لو عرف الناس أنهم يتأثرون بالأخبار والمعلومات بطريقة غير واعية، وأن كلمات أو أسماء محددة ضمن الخبر يمكن أن تدفعهم لتبني خبر ما أكثر من خبر آخر، بينما قد يكون في الحقيقة خبراً مزيفاً.
ولو عرف الناس أن ربط الخبر أو المعلومة بشيء أو شخص يحبونه، ترفع لديهم نسبة "الدوبامين" وهو هرمون يساهم في رفع نسبة الاستثارة والسعادة في الدماغ، وتجعلهم يتقبلون ما يقال، بحسب كتاب "توقع لا عقلاني" (predictably Irrational) لعالم الاقتصاد السلوكي دان أريللي.
ولو عرف الناس أن المظهر الخارجي لمقدم الإعلان أو البائع أو حتى المتهم، يضمن له تمرير ما يود قوله إذا كان شكله جذاباً وفقاً لدراسات أجريت على قضاة ومستهلكين في مراحل ودول متعددة من خلال ما يسمى علمياً "تأثير الهالة". فالرجال يشترون أكثر عندما يكون البائع رجلاً ذا مظهر رجولي "من عضلات ونحوها" بحسب بحث علمي، والمستهلكون يشترون السيارات والمنتجات التي ترتبط إعلاناتها بأشخاص جذابين بحيث تُباع هذه المنتجات بشكل أكبر، بحسب الباحث في علم النفس روبرت تشالديني في كتابه "علم نفس الإقناع" (The Psychology of Persuasion)، كما أن القضاة يحكمون لصالح ذوي المظهر الجذاب بشكل أكبر وفقاً لعديد من الدراسات التي استعرضتها الباحثة القانونية رد هولير.
ولو عرف الناس أن تقديم الخبر من وسيلة إعلام تناسب توجهك السياسي أو الديني أو غيره من الانتماءات، فإنه يدفع غالبية الناس ممن يتبعون هذا التوجه لتصديق الخبر وتبنيه حتى ولو كان غير منطقي أو غير صحيح، بل إنهم لن يشعروا بهذا التحيز في المواقف بحسب نظرية "البرهان الاجتماعي" لعالم النفس سيالديني.
لو عرفت كل ما سبق، وغيره الكثير من المحركات غير العقلية التي تتحكم باستهلاك الناس للأخبار والمعلومات، فستجد أن صناعة الأخبار هي بحاجة لأكثر من مجرد المهنية الإعلامية بل إلى مزيد من المعايير الأخلاقية والمسؤولية الاجتماعية. إننا في الواقع نتعامل مع متلقٍّ يمكن أن يتعرض للتنويم المغناطيسي الذي يمكن أن تلعبه وسائل الإعلام عن قصد أو غير قصد. والمشكلة الأكبر أن كل واحد منا لا يدري ولا يقتنع أنه واقع تحت هذا التأثير، بل يظن أن الآخرين فقط هم من يتأثر بمثل هذا الإعلام والدعاية، وهذا التحيز الشخصي الذي يسمى في علم النفس الإعلامي "تأثير الشخص الثالث" وهو اعتقاد الشخص بأن الآخرين فقط هم من يتأثر بالإعلام والمعلومات السلبية، بينما هو والمقربون منهلا يتأثرون.
وإذا افترضنا أنك بقيت مصرّاً ووضعت جانباً كل تلك التحيزات السابقة، وقلت إنني لست من تلك الفئات التي يمكن أن تُخدع بالمظاهر أو بالصياغات أو بغريزة القطيع، ولن أتأثر بهذا التنويم المغناطيسي، فإنك تصبح عندها الإنسان الطبيعي الذي يتحدث عنه الباحث توني بوزان في كتابه "القراءة السريعة" (the speed reading) والذي يذكر فيه أن المعدل الوسطي لاستيعاب الإنسان الطبيعي من القراءة هو فقط بين 50-60%. هل تتخيل هذا؟
وعندما تعرف ذلك، فإنك تدرك أن مسؤولية نقل المعلومة أو الخبر بالنسبة للإعلام تصبح خطيرة وحساسة، وتصبح المسؤولية الاجتماعية والمعايير المهنية والأخلاقية عنصراً جوهرياً فيها. ألا تستغرب اليوم حين تجد مجموعات كبيرة من الناس على وسائل التواصل الاجتماعي بمن فيهم مثقفون ومتخصصون يتداولون أخباراً زائفة أو غير دقيقة، بينما يستطيع الإنسان أن يكتشف زيفها بنظرة واحدة للمصدر أو للصورة أو لإحدى العبارات الواردة في الخبر، لكنك مع ذلك تجد أن الكثيرين ما زالوا مأسورين بهذا الخبر الذي يتداولونه بشغف، وقد أعمتهم إحدى التحيزات التي ذكرناها سابقاً، وجعلتهم لا يدركون زيفه على الرغم من وضوح هذا الزيف.
من الواضح إذن، أن مسؤولية الإعلام خطيرة، لكن السؤال الذي باتت تتفرع منه مدارس صحفية جديدة في السنوات الأخيرة هو؛ هل علينا الالتزام بمعايير الصحافة التقليدية الحرة والتي تعتمد النقل الحرفي للخبر بكل حياد وموضوعية، تاركين للجمهور أن يستوعب الأخبار دون مؤثرات محيطة؟ أم أن هذه التحيزات والتأثيرات المحيطة تتطلب من الإعلام اليوم أن يشق طرقاً جديدة مبنية على أساس المسؤولية الاجتماعية؟
والسؤال الذي يطرح اليوم هو ذاته، طُرح بعد الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة الأميركية والعالم الغربي، فقد وجد العالم آنذاك أن النظرية الليبرالية في حرية الإعلام وصلت إلى مرحلة لم يعد فيها ممكناً التمييز بين الحرية في نشر الأخبار، وبين الحرية للترويج للجنس والجريمة والعنصرية والفوضى وغيرها من الأفعال المخالفة، ولهذا فقد تشكلت لجنة شهيرة عام 1947 برئاسة البروفيسور روبرت هاتشينز ضمت أبرز نقاد الصحافة الأميركية من أمثال ثيودور بترسون ووليام ريفرز، وقد أجروا دراسة بتمويل دائرة المعارف البريطانية ومجلة التايم، وأعدوا تقريراً بعنوان "صحافة حرة مسؤولة"، وأكدوا ضرورة تطبيق نظرية المسؤولية الاجتماعية في الإعلام والتي أكدت على الحرية الإعلامية، لكنها أعطت للإعلام توصيفاً لم يسبق أن حصل عليه، وهو :"أن الإعلام أداة تعليمية".
ولم يتفق الإعلاميون منذ ذلك التاريخ على هذا الدور "التعليمي" للإعلام لعدة أسباب، أولها أن الإعلاميين كانوا معترضين على تشكيلة اللجنة والتي برغم احتواءها على العقول الأكاديمية والعلمية اللامعة، إلا أنها استبعدت الإعلاميين من تشكيلتها عمداً، وثانيها أن إدخال كلمة "تعليم" لدور الإعلام، استحضر في أذهان الصحفيين في الدول الرأسمالية، مفهوم "التوجيه" الذي كان أحد أركان تعريف الإعلام في الدول الشيوعية والاشتراكية إبان الحرب الباردة.
ولعلكم تتساءلون عن سبب استحضارنا لهذا النقاش اليوم، والجواب هو أنني اعتبر أن الأسباب التي أدت لظهور لجنة هاتشينز عادت مجدداً وظهرت بقوة في السنوات الأخيرة؛ لقد كانت فوضى المفهوم الخاطئ لحرية الإعلام وسهولة تدفقه، وتلاعبه بعقول الناس، تستحق أن تتشكل تلك اللجنة لمعالجته، وتستحق أن تجعل مجلة التايم ودائرة المعارف البريطانية تمول عمل تلك اللجنة لأربع سنوات وتدفع لها مايزيد عن 200 ألف دولار في تلك الفترة. لقد افتتحت آنذاك لجنة هاتشينز تقريرها في أول سطر، بأن اللجنة حاولت الإجابة عن سؤال مهم وهو: هل حرية الصحافة في خطر؟ الجواب هو: "نعم".
والملفت أن مشكلة اليوم تنتج عن أسباب معاكسة تماماً لما حصل أيام لجنة هوتشينز. لقد كانت المشكلة آنذاك كما وصفها التقرير بأن ملكية وسائل الإعلام كانت محصورة في يد مجموعات قليلة تتحكم بعموم الناس بلا "مسؤولية اجتماعية"، بينما المشكلة اليوم هي أن ملكية وسائل الإعلام أصبحت في أيدي الجميع لكن أيضاً "بلا مسؤولية اجتماعية"، ولذلك فإن النتيجة واحدة وهي أن التلاعب بالعقول ازداد، وأن "حرية الصحافة في خطر". لماذا؟ لأن فوضى ملكية وسائل الإعلام وتحولها إلى منصات متاحة لأي كان أدى لتشويه حرية الصحافة من خلال تبعية تلك المنصات الإخبارية على وسائل التواصل الاجتماعي لأفراد ومجموعات ودول قد تحرض على العنف والجريمة والمخدرات وتجارة الجنس كما حصل أيام لجنة هاتشينز.