أطلقت المملكة العربية السعودية خلال الأشهر القليلة الماضية عدة مبادرات محلية وإقليمية وعالمية لدعم الاستدامة وحماية كوكب الأرض، بدءاً بمبادرة الشرق الأوسط الأخضر والسعودية الخضراء وصولاً إلى التعهد ببدء الخطوات نحو الحياد الكربوني.
وعلى الرغم من أن المملكة العربية السعودية هي أحد أبرز قادة العالم في إنتاج النفط الأحفوري، فإنها تسعى لتكون من أبرز الدول في تطبيق الاستدامة وتخفيف الانبعاثات الكربونية إلى الصفر. ودعونا نتعرف على هذه المبادرات التي ترسم خارطة توجه المملكة في هذا المجال، حيث نبدأ بمبادرة السعودية الخضراء لتقليل الانبعاثات الكربونية، وزراعة 10 مليارات شجرة وهو ما يعادل إعادة تأهيل 40 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة، ورفع نسبة المناطق المحمية إلى أكثر من 30% من المملكة، وهو ما جعل الخبراء يؤكدون أنها بمثابة عمل رائد لحماية الكوكب، كما تُعد مبادرة السعودية الخضراء بمثابة حجر الأساس لها التي ستقود السعودية من خلالها الجهود الإقليمية؛ لتحقيق المستهدفات العالمية في مكافحة التغير المناخي.
المبادرات الخضراء في السعودية
في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، انطلقت مبادرة السعودية الخضراء لتعمل على رفع نسبة المناطق المحمية إلى أكثر من 30% من مساحة أراضيها التي تقدر بـ (600) ألف كيلومتر مربع، لتتجاوز المستهدف العالمي الحالي بحماية 17% من أراضي كل دولة، ولتعمل كذلك على تقليل الانبعاثات الكربونية بأكثر من 4% من الإسهامات العالمية، وذلك من خلال مشاريع الطاقة المتجددة التي ستوفر 50% من إنتاج الكهرباء داخل المملكة بحلول عام 2030، ومشاريع في مجال التقنيات الهيدروكربونية النظيفة التي ستمحو أكثر من 130 مليون طن من الانبعاثات الكربونية، إضافة إلى رفع نسبة تحويل النفايات عن المرادم إلى 94%. ومن هنا تبنت العديد من الجهات والهيئات الحوكمة بالمملكة العربية السعودية هذا التوجه وسعت نحو تفعيل أهدافها.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أطلقت السعودية مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، مع برنامج يهدف لزراعة (50 مليار) شجرة وهو أكبر برنامج إعادة تشجير في العالم، لكن ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للانبعاثات الكربونية؟
إن زراعة 50 مليار شجرة يعني ضعف حجم السور الأخضر العظيم في منطقة الساحل، وبالتالي استعادة مساحة تعادل 200 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة ما يمثل 5% من الهدف العالمي لزراعة تريليون شجرة ويحقق تخفيضاً بنسبة 2.5% من معدلات الكربون العالمية، وبالتالي حماية البيئة والكوكب، وهو ما أكدته السعودية خلال مؤتمر غلاسكو حيث تهدف إلى الوصول لمرحلة الحياد الكربوني أي 0% صافي انبعاثات الكربون بحلول عام 2060، مع التخطيط لأكثر من 60 مبادرة بتكلفة أولية تقارب 190 مليار دولار.
هاتان المبادرتان سترسمان توجه المملكة العربية السعودية في قيادة الحقبة الخضراء المقبلة، وقيادة المنطقة لحماية الأرض والطبيعة، ووضعها في خارطة طريق ذات معالم واضحة وطموحة، وستسهمان في تحقيق المستهدفات العالمية، كما تعززان الجهود البيئية التي يجري العمل عليها، وتحقيق رغبة المملكة الجادّة في مواجهة التحديات البيئية، المتمثلة في ارتفاع درجات الحرارة، وانخفاض نسبة الأمطار، وارتفاع موجات الغبار والتصحر، وتعزيز الصحة العامة، ورفع مستوى جودة الحياة.
بداية من العمل على تنمية الغطاء النباتي الطبيعي، والحد من آثار التصحر، واستعادة التنوع الأحيائي في البيئات الطبيعية، وإعادة تأهيل مواقع الغطاء النباتي المتدهورة، جاء دور وزارة البيئة والمياه والزراعة، محورياً في المبادرة وصولاً إلى تعزيز السلوكيات الإيجابية للحفاظ على بيئة الوطن، وحماية البيئة وتحسين جودة الحياة؛ حيث أكدت بدء المرحلة الأولى من مبادرات التشجير بزراعة أكثر من 450 مليون شجرة، وإعادة تأهيل 8 ملايين هكتار من الأراضي المتدهورة، وزيادة نسبة الأراضي المحمية في المملكة خلال السنوات الأربع الماضية من 4% إلى 20% من إجمالي مساحتها، والعزم على تحويل مدينة الرياض إلى إحدى أكثر المدن العالمية استدامة.
