المقايضة التي ستواجه كل شركة في مجال الذكاء الاصطناعي

5 دقائق
المقايضة بين الذكاء الاصطناعي والبشر

لا يتطلب الأمر قدراً كبيراً من التدريب لبدء وظيفة صرّاف في أحد فروع "ماكدونالدز". حتى في يومهم الأول، يكون أداء الصرّافين الجدد جيداً بما يكفي لشغل الوظيفة، ويتحسن أداؤهم كلما تعاملوا مع عدد أكبر من العملاء. ورغم أن أي صراف جديد قد يكون أداؤه أبطأ، وقد يرتكب أخطاءً أكثر من نظرائه ذوي الخبرة، يتقبل المجتمع بصفة عامة فكرة أنه سيتعلم من أخطائه وسيكتسب الخبرة. فما علاقة تحديات الشركات في مجال الذكاء الاصطناعي بهذا الأمر؟

لا يخطر هذا الأمر ببالنا كثيراً، لكن الأمر نفسه ينطبق على طياري الخطوط الجوية التجارية. نشعر بالارتياح عندما نعلم أن "إدارة الطيران الفيدرالية" التابعة لوزارة "النقل" الأميركية هي المسؤولة عن منح رخصة الطيارين. وأنها تتطلب خبرة لا تقل عن 1,500 ساعة طيران، و500 ساعة طيران عبر البلاد، و100 ساعة طيران في أثناء الليل، و75 ساعة من ممارسة استخدام أدوات الطائرة، ولكننا نعلم أيضاً أن أداء الطيارين سيواصل التحسن مع اكتسابهم الخبرة.

اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: مفهوم المقايضة

في يوم 15 يناير/كانون الثاني من عام 2009، اصطدمت طائرة الخطوط الجوية الأميركية في الرحلة رقم "1549" بسرب من الإوز الكندي، ما أدى إلى توقف جميع محركات الطائرة. نجح الطيار الأميركي تشيسلي (سولي) سولينبرجر بالهبوط بالطائرة بأعجوبة على نهر هدسون، منقذاً حياة جميع الركاب البالغ عددهم 155 راكباً. وعزا معظم المراسلين أداء سولي المذهل إلى خبرته، إذ كان قد سجل 19 ألفاً و663 ساعة طيران إجمالاً، بما فيها 4,765 ساعة على متن طائرة إيرباص من طراز "320A". وقال سولي: "يمكنني تشبيه الأمر وكأنني كنت أضع ودائع صغيرة بشكل دائم على مدار 42 عاماً في هذا البنك من الخبرة والتعليم والتدريب. وفي يوم 15 يناير/كانون الثاني من عام 2009 كان الرصيد كافياً حتى أتمكن من إجراء سحب كبير للغاية". لقد استفاد سولي، وجميع ركاب طائرته، من آلاف الساعات من الطيران التي سجلها من قبل.

مفهوم "الكفاءة المطلوبة"

يعتمد الفارق بين مفهوم "الكفاءة المطلوبة" بالنسبة لكل من الصرّافين والطيارين على مدى تسامحنا مع أخطائهما.

بالتأكيد، يكون تسامحنا أقل مع أخطاء الطيارين، وينعكس هذا على عدد ساعات التدريب التي تُطلب منهم قبل قيادة رحلتهم الأولى، حتى لو كانوا سيواصلون اكتساب الخبرة من العمل.

لدينا تعريفات مختلفة لمفهوم "الكفاءة المطلوبة" عندما يتعلق الأمر بحجم التدريب الذي يحتاج إليه البشر في وظائف مختلفة.

وينطبق الأمر نفسه على تعلم الآلات.

تعتمد تطبيقات الذكاء الاصطناعي على توليد التنبؤات.

وعلى عكس خوارزميات الكمبيوتر المبرمجة بشكل تقليدي، والمصممة لسحب البيانات واتباع مسار محدد لإظهار نتيجة، ينطوي أكثر الأساليب شيوعاً لاستخدام الذكاء الاصطناعي في هذه الأيام على خوارزميات تنشأ من خلال عمليات تعلم مختلفة. تُعطى البيانات -بما فيها النتائج- للآلة، وتحدد الارتباطات بين هذه البيانات، ثم بناءً على هذه الارتباطات تأخذ الآلة بيانات جديدة لم تحصل عليها من قبل، وتتنبأ بالنتيجة.

يعني ذلك أن الآلات الذكية تحتاج إلى التدريب، تماماً كالطيارين والصرّافين. تصمم الشركات أنظمة لتدريب الموظفين الجدد حتى يصلوا إلى الكفاءة المطلوبة، ثم تضعهم على رأس عملهم، مع العلم أنهم سيتحسنون في أثناء ممارسة العمل. ورغم أن هذا يبدو واضحاً، فإن تحديد مفهوم "الكفاءة المطلوبة" يُعد قراراً مهماً. وفي حالة الذكاء الآلي، قد يكون قراراً استراتيجياً رئيسياً يتعلق بالتوقيت: متى يجب التحول من مرحلة التدريب الداخلي إلى مرحلة التعلم في أثناء العمل.

لا توجد إجابة جاهزة تحدد مفهوم "الكفاءة المطلوبة" للذكاء الآلي. وبدلاً من ذلك، هناك مقايضات. إذ سيتطلب النجاح في الذكاء الآلي أخذ هذه المقايضات بجدية، والتعامل معها بشكل استراتيجي.

تعامل الشركات مع أخطاء الآلات وأخطاء الذكاء الاصطناعي

السؤال الأول الذي يجب أن تطرحه الشركات هو ما مدى تسامحها وعملائها مع أخطاء الآلة. الإجابة هي أننا لدينا تسامح كبير مع أخطاء بعض الآلات الذكية وتسامح قليل مع البعض الآخر. على سبيل المثال، يقرأ تطبيق جوجل للبريد الوارد رسائلك الإلكترونية، ويستخدم الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالكيفية التي سترغب بها في الرد على الرسائل، ويقترح ثلاثة ردود مختصرة لتختار منها. ويذكر العديد من المستخدمين أنهم يستمتعون باستخدام التطبيق على الرغم من أن معدل الخطأ به يبلغ 70% (وهو ما يعني أن تقنيات الذكاء الاصطناعي أنتجت ردوداً مفيدة في 30% فقط من الحالات). ويُعد سبب هذا التسامح الكبير مع الأخطاء، أن فائدة توفير الجهد اللازم لإنشاء الرسالة وكتابتها تفوق تكلفة ظهور ردود مختصرة خاطئة على الشاشة.

في المقابل، لدينا درجة منخفضة من التسامح مع الأخطاء في مجال القيادة الذاتية. دُرِّب أول جيل من السيارات ذاتية القيادة -التي كانت شركة "جوجل" رائدة في تقديمها- باستخدام سائقين بشريين متخصصين استقلوا مجموعة محدودة من السيارات وقادوها لمئات الآلاف من الكيلومترات. كان الأمر كأب يعلم ابنه المراهق قيادة السيارات قبل أن يتركه ليقود بنفسه.

يوفر هؤلاء السائقون بيئة تدريب آمنة، لكنهم أيضاً محدودو الإمكانيات بشكل كبير. وتتعلم الآلة عدداً قليلاً فقط من المواقف. وقد يتطلب الأمر عدة ملايين من الأميال في بيئات ومواقف مختلفة قبل أن يتعلم الشخص كيفية التعامل مع المواقف النادرة التي من المرجح أن تؤدي إلى وقوع حوادث. وبالنسبة للمركبات ذاتية القيادة، تكون الطرق الحقيقية سيئة وخطيرة لأن المواقف السيئة والخطيرة التي يتسبب بها البشر يمكن أن تحدث لها.

أما السؤال الثاني الذي يجب طرحه، هو ما مدى أهمية الحصول على بيانات المستخدم. طوَّرت شركة "تيسلا" (Tesla) -بعدما أدركت أن التدريب قد يستغرق وقتاً طويلاً- قدرات السيارات ذاتية القيادة في جميع الطُرز الحديثة من سياراتها. شملت هذه القدرات مجموعة من المستشعرات التي تجمع بيانات بيئية بالإضافة إلى بيانات القيادة التي يتم تحميلها على خوادم التعلم الآلي الخاصة بشركة "تيسلا". وخلال فترة قصيرة للغاية، يمكن أن تحصل "تيسلا" على بيانات التدريب فقط من خلال مراقبة كيفية قيادة السائقين لسياراتها. وكلما زاد عدد سيارات "تبسلا" التي تسير في الشوارع، زادت قدرة آلياتها على التعلم.

ومع ذلك، بالإضافة إلى جمع البيانات من خلال قيادة السائقين البشر لسياراتها، تحتاج "تيسلا" إلى بيانات القيادة الذاتية لفهم كيفية عمل أنظمتها ذاتية الحكم. ولذلك، تحتاج إلى سيارات ذاتية القيادة حتى تتمكن من تقييم الأداء، لكن يجب أيضاً تقييم التوقيت الذي يقرر فيه السائق البشري -الذي يُطلب وجوده داخل السيارة وانتباهه لها- التدخل. لم يكن هدف "تيسلا" النهائي هو الحصول على سائق مساعد، أو مراهق يقود السيارة تحت الرقابة، بل إنتاج سيارة ذاتية القيادة بالكامل. وذلك يتطلب الوصول إلى مرحلة يشعر فيها أناس حقيقيون بالثقة داخل سيارة ذاتية القيادة.

هنا تكمن مقايضة صعبة. فمن أجل التحسن، تحتاج "تيسلا" إلى أن تتعلم آلاتها من خلال مواقف حقيقية. ولكن وضع سياراتها الحالية في مواقف حقيقية يعني أنها توفر لعملائها سائقاً افتراضياً شاباً وغير متمرس، رغم أنه قد يكون بنفس مستوى العديد من السائقين الشباب أو أفضل منهم. وهذا يعد أكثر خطورة من الاختبار التجريبي، سواء فهمت خدمة "سيري" أو "أليكسا" ما قلته أم لم تفهم، أو تنبأ صندوق البريد الوارد في "جوجل" بردك على إحدى الرسائل بطريقة صحيحة أم لا. ففي حالة "سيري" أو "أليكسا" أو "جوجل"، يعني ذلك تقديم تجربة مستخدم أقل جودة، أما في حالة السيارات ذاتية القيادة، فهذا يعني تعريض حياة الناس للخطر.

وكما وثّق أحد المقالات الأخيرة، قد تكون هذه التجربة مخيفة. إذ يمكن أن تخرج السيارات عن الطرق السريعة دون سابق إنذار، أو تضغط على المكابح عندما تخلط بين نفق وعائق. قد يقرر السائقون المتوترون عدم استخدام خصائص القيادة الذاتية، مما قد يعيق قدرة "تيسلا" على التعلم. علاوة على ذلك، وحتى لو أمكن للشركة إقناع بعض الأشخاص بإجراء اختبارات تجريبية على السيارات، هل هؤلاء هم الأشخاص المناسبون حقاً؟ إذ قد يكون الشخص الذي يوافق على إجراء اختبار تجريبي للقيادة الذاتية يملك حساً أكبر بالمجازفة مقارنةً بالسائق العادي. في تلك الحالة، هل ترغب الشركة حقاً في أن تتعلم آلاتها من هؤلاء الأشخاص المغامرين؟

تتعلم الآلات أسرع من خلال المزيد من البيانات، وتُولد المزيد من البيانات عندما تُنشر الآلات للاستخدام. ورغم ذلك، يمكن أن تحدث أمور سيئة في أثناء الاستخدام تضر بالعلامة التجارية للشركة. يسرّع طرح المنتجات للاستخدام مبكراً من عملية التعلم، لكنه يخاطر بالإضرار بالعلامة التجارية (وربما بالعميل). والعكس بالعكس، فطرح المنتجات للاستخدام في وقت متأخر يبطئ عملية التعلم، ولكنه يتيح المزيد من الوقت لتحسين المنتج داخلياً وحماية العلامة التجارية (وربما العميل).

بالنسبة لبعض المنتجات، مثل خدمة البريد الوارد من "جوجل"، تبدو الإجابة عن هذه المقايضة واضحة، لأن تكلفة الأداء السيئ منخفضة، وفوائد التعلم من استخدام العملاء عالية، ونتيجة لذلك، من المنطقي أن يُطرح هذا النوع من المنتجات للاستخدام مبكراً. أما بالنسبة للمنتجات الأخرى، مثل السيارات، فتكون الإجابة أقل وضوحاً. ففي ظل سعي المزيد من الشركات إلى الاستفادة من ميزة التعلم الآلي، ستضطر إلى إجراء هذه المقايضة للتخلص من تحديات الشركات في مجال الذكاء الاصطناعي.

اقرأ أيضاً:

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي