تتجه الشركات والحكومات اليوم للبحث عن المدراء الذين يخططون للمستقبل ولا ينشغلون بالمهمات اليومية لدرجة تنسيهم التغييرات المتسارعة لما يحدث في العالم من تغيير تكنولوجي يتبعه تغييرات هائلة في مختلف نماذج الأعمال.
اليوم نجد المزج غير المسبوق بين عقليات الإدارة التقليدية والشابة اليافعة القادرة على التفكير برشاقة تناسب المستقبل، ولهذا فإننا نجد في مقال نشر على هارفارد بزنس ريفيو "لماذا استعان رئيس تنفيذي من جيل السبعينات بموظف من جيل الألفية" أن الاستعانة بالمدراء الشباب ساعدت الإدارة التقليدية في التخطيط للمستقبل.
ولاشك في أن التوازن بين الأهداف قصيرة المدى وتلك الطويلة، يعتبر إحدى التحديات التي تواجهها مجالس الإدارة في الشركات، إذ أنّ التجارب أكدت أنّ الفشل في تحقيق هذا النوع من التوازن، يضرّ بالشركة نفسها.
إنّ خلق التوازن ليس محصوراً بمهام معينة، إذ أنه ينسحب حتى على أدق التفاصيل المتعلقة بمهام المدير مثل تخطيطه لإحلال موظف مكان آخر. فمثلاً، عندما لا يركز أعضاء مجلس الإدارة على قدرات كل فرد من الأفراد المرشحين لمنصب ما، فإنّ ذلك سيؤثر سلباً على عملية اتخاذ قرار التوظيف عندما يحين الوقت لذلك، بالتالي فقد يؤثر إهمال التخطيط على التوجه الإستراتيجي للشركة، وهذا ما أكدته باربرا هاكمان فرانكلين، الرئيسة التنفيذية لشركة باربرا فرانكلين إنتربرايزس (Barbara Franklin Enterprises)، في إحدى المقابلات التي نشرت سابقاً في مجلة هارفارد بزنس ريفيو.
وعلقت فرانكلين مرحّبة بنصائح كل من جوزيف باور ولين باين اللذان أشارا في إحدى المقالات إلى أنه على مجالس الإدارة في الشركات مناقشة الاستراتيجيات على مدى العام، وذلك خلال الاجتماعات، إضافة إلى إدراج الاستراتيجية ضمن جدول أعمال الاجتماعات دوماً، وهو ما سيمكّن الشركات من مناقشة القرارات قصيرة الأمد وتلك الطويلة.
وعلى الرغم من أهمية نصائح كل من باين وباور، إلا أنها لم تتضمن خطة واضحة لتحقيق التوازن بين الأهداف الآنية للشركات، وتلك المستقبلية، وهو ما فعله كل من باول لاينواند، وسيزار ميناردي، وآرت كلاينر، عندما تحدثوا عن الفجوة بين الاستراتيجية النظرية والتنفيذ العملي، إذ قدموا للمدراء طرقاً تمكّن شركاتهم من النجاح، قائلين إنّ الجمع ما بين الجوانب الاستراتيجية والمهام اليومية في الشركات، كان سبباً في نجاح شركات كبرى، مثل أمازون وإيكيا، إضافة إلى شركة إنديتكس (Inditex) الإسبانية صاحبة متاجر بيع الملابس ومالكة العلامة التجارية زارا (Zara).
وأكد الكتاب الثلاثة أنّ محافظة الشركة على هويتها الواضحة، والتخطيط استراتيجياً للمحافظة على هذه الهوية، هو أحد أهم التقنيات التي تتبعها الشركات الكبرى في الدمج ما بين المهام اليومية والخطط المستقبلية. ومن أجل أن تتم عملية الدمج هذه، فإنّ على الشركات أن تتأكد أولاً من أنّ مهامها اليومية تطبق بشكل سليم، إذ لا يمكن التخطيط للمستقبل، إذا ما كانت المهام الحالية غير محققة على النحو المرجو، وبالتالي، ولتحقيق هذا الهدف، تحدث الكتّاب عن أهمية تعديل هيكل الشركة التنظيمي وإعادة النظر في نظام الحوافز فيها، لما في ذلك من أهمية لناحية حل مشكلة تنفيذ المهام إذا ما وجدت.
وقبل أن تتم عملية الدمج بين الخطط المستقبلية والمهام الحالية، يتعيّن على الشركات أن تكون حازمة في ما يتعلق باتخاذ القرارات الآنية التي تخدم أهداف الشركة في المستقبل، وهذا يتطلب المخاطرة في كثير من الأحيان، وهو ما أشار إليه روبرت وولكوت في مقاله: هل تتطلع شركتك نحو المستقبل أم هي أسيرة الحاضر؟ حيث أكد أنّ الشركات التي تعمل وفق نموذج عمل يركز على الحاضر ولا تحاول التطور "ستخسر على المدى البعيد، بينما ستنجح تلك التي تحاول رؤية المستقبل وجعله جزءاً من التغيير لديها". وفي المقال نفسه، ذكر وولكوت مثالاً عن شركة أوبر الرائدة في مجال النقل، والتي تتطلع إلى استخدام السيارات ذاتية القيادة، وتراه أحد أولوياتها الاستراتيجية، على الرغم من اعتمادها حالياً على آلاف السائقين المستقلين، وبالتالي، فإنّ تخطيطها للمستقبل بدأ من الآن، منطلقاً من توقعها لكيفية عمل السيارات الذاتية القيادة مستقبلاً. وينسجم هذا التخطيط المستقبلي الذي قامت به أوبر ما ورد في مقال كتبه محمد عبد الجليل الفهيم وخالد الفهيم في باب "من جيل إلى جيل" في العدد 12-2017 من هارفارد بزنس ريفيو العربية، حيث تحدث الكاتبان عن تجربة الشركة التي تعمل وكيلاً لسيارات مرسيدس منذ ما يقارب الخمسين عاماً، لكنها اليوم تتعامل مع خطط مستقبلية مستندة لدراسات تتوقع أن تتجه فئة من الناس في السنوات المقبلة أكثر فأكثر نحو استئجار السيارات بصيغ مختلفة بدلاً من شرائها. وهذا مادفع الشركة -بحسب الكاتبان- للاستعداد لتلك المرحلة منذ الآن عبر استحداث قسم لتأجير السيارات.
من خلال ما سبق، يمكننا التوصل إلى نتيجة مفادها أنّ التكامل الوثيق بين الرؤية الاستراتيجية واتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، يمكن أن يوفر النجاح المستدام للشركة على المدى البعيد.
ولإحداث هذا التكامل، على المدراء مواجهة التحدي الكامن في القدرة على رؤية المستقبل بوضوح، وهو ما أكده جوزيف بيتسوري، أستاذ الإدارة الريادية في جامعة إنستيتيوتو دي إمبرسا لإدارة الأعمال في مدريد، والذي رأى أنه عندما لا يكون القادة واثقين بشأن المستقبل، فإنّ ذلك سيؤثر سلباً على الشركة بأكملها.
وفي مقاله بعنوان "كيف يستطيع المدراء رؤية المستقبل بصورة أوضح"، تحدث بيتسوري عن مهارات يتعين على المدراء امتلاكها لرؤية المستقبل بوضوح، والقيادة بفعالية أكبر نحو المستقبل، وقد جاءت هذه المهارات ضمن مشروع نكست سنسينغ (Nextsensing) العالمي، الذي يديره بيتسوري.
وتتمحور هذه المهارات حول حاجة المدراء إلى تغيير طريقة تفكيرهم وقراءة أفضل ما كتب في مجال الأعمال، والإصرار على عدم اعتماد الوسائل القديمة في الإدارة، بل إنشاء نظم جديدة، إضافة إلى التحلّي بالشجاعة لتفويض بعض المهام إلى الموظفين العاديين، بدلاً من حصرها بالمدراء، وهو ما قامت به شركة فورد ذات مرة، عندما أطلقت شعار "الجودة في المقام الأول"، حيث لم تتردد بتفويض اتخاذ القرارات المهمة إلى فرق من العمال بدلاً من المدراء الأفراد.
وإضافة إلى المهارات التي على المدراء امتلاكها، فإنّ التحلي بالشجاعة لتبني القرارات التي تشكل نقلة نوعية تقنيات جديدة، والتخطيط المستقبلي على صعيد الوطني، قد يكون دافعاً أمام الدول لتعزيز مكانتها واستمراريتها، وقد يتخطى الأمر الحفاظ على وجودها إلى فرض نفسها كقوى فاعلة، أو تحولها إلى دولة متقدمة.
في العام الماضي، أطلقت دولة الإمارات خلال المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) تقرير استشراف المستقبل العالمي الذي يعد الأول من نوعه في العالم، وهو الذي نشرته مؤسسة دبي للمستقبل، وذكرت أن 21 مختصاً من جميع أنحاء العالم ساهموا في كتابة هذا التقرير حول قطاعات استراتيجية كالطاقة، والصحة، والتعليم، كما أنه يستعرض 112 تنبؤاً مستقبلياً سنشهدها في الـ 40 سنة المقبلة، وهذا ما يفترض قرارات استراتيجية سريعة وأكثرة جرأة.
لكن ماهو حال المدراء في المنطقة العربية، ومدى استعدادهم لهذا النوع من القرارات الاستراتيجية الجريئة في ظل انشغالهم بالقرارات اليومية؟
قمنا نحن علي أبو رحمة وبشرى جليل من كلية إدارة الأعمال في جامعة أبوظبي، العين، في الإمارات العربية المتحدة، بإجراء دراسة حول تأثير الوقت الذي يخصصه المدراء في الإمارات على الخطط الاستراتيجية للمؤسسات، وتوصلنا إلى أنّ المدراء في الإمارات يركزون على التخطيط المستقبلي أكثر من تركيزهم على إنجاز المهام الحالية، وهذا يرتبط بالتوجه الزمني لدى هؤلاء المدراء، إذ أنهم يختلفون عن مدراء الدول النامية الأخرى والذين يولون أهمية كبرى للماضي والحاضر أكثر من المستقبل.
وقد اعتمدنا على الاستبيان لاستطلاع آراء المدراء في الشركات الإماراتية، إذ شملت العينة 67 مديراً، 53.7 في المئة كانوا من الذكور، أما مشاركة الإناث فكانت بنسبة 46.3 في المئة، وجميعهم تخطّت أعمارهم الـ40 عاماً، إضافة إلى أنهم يشغلون مناصب إدارية عليا، في شركات تنوعت بين الخاصة 55.2 في المئة، وشركات القطاع العام 44.8 في المئة، بمتوسط خبرة معدله 19.72 عاماً.
وخلصت الدراسة إلى أنّ حوالي 76% من المدراء في الإمارات يخططون للمستقبل أكثر من انشغالهم بالمهمات اليومية أو الماضي. وهذا التوجه ربما ساعد فيه تحول القطاع الحكومي في الإمارات لمحرك لباقي القطاعات في الدولة نحو التخطيط الجريء للمستقبل. فهنا الحكومة التي تعين وزيراً للذكاء الاصطناعي، وتكلف وزارة شؤون مجلس الوزراء بمهمة استشراف المستقبل، والتي تهدف إلى "مساعدة الحكومات على توقع الفرص والتوجهات والتحديات والتداعيات المستقبلية، وتحليل آثارها، ووضع الحلول المبتكرة لها وتوفير البدائل عنها، الأمر الذي يساعد في نهايته على التخطيط الاستراتيجي السليم، الذي يسهم بدوره في توجيه السياسات وتحديد الأولويات بالشكل الأمثل ويساعد على وضع الخطط المستقبلية".
الدراسة أشارت إلى أنّ الغموض في بعض نواحي بيئة العمل قد يعيق أحياناً التخطيط الاستراتيجي من قبل المدراء، وهذا ما يؤكده مايك مانور وآدم واواك وفيفا أونا بارتوس، ولويس جوميز ميجيا، في مقالهم "كيف يؤثر القلق على قرارات الرئيس التنفيذي"، حيث اعتمدوا على إجابات 84 مديراً تنفيذياً على أسئلة حول أصعب القرارات التي واجهوها في عملهم، ليخلصوا إلى أنّ القادة الأكثر قلقاً وتوتراً، قد أقدموا على مخاطر استراتيجية أقل من نظرائهم الأقل قلقاً، وبالتالي، فإنّ التوتر واحد من العوامل التي يمكن أن تؤثر سلباً على بيئة العمل، لما من شأنه أن يقلل من رغبة المدراء في الإقدام على مراهنات استراتيجية كبيرة، يمكنها أن تقود الشركة إلى النجاح على المدى البعيد.