المساهمة في إنقاذ الكوكب
لكن كيف يساهم العمل الرائد لهذه المبادرة في إنقاذ الكوكب؟ أو هل هذا بالفعل يمكن تحقيقه على أرض الواقع؟
الإجابة هنا، تعتمد على النظرة العامة التي تقدمها وسائل الإعلام الجماهيرية؛ حيث تعكف على تسليط الضوء على العوامل التي تؤثر في كوكبنا. وبفضل النشطاء البيئيين على مستوى العالم، يمكننا إدراك أن مصادر الطاقة المتجددة هي الحل الأمثل للحد من الآثار السلبية للتقدم الصناعي.
بالفعل، حقق قطاع الطاقة تقدماً في هذا الشأن بتقديم خطة للتحول إلى نموذج خالٍ من الكربون. وتتخذ الشركات حالياً الخطوات اللازمة لتحسين البصمة الكربونية من خلال إنتاج صديق للبيئة. ومن هذا المنطلق، تكشف مبادرة السعودية الخضراء توجه المملكة إلى حماية الأرض والطبيعة، واستكمالاً لدعم وتحسين جودة الحياة وحماية الأجيال المقبلة من خلال: زيادة الاعتماد على الطاقة النظيفة، وحماية البيئة وإعادة التوازن البيئي. ونفذت المملكة المنتدى الخاص بها تحت شعار "حقبة جديدة من العمل: الواحة تنبض"، واستطاع المنتدى أن يجمع منظومة العمل المناخي بأكملها تحت سقف واحد، لتحقيق الأهداف الطموحة، واتخاذ إجراءات ملموسة، وإطلاق حلول مبتكرة تُسهم في مكافحة التغير المناخي.
في نهاية الأمر، النجاح في مكافحة التغير المناخي سيعني أننا سنعمل جميعاً معاً بأقصى قدر ممكن من السرعة والتفكير. على كل واحد منا إيجاد طرق للتأثير، سواء كان ذلك بإطلاق مبادرات شجاعة للحد من انبعاثات الكربون في شركتك، أو بناء قوة من ناحية الأداء المالي، وهذا ما عملت عليه وزارة البيئة والمياه والزراعة لتحويل الصحراء إلى أرض خضراء وإعادة تأهيل ملايين الهكتارات من الأراضي خلال العقود المقبلة، إذ يساهم التشجير في تنمية الغطاء النباتي وتنمية الحياة الفطرية، بما يتفق مع الكلمة السابقة لولي العهد السعودي، حيث تمثل الأشجار العمود الفقري للبيئة والتنوع الأحيائي، وسيكون لها أثر في تنقية الهواء من الملوثات، والحد من الآثار البيئية والاجتماعية والاقتصادية للعواصف الغبارية، ومكافحة التصحر، وتحسين جودة الحياة، ودعم السياحة البيئية، وكذلك سيكون لها أثر اقتصادي مباشر وغير مباشر، مثل توفير فرص عمل لأفراد المجتمع، وتنمية القرى والمدن والأرياف، وسيتم تنفيذ المبادرتين بناءً على دراسات علمية، وتجارب دولية، ولدى المملكة العربية السعودية خبرات في مثل هذه المشاريع والمبادرات الكبرى؛ ما يعزز من فرص النجاح. كما ساهمت حملة "لنجعلها خضراء" التي انطلقت عام 2020 في تغطية 165 موقعاً في جميع مناطق المملكة، منها 37 موقعاً تابعة للحملة، وذلك بالتعاون مع المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر ومشاركة القطاع العام، والقطاع الخاص، والقطاع الثالث (القطاع الخيري)؛ بهدف الوصول إلى 10 ملايين شجرة خلال الفترة المحددة من أكتوبر/ تشرين الأول 2020 إلى أبريل/ نيسان 2021، للمساهمة في تنمية الغطاء النباتي.
وهناك بعض الدراسات السابقة عن اقتصاديات المناخ، مثل تقرير "ستيرن" الشهير قبل عقد من الزمن، التي أبدت تقييم المخاطر على المستوى الكلي نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، واكتشفت دراسات أخرى أثر التحرك العالمي لتقليل انبعاثات الكربون على الاستثمارات، وتأتي حملة وزارة البيئة والمياه والزراعة السعودية بفكر جديد عن زراعة الأشجار المهددة بالانقراض، والتي تعرضت للرعي الجائر والاحتطاب والاقتلاع، فضلاً عن التوسع العمراني الذي طال مواقعها الطبيعية، والعمل على توفير الأعداد الكافية من شتلات الروثة والغضى والأرطى والرغل والأراك والمرخ المهددة بالانقراض لزراعتها إضافة إلى مشروع زراعة أشجار المانغروف في منطقتي مكة المكرمة وجازان، وزراعة السبخات في عدد من المواقع؛ وهو ما عرضه جناح السعودية في قمة المناخ للأمم المتحدة (Conference of the Parties) أو (COP).
ولتفعيل دور مبادرة السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر، حضر أكثر من 90 ضيفاً "قمة لندن للمبادرة الخضراء السعودية" (SGI Saudi Green Initiative) في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 لمناقشة أفضل طريقة لتطبيق أهداف المناخ الخاصة بالمبادرة السعودية.
واستعرض الاجتماع عزم السعودية على زيادة كمية الطاقة المولدة من المصادر المتجددة إلى 50% بحلول عام 2030 ورفع النسبة المئوية للمناطق المحمية إلى أكثر من 30% من إجمالي مساحة الأراضي في البلاد. وