن أن تصعّب عملية تكوين الروابط مع الآخرين. فتواجد الموظفين في مكان واحد جسدياً يساعدهم في تفسير أمزجة الآخرين وشخصياتهم، ما يسهّل بناء العلاقات وترسيخها.
فاجتماع قصير مع زميل عمل بالقرب من مكتبه يمكن أن يقود إلى ما يسميه عالم النفس إدوارد هالويل "اللحظة الإنسانية"، وهي عبارة عن لقاء يحصل وجهاً لوجه ويسمح بالتعاطف والاتصال العاطفي، ويجعل الإشارات غير اللفظية تكمّل ما يُقال فعلياً. أما عندما يحصل التواصل عن بعد، فإن الرابط يكون أضعف بكثير وسيكون التقاط الإشارات غير اللفظية أصعب، حتى لو كان الناس قادرين على رؤية بعضهم البعض على شاشة. وفي هذه "اللحظات الإنسانية" غالباً ما يشعر الناس بالحيوية ويكونون أكثر ميلاً إلى التعاطف مع بعضهم البعض، ما من شأنه دعم الثقافة المؤسسية والتعاون. وتشير أبحاث العلوم العصبية إلى أن كيمياء الدماغ لدى الناس في اللحظات الإنسانية تكون مميزة عن كيمياء أدمغتهم في اللقاءات ذات الطابع الخاص بالمعاملات البحتة.
كثير من اللقاءات التي تحصل عن بعد هي ذات طابع يركز على المهام البحتة، وهي تخلو من أي ارتباط عاطفي. أجرت مايكروسوفت مؤخراً مسحاً شمل موظفيها لمعرفة كيف يتعاملون مع بيئة العمل عن بعد خلال جائحة كوفيد-19. كان أحد أكثر التأثيرات ذِكرَاً هو الزيادة في عدد الاجتماعات (الأقصر) المطلوبة لحل مشكلة، لأن الموظفين، كما قال أحد المشاركين، لم يعودوا قادرين على "إجراء زيارة سريعة إلى مكتب شخص آخر في الشركة لطرح سؤال عليه". فيما قال آخر: "ليس بوسعي الانتقال إلى مكتب شخص آخر أو الحديث مع زملائي أثناء تناول القهوة في المطبخ. ونتيجة لذلك، أعتقد أنني أمضي الكثير من الوقت في الاجتماعات".
الاجتماعات مهمة بطبيعة الحال، لكنها ليست أكثر أهمية من اللحظات الإنسانية، لأن العلاقات وليس مجرد أفعال التعاون هي ما يؤدي إلى نشوء الثقة بين زملاء العمل. وقد أظهرت الدراسات منذ زمن طويل أن التواصل الشخصي المتكرر يقود إلى الالتزام، والدعم، والتعاون بين الموظفين الذين يعملون ضمن الفِرَق. وهذا هو السبب الذي يجعل العديد من شركات التكنولوجيا التي تتباهى أنها موجودة على الإنترنت بنسبة 100% تحتفظ بمكتب حتى الآن. وحتى الشركات التي ليست لديها مكاتب تؤكد على أن أعضاء الفرق يجب أن يجتمعوا وجهاً لوجه بانتظام: "نحن نجمع أفراد الشركة جميعهم معاً مرة كل عام لمدة سبعة أيام بحيث يكون بمقدور موظفي "أوتوماتيك" (Automattic) تكوين روابط تؤثر فيهم على مدار العام"، كما يقول موقع "أوتوماتيك"، وهي الشركة التي تمتلك "ووردبريس" (WordPress) و"تامبلر" (Tumblr). وتُظهرُ الأبحاث المتعلقة بالمجتمعات الموزعة المعنية بتطوير البرمجيات ذات المصادر المفتوحة أن أعضاء هذه المجتمعات يعتبرون الاجتماعات المنتظمة التي تحصل على أرض الواقعة مفيدة لتعزيز العلاقات. ويُعتبرُ تجمع "ذا ويل" (The WELL)، الذي بدأ عام 1985، واحداً من أقدم التجمعات الافتراضية القائمة. ويعزو "زي ويل" بقاءه على قيد الحياة حتى الآن إلى تعزيز العلاقات العميقة عبر الاتصال الشخصي، فأعضاء التجمع نشأوا وترعرعوا معاً بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث حضروا أعراس وجنازات بعضهم البعض، ودعم واحدهم رفاقه في سنوات تربية الأطفال والمرض.
المكتب بوصفه مدرسة للتعلم
عندما تنتقل المؤسسات إلى العمل عن بعد، فإنها بحاجة إلى دراسة تأثير ذلك على الكيفية التي يتبادل بها الموظفون المعرفة. ومعظم هذه المعارف يمكن أن تخضع إلى بروتوكولات واضحة، وأن تُنشَر على نطاق أوسع بكفاءة، وأن توزع بواسطة أنظمة لإدارة المعارف على جميع الموظفين، سواء أكانوا يعملون في المكتب أو عن بعد. لكن المعرفة الأساسية جداً في معظم المؤسسات لا يمكن أن تكون صريحة وواضحة. اسألوا الموظفين الجدد في أي شركة تقريباً وسيقولون لكم إنهم تعلموا من مراقبة زملائهم ومدرائهم ومن تفاعلهم مع معظم أصحاب المصلحة المعنيين بمقدار ما تعلموا من الخضوع لعملية التعريف الأولي التي يمر بها أي موظف جديد أو أي تدريبات متخصصة، إن لم يكن ما تعلّموه في الحالة الأولى أكبر أصلاً. في الوضع الكلاسيكي، يحصل هذا التعلم أثناء العمل عبر التلمذة. ويتعلم الموظفون الجدد الطريقة الصحيحة والمناسبة للتصرف – أي "كيف تُنجز الأمور هنا" – من المراقبة المباشرة للأشخاص الذين حولهم، ولاسيما مرشدوهم.
من المؤكد أن التكنولوجيا يمكن أن تُستخدم لتسهيل هذا النوع من التعلم، لكن المكتب ومن دون شك يسهّل هذه العملية أكثر. في سبتمبر/ أيلول 2020، قال جيمي دايمون، الرئيس التنفيذي لبنك "جي بي مورغان تشيس" (JPMorgan Chase) في جلسة مع محللي أبحاث الأسهم إنه بعد ستة أشهر من العمل من المنزل، كان الموظفون حديثو العهد يخسرون المنافع غير الرسمية وغير الملموسة من الجلوس معاً في المكتب، ولم يعودوا يستفيدون من التعلم العفوي والإبداع الذي يأتي من التفاعل المباشر بين إنسان وآخر. ورغم أن "جي بي مورغان تشيس"، حاله حال البنوك ومكاتب المحاماة الأخرى، يعتمد على التدريب الافتراضي لتعليم المهارات الأساسية، إلا أن هذه التدريبات لا تمنح الخبرة العملية التي يكتسبها الإنسان من العمل في المكتب والمطلوبة، مثلاً، لكي يختار مدير محفظة بين سهمين متشابهين من الناحية الفنية.
وكان شاب متخصص في تكنولوجيا المعلومات قابلناه في لندن في معرض إجرائنا لبحثنا قد عبّر وبقوة عن الحاجة للتواجد في المكتب أحياناً. وقد وصف تجربته التي خاضها في أواسط 2020 حيث خضع لدورة تعريفية افتراضية في شركة خدمات مالية عالمية انضم إليها على أنها تجربة "سريالية". فبما أن مكاتب الشركة كانت مغلقة، لم يتمكن من زيارتها أو الاجتماع بفرد واحد من أفراد فريقه الجديد شخصياً. وكانت دورة التعريف قد جرت عبر تطبيق "زووم"، في حين كان الفريق يعقد جلسات متابعة واجتماعات افتراضية منتظمة.
أثار الجهد الذي بذلته شركته الجديدة لمنحه أفضل تجربة ممكنة إعجابه الشديد، لكنه قال لنا: "في الحقيقة، مازلت أجهل النظام والبيئة السائدين في المؤسسة، وليس هناك ما يمكن لشركتي فعله في هذا الصدد. والأشياء التي لم تكن تتطلب مني أكثر من التفاتة بسيطة وأنا على كرسيي لطرح سؤال يستغرق 10 ثوانٍ على زميلي الجالس إلى مقعد مجاور، باتت الآن تحتاج إلى تبادل عدة رسائل إلكترونية لكي أفهم الوضع". والأسئلة المرسلة بواسطة البريد الإلكتروني لها وزن أكبر من وزن الأسئلة التي يطرحها شخص ما وجهاً لوجه، لذلك كان يتردد في إرسال الرسائل إلى زملاء لم يسبق له أن التقى بهم قط. "أتساءل دائماً ما إذا كان بمقدوري طرح "الأسئلة السخيفة""، كما قال. كان قلقاً من أنه سيحتاج إلى وقت أطول لتعلّم التفاصيل المطلوبة ليؤدي وظيفته بكفاءة على المدى البعيد. كما تساءل أيضاً عن معايير التواصل مع الآخرين وطرق العمل. حاول التعرف عليها من خلال الرسائل الإلكترونية، والاتصالات، واجتماعات "زووم"، لكنه وجد صعوبة أكبر في فهم ثقافة الشركة مقارنة بالجهد الذي بذله لفهم ثقافة العمل في وظيفته السابقة.
المكتب كمركز للتعاون غير المخطط له سلفاً
عندما يتعاون الأشخاص العاملون في وظائف وأقسام مختلفة، بوسعهم حل المشاكل المعقدة وتوليد أفكار جديدة مبتكرة. وعادة ما ينشأ هذا التعاون جرّاء اللقاءات التي تحصل بالمصادفة – كما هو الحال في الحوارات التي تدور بالقرب من آلة إعداد القهوة أو بالقرب من ناسخ الأوراق – وهي اللقاءات التي يعثر فيها الموظفون على أشخاص آخرين يستطيعون الحصول على مساعدتهم أو العمل معهم. ("هل تحدثت إلى صوفيا؟ هي عملت مع عميل مشابه العام الماضي. ربما يكون بوسعها إخبارك ماذا فعل أو قد تستطيع إحالتك إلى مرجع ما"). تؤكد الأبحاث ذلك، فقد جمعت مجموعة "الديناميكيات البشرية" في مختبر الإعلام في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بيانات من بطاقات التعريف الإلكترونية الخاصة بالموظفين، وتوصلت إلى أن اللقاءات المتكررة وجهاً لوجه خارج الاجتماعات الرسمية كانت أكبر دليل ينبئ بمدى الإنتاجية.
رغم أنكم لا تستطيعون التخطيط مسبقاً للحوارات المرتجلة، إلا أنكم قادرون على زيادة احتمال حصولها. وصفت إحدى المديرات التي أجرينا مقابلة معها كيف وضعت لوحاً كبيراً لتوضع عليه كل الطروحات والأفكار التي جمعها فريقها بخصوص مشروع معيّن. وقد وضعت اللوح في منطقة تقع في المنتصف كان الموظفون غالباً ما يمرون عبرها وعقدت الاجتماعات حوله؛ وكان عابرو السبيل يصغون وفي بعض الأحيان ينضمون إلى الحوار. كان مكتبها قريباً لذلك عندما كان الناس يتوقفون بالقرب من اللوح، كانت تذهب إليهم لتدردش معهم عنه، وتشرح لهم عن المشروع وتحصل على آرائهم التقويمية بشأنه. وكانت تضيف الأفكار التي تحصل عليها من هذه اللقاءات التي تحصل بالمصادفة إلى اللوح.
يحتاج هذا النوع من التعاون غير المخطط له وغير المنظم سلفاً إلى تواصل شخصي عن قرب، وهذا أمر غير ممكن عندما يعمل الجميع من المنزل. ويمكن أن يكون تحقيق ذلك صعباً حتى عندما يكون الموظفون في البناء ذاته، لأن التواصل بأشكاله كافة يكون أصعب إذا ما كان الزملاء موجودين في مواقع متباعدة عن بعضهم البعض في المكتب ذاته. أوضح توم آلين، المتخصص في علم النفس المؤسسي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، في سبعينيات القرن الماضي أنه يكفي أن يكون الموظفون بعيدين عن بعضهم البعض مسافة 50 متراً حتى يتراجع التواصل (سواء أكان وجهاً لوجه أم عبر أي وسيط من الوسائط).
أدركت المؤسسات التي قللت من الكثافة في مكان العمل مراعاةً لتدابير التباعد الجسدي كم هذا الكلام حقيقي. فقد قسّمت مجموعة أوروبية متخصصة بتصنيع الأجهزة المنزلية الموظفين العاملين في مكتبها الرئيس إلى مجموعتين. كان أفراد المجموعة الأولى يداومون أيام الاثنين والثلاثاء، فيما كان الآخرون يداومون أيام الخميس والجمعة، دون وجود مداورة. بعد مرور أربعة أشهر، كان إنجاز عدد من المشاريع قد تأخر عن الموعد المحدد لأن العديد من الموظفين الذين كانوا يتعاونون على إنجازها كانوا يعملون في أيام مختلفة ولم يلتقوا شخصياً أبداً.
يكفي أن يكون الموظفون بعيدين عن بعضهم البعض مسافة 50 متراً حتى يتراجع التواصل (سواء أكان وجهاً لوجه أم عبر أي وسيط من الوسائط).
وبما أن بعض الشركات التي بادرت مبكراً إلى تبنّي فلسفة العمل عن بعد، مثل "آي بي إم" وياهو كانت قد أدركت وبمنتهى الدقة أهمية توفير فرص للاحتكاك المنتظم، قررت قبل بضع سنوات إدخال تعديلات تراجعت بها جزئياً عن سياساتها شديدة التحرر الخاصة بالعمل عن بعد. وعندما غيّرت مايكروسوفت سياستها في 2020 لتسمح للموظفين بالعمل من المنزل، وفّرت لهم أيضاً مساحات للاحتكاك داخل المكتب بحيث يستطيع الموظفون الحضور إلى المكتب والتناوب على الجلوس في أماكن عمل غير محددة لهم سلفاً واستعمالها.
إنشاء مكتب الغد
لا تسهّل التكنولوجيا المتاحة على نطاق واسع العمل عن بعد فحسب، وإنما هي تسهم أيضاً في الأتمتة المضطردة لمعظم الأعمال الروتينية التي كانت تشكّل الجزء الأساسي من المهام التقليدية التي يؤديها الموظفون. ويُسهمُ هذان التطوران معاً في إدخال تعديل جوهري على تعريف معنى العمل ودور الموظف في المؤسسة. وثمة اتجاه متزايد إلى اعتماد الشركات على إبداع الموظفين، وكما رأينا فإن الموظفين يصبحون أكثر إبداعاً عندما يكونون معاً ويستطيعون التشارك باللحظات الإنسانية. وهذا هو السبب الذي يجعلنا بحاجة إلى المكتب. لكن مكاتب الغد يجب أن تختلف اختلافاً جذرياً عما اعتدنا عليه، وسوف تتميز هذه المكاتب بثلاث صفات. فهي ستكون:
مصممة لتسهيل حصول اللحظات الإنسانية. تنتشر التصاميم الهندسية ذات التكلفة المنخفضة والقائمة على مبدأ الطابق المفتوح – التي وجد الباحثون بصورة متسقة إنها تؤثر سلباً على المعنويات والتعاون والإنتاجية – على نطاق واسع، لكن بعض الشركات تجاوزت هذا النموذج. وتعتمد مقاربتها الجديدة على تحقيق التوازن بين الانفتاح والخصوصية، واستعمال عناصر تصميمية تسهّل التفاعل الاجتماعي بأشكاله المتعددة – من الدردشة السريعة في إحدى زوايا مكتب مفتوح إلى الوشوشة بالقرب من آلة إعداد القهوة أو طاولة المطبخ. ومن بين هذه العناصر قد يكون هناك فراغ أو تجويف يمكن للموظفين الجلوس فيه لوضع اللمسات النهائية على عرض تقديمي أو منضدة مرتفعة يمكن لشخصين الوقوف بجانبها لعقد اجتماع مرتجل بحيث يمكن لزميل أحدث عهداً يمر بجوارهما أن يسمعهما وأن يتوقف لطرح سؤال عليهما.
يضم البيت الأولمبي التابع للجنة الأولمبية الدولية، المبني لغرض إضفاء الطابع الإنساني على العمل، العديد من هذه المزايا. ففي القرن الذي تلا إنشاء اللجنة الأولمبية الدولية، كانت الأخيرة قد تطورت لتشغل أربع مواقع في أرجاء مدينة لوزان. وبحلول عام 2012، كان قادتها قد لاحظوا أن هذا التشتت يضر بالعلاقات القائمة بين موظفيها الذين يزيد عددهم على 400 شخص. ورغم أن طبيعة العمل كانت تقتضي انتقال الموظفين الدائم بين هذه المواقع حيث كانوا يعملون عن بعد في غالب الأحيان، إلا أن قيادة اللجنة الأولمبية الدولية كانت تعتقد أن وجود قاعدة أساسية وحيدة هو أمر ضروري لتوليد الإحساس بالانتماء إلى مجتمع واحد بما يعزز عافية الموظفين وأصحاب المصلحة، والأهم من ذلك، بما يوفّر اللحظات الإنسانية المطلوبة لبناء الثقة وتحفيز الإبداع.
وفي غضون بضعة أشهر، أصبح البيت الأولمبي، كما يقول أحد المدراء في اللجنة الأولمبية الدولية "مكاناً يشعر من يأتي إليه كل يوم بالسعادة، ويتبادل الناس فيه الطاقة الإيجابية". كما تعزز تصاميمه اللقاءات الرسمية وغير الرسمية، ما يؤدي إلى إدخال تغيير جوهري على طريقة تفاعل الفرق مع بعضها البعض. فعلى سبيل المثال، يُجبرُ مكتبه المركزي الكبير – الذي يتخذ شكل الحلقات الخمس للشعار الأولمبي – موظفي الأقسام المختلفة على الالتقاء ببعضهم البعض وهم في طريقهم إلى مكاتبهم أو منها، ويشجعهم على التوقف والتحدث. يشرح أحد المدراء في اللجنة الأولمبية الدولية الأمر قائلاً: "تمتلئ هذه المساحات المحيطة بالمكتب بالأرائك والزوايا المخصصة لاحتساء القهوة حيث ترغب في إمضاء خمس أو عشر دقائق في الحديث مع زملائك عن النقاط المفتوحة التي تحتاج إلى معالجتها، عوضاً عن إرسال عدد كبير من الرسائل الإلكترونية. وهذا العنصر الإنساني موجود في صميم ما نفعله".
كما أولى المصممون اهتماماً خاصاً أيضاً للصوتيات. ففي المناطق التي تضم مكاتب يمكن للموظفين استعمالها دون أن يكون أي مكتب منها مخصصاً لأي موظف محدد ثمة سجّاد كاتم للصوت ومواد تمتص الصوت في السقف وفي الأثاث. وبالقرب من المكتب المركزي وفي المناطق الأخرى المخصصة للتواصل الاجتماعي تعمّد المعماريون استعمال مواد أقل امتصاصاً للصوت لإيجاد مساحة تضج بالأصوات الشبيهة بأصوات المقهى بهدف اجتذاب الناس للدردشة والتآلف الاجتماعي.
تُعتبرُ التفاصيل التي من هذا القبيل مهمة. فقد قررت شركة تكنولوجيا عالمية نعرفها خفض التكاليف من خلال التخلص من آلة إعداد القهوة في أحد مراكز الأبحاث والتطوير التابعة لها. في بادئ الأمر ارتفعت الإنتاجية، حيث سجّل المدراء زيادة في عدد خطوط الترميز المنتجة مع تراجع في أعداد الأخطاء في عمليات الترميز. فقد كان الموظفون يقضون وقتاً أقصر في الحديث وهم يتناولون القهوة في حين كانوا يمضون وقتاً أطول في الترميز. أما في وقت لاحق، فقد انخفض العدد الإجمالي للمنتجات المطروحة في السوق، بسبب زيادة في الأخطاء المتعلقة بدمج المنتجات. وقد تبيّن على ما يبدو أن الأحاديث التي كان الموظفون يخوضونها أثناء تناول القهوة كانت قد أنتجت الكثير من التعاون المثمر.
مصممة بحسب الحاجة باستعمال التكنولوجيا. ساعدتنا التكنولوجيا في أن نأخذ إلى منازلنا العملَ الذي نستطيع إنجازه بكفاءة أكبر بمفردنا. كما أنها قادرة على مساعدتنا على تحسين فهمنا للطريقة التي نعمل بها اجتماعياً، وهذا الفهم يمكن أن يقود إلى قدر أكبر من الفاعلية في التصميم واستعمال الفضاءات الاجتماعية.
تُعتبرُ شركة "سيلفرستاين بروبيرتيز" (Silverstein Properties)، المتخصصة بتطوير العقارات وإدارتها ومقرها نيويورك، مثالاً جيداً على هذه الحالة. فقد أنشأت الشركة منصة تستند إلى الذكاء الاصطناعي تدعى "دوجو" (Dojo)، لتتبّع تحركات الموظفين وتغذية نظام يعتمد على البيانات لإعطاء علامات بهدف توليد تصاميم مكتبية ومخططات خاصة بأماكن الجلوس من أجل تعظيم احتمال حصول اللقاءات والتفاعلات العرضية وغير الرسمية.
يمكّن "دوجو" المستخدمين من إنشاء صفحات شخصية للتعاون تسمح بالتعاون بين الأفراد أو الفرق أو في أرجاء المؤسسة بأكملها. (يتطلب بعض القطاعات والوظائف نسبة أعلى من العمل المستقل مقارنة بقطاعات الوظائف الأخرى). يسمح هذا النظام للشركات بتجميع الموظفين بحسب أسلوب العمل، باستعمال مقاييس مثل النسبة المئوية للوقت الذي يمضونه في الاجتماعات، والمعدل الوسطي للوقت الحر المتاح بين الاجتماعات، وتوزّع الاجتماعات خلال اليوم. والنتيجة هي نوع من الهيكل التنظيمي غير القائم على التراتبية يمكن أن يساعد المدراء في العثور على طرق للاستفادة من المساحات المتاحة في الشركة والتكنولوجيا لإيجاد المزيد من فرص التواصل للموظفين.
استعملت إحدى الشركات المستأجرة لدى "سيلفرستاين"، وهي عبارة عن شركة تكنولوجية تضم أكثر من 400 موظف، الاستنتاجات المستخلصة من "دوجو" في إعادة تصميم مكتبها. وأظهرت المنصة أنه إذا أعادت الشركة المستأجرة توزيع موظفيها بحسب "تجاور" الوظائف المتقاطعة، فإنها ستكون قادرة على تحسين التعاون وتقليل المساحة المكتبية التي تحتاج إليها. كما وجدت الشركة التكنولوجية أن أحداً لم يكن يستعمل الغرف الصغيرة، التي يُفترض بها أن تمنح مستخدميها خصوصية، لأنها كانت بعيدة عن أماكن جلوس الموظفين. عوضاً عن ذلك، كان الموظفون يُجرون مكالماتهم الخاصة في بهو المصعد. لذلك تخلصت من هذه الغرف الصغيرة وركّبت أكشاك للهواتف في البهو. وبعد أن أدخلت هذه التغييرات، اكتشفت أن لديها مساحة تزيد بنسبة 20% على ما كانت بحاجة إليه، ما سمح لها بإعادة تأجيرها إلى جهة أخرى.
بوسع التكنولوجيا أيضاً دعم العلاقات بين الموظفين العاملين عن بعد وأولئك الموجودين في المكتب. ففي أواسط ثمانينيات القرن الماضي، أنشأ الباحثون في "زيروكس بارك" (Xerox PARC) مساحة إعلامية تجمع تكنولوجيات للفيديو، والصوت، والحوسبة بهدف دعم التفاعلات الاجتماعية بين مختبراتهم في بالو آلتو وبورتلاند في ولاية أوريغون. سمح ذلك للموظفين في صالات المختبر وفي بعض المكاتب الفردية بالتواصل افتراضياً. وتُظهرُ تجارب مشابهة في "يورو بارك" التابعة لزيروكس في المملكة المتحدة في بيلكور، وفي جامعة تورنتو أن "الوعي الجانبي" للموظفين العاملين عن بعد ببعضهم البعض حتى يمكن أن يساعدهم في الشعور أنهم قريبون من الموظفين الموجودين في المكتب والعكس صحيح.
من الطبيعي أن يكون هذا أقصى ما تصل إليه التكنولوجيا. فطالما أن الموظفين قادرون على رؤية من هو حاضر جسدياً ومن هو موجود افتراضياً – وهو أمر يمكن لتكنولوجيا مثل "دوجو" أن تسهّل حصوله – فإنهم يجب أن يكونوا أحراراً في خلق مناسبات التواصل الخاصة بهم، فضلاً عن إيجاد لحظات للتفكير التعاوني فيما بينهم.
مدارة بطريقة تشجع على التواصل. يحتاج المدراء من جهتهم إلى ضمان شعور الموظفين عندما يأتون إلى المكتب أنهم مسموح لهم يالتآلف الاجتماعي والتواصل مع زملائهم. ولا يجب على القادة ذكر ذلك الأمر صراحة فحسب، بل يجب عليهم تعزيز هذه الفكرة من خلال إمضاء الوقت هم أنفسهم في المناطق المشتركة والانخراط في المناسبات الاجتماعية.
شركة الاستشارات العالمية في مجال التصميم "فروغ" (frog)، هي مثال جيد على ما يشمله ذلك. فالشركة تمتلك مكاتب أو "استديوهات" في جميع أنحاء العالم، وهي تستعملها لتمتين الأواصر الاجتماعية وتعريف المنضمين حديثاً إليها على الثقافة السائدة فيها. وثمة طقوس كثيرة تعزز التعلم غير الرسمي من الاجتماعات التي تُعقدُ في صباح أول أيام أسبوع العمل (حيث تُناقش المواضيع المتكررة في مختلف المشاريع والقطاعات أو يُعرَض المحتوى الجديد) إلى أيام الثلاثاء المخصصة للياقة (التي قد تقام فيها دورة يوغا، مثلاً) والوقت المخصص لاحتساء القهوة بعد ظهر كل يوم، وساعات المرح المخصصة لأعضاء الفريق وأحياناً للعملاء.
تمنح هذه الطقوس كلها الموظفين الأحدث والأقدم عهداً على حد سواء الفرصة للاختلاط وتبادل القصص حول المشاريع والحياة، وطلب المشورة بطريقة غير رسمية. فالعمل يجري في الأروقة والمطبخ بمقدار ما يجري في الغرف التي تمارس فرق المشاريع فيها العصف الذهني بوجود الألواح البيضاء والأوراق التي تلصق على هذه الألواح. كما أن رؤية جلسات العمل هذه أو استراق السمع إليها، سواء بطريقة رسمية أو غير رسمية، هو عنصر أساسي لتعلّم خفايا التصميم الجيد وإدارة العلاقات مع العملاء.
بعد أن يعود الموظفون إلى المكتب، قد يشعرون أنهم ملزمون بحضور الاجتماعات أو الجلوس إلى حواسبهم طوال الوقت. إذا كان ذلك هو الحال، فإننا سنكون قد خسرنا العبر والدروس الإيجابية التي تعلمناها من الجائحة.
عندما دخل العالم مرحلة الإغلاق العام، اكتشفت "فروغ" بعض الجوانب الإيجابية للعمل من المنزل. فقد تحسّن التعاون عبر شبكات الاستديوهات العالمية، على سبيل المثال. كما تمكنت "فروغ"، ودون العوائق التي يفرضها العمل وجهاً لوجه، من زيادة التلاقح في الأفكار الواردة من مختلف الاستديوهات التابعة لها في جميع أنحاء العالم، وتحسين الاستفادة من مواهب الموظفين. كما تمكنت من المحافظة على بعض الطقوس بعد أن أدخلت عليها تعديلات طفيفة هنا وهناك. ففي حيّز زمني افتراضي مخصص لاحتساء القهوة يومياً، على سبيل المثال، قد يطرح أحدهم سؤالاً من قبيل "ما هي أكثر طريقة مجنونة تعرّضت بها للإصابة؟" وذلك بهدف إخراج الموظفين من جو العمل. ونظراً لهذه المنافع والوفورات في التكلفة بسبب إغلاق استديو في سوق تنافسية مثل سوق نيويورك، تساءل قادة "فروغ" ما إذا كانت الشركة قادرة على الاستمرار في العمل من المنزل، بما أن المرحلة الانتقالية اتسمت بالسلاسة. لكنهم أدركوا أن الاستديو يؤدي دوراً أساسياً في دعم ثقافة الشركة، ولاسيما في مجال التعلم غير الرسمي والتآلف الاجتماعي بين الموظفين – ورغم أن الإيجارات في نيويورك مرتفعة، إلا أن تكلفة استئجار هذه المساحة صغيرة نسبياً ضمن المصاريف الإجمالية لشركة "فروغ". وحتى لو كان العمل في الاستديو يستدعي إعادة ابتكار هذا العمل بطريقة مختلفة، إلا أنه سيظل جزءاً أساسياً من واجبات أي موظف.
بعد أن نعود جميعاً إلى المكتب، سيكون من الأساسي بمكان تجنّب الخلط بين اللقاء وجهاً لوجه والمحصلات الفعلية عند تقويم الأداء – كي لا يشعر الموظفون أنهم مضطرون إلى الحضور لإقناع المدير أنهم يعملون بجد. وعندما يحضرون إلى المكتب، لا يجب أن يشعروا أنهم مُلزمون بحضور الاجتماعات أو الجلوس إلى حواسبهم طوال الوقت. وإذا كانت العودة إلى المكتب تعني إنجاز عمل فردي وعقد اجتماعات تركز على أداء المهام المطلوبة فحسب، فإننا سنكون قد خسرنا العبر والدروس الإيجابية التي تعلمناها من الجائحة، كما أن أداء المؤسسة وثقافتها قد يكونان معرّضين للخطر.
ولتجنب ذلك، أعلن آدم دانجيلو، الرئيس التنفيذي لموقع "كورا" (Quora) الخاص بطرح الأسئلة وتلقّي الإجابات على الإنترنت أن شركته لن تتبنّى مقاربة انتقائية فيما يخص العمل عن بعد، تقوم على عودة القادة أو بعض المجموعات إلى المكتب في حين يظل الموظفون العاديون يعملون من المنزل. بل عوضاً عن ذلك، سيعمل الجميع، من الرئيس التنفيذي نزولاً إلى آخر موظف، من المنزل، لكن الجميع يجب أن يأتي إلى المكتب لقضاء بعض الوقت فيه أيضاً. والقصد من ذلك، حسبما شرح على مدونة الشركة على الإنترنت هو "الحيلولة دون تحوّل المكتب إلى المقر العام "الحقيقي"". وقد بعث ذلك برسالة واضحة إلى موظفي "كورا" مفادها أن الذهاب إلى المكتب ليس طريقة لجذب انتباه مديرك؛ ففي أعين الإدارة، العمل من المنزل كان يتمتع بذات القدر من المشروعية وسيظل كذلك.
عندما يعود القادة إلى المكاتب، فإنهم بحاجة إلى ضرب مثال يُحتذى وتجسيد السلوكيات الاجتماعية التي يجب أن تبدر عن الموظفين. ولا يجب عليهم إمضاء كل وقتهم في الاجتماعات؛ وإنما يجب أن يسيروا على خطا باول برنت، مدير الإبداع في "أيديو" (IDEO) الذي يقول إنه يجلس "على الدوام وبعزم مع فريق المعلوماتية لدينا في مكتب مساعدة العملاء وهو البقعة الأكثر بروزاً ومركزية في مكتبنا في سان فرانسيسكو". ويضيف قائلاً: " أعتبر أن مكتب مساعدة العملاء يمثل تقاطعاً ما بين المقهى ومحطة يجلس فيها المنقذ الإلكتروني. الموظفون هناك مفعمون بالطاقة والمرح، والجلوس معهم على كرسي مرتفع شجّع الموظفين على مخاطبتي بعفوية. وهذا الأمر يسمح للأحاديث والحوارات أن تحصل بطريقة طبيعية على مدار يوم العمل".
الفرص التي يمثلها وجود طقوس لا صلة لها بالعمل (مثل التأمل، واليوغا، والتمارين الرياضية) هي طريقة عظيمة لتمتين العلاقات والأواصر، وهي تبعث بإشارة إلى أن الجوهر الأساسي للمكتب يتجلى في تعزيز التواصل بين الموظفين. بطبيعة الحال، لا يجب حظر الاجتماعات الشخصية، وإنما يجب الحد من عددها بحيث لا يتحول يوم العمل في المكتب إلى يوم يُمضى في الاجتماعات – كما يجب أن يشتمل على أنشطة قد يكون من الصعب إنجازها عن بعد (مثل ممارسة العصف الذهني في وضعية الوقوف أو أثناء الدوران حول المائدة).
على المنوال ذاته، يجب على الشركات ضمان ألا يكون موظفوها في حالة عمل دائم إذا ما كانت تريد تعزيز التفاعل والإبداع. فأخذ الاستراحات ليس بالأمر السهل على الدوام، ولاسيما إذا كان الموظفون خاضعين للرقابة باستعمال برمجيات الرصد، أو يعملون تحت أمرة مدراء يركزون على الزمن الذي يقضيه الموظف أمام الشاشة عوضاً عن التركيز على إنتاجيته. أوضحوا أنه لا مانع من أخذ استراحة لتناول الغداء، أو إعادة جدولة اجتماع صباحي يُعقد في الساعة الثامنة للسماح لشخص بممارسة رياضة المشي الصباحية المنتظمة أو بحضور دورة يوغا أو سباحة. وهنا مجدداً نرى أن ضرب مثال يُحتذى هو أمر مهم. بوسعك فعل شيء بسيط من قبيل كتابة الحالة التالية على برنامج "سلاك" (Slack) أو أي أداة أخرى: "أنا خرجت لتناول الغداء" أو "أنا متاح عبر الإنترنت طوال أيام الأسبوع ما عدا الأربعاء". انتبهوا إلى أن الموظفين أحياناً يحتاجون إلى عطلة نهاية أسبوع طويلة أو إلى إجازة. تمنح شركة خدمات البرمجيات "بيسكامب" (Basecamp) كل موظف إجازة تفرّغ لمدة 30 يوماً كل ثلاث سنوات.
بما أن العديد من المؤسسات تسمح للموظفين بالعمل عن بعد لبعض الوقت على الأقل، من الجدير التذكر أن التعاون الموزع ليس بالظاهرة الجديدة بل هو يتمتع بتاريخ حافل. ويُظهرُ ذلك التاريخ وتجربتنا المعاصرة أن البنية التحتية والتكنولوجيات والعمليات المؤسسية الداعمة لازمة للوصول إلى حالة التعاون المنتج لكنها غير كافية لذلك. فالموظفون يظلون بحاجة إلى فرص للالتقاء شخصياً لتوضيح التوقعات وتحقيق التواؤم فيما بينهم، وتجديد القواعد وممارسات العمل، وبناء الثقة أو إعادة إحيائها. وفي عالم يدعم العمل من المنزل ويستفيد منه على نطاق واسع، من الأهمية القصوى بمكان إعادة الموظفين إلى العمل معاً في المكاتب لتلبية هذه الاحتياجات الإنسانية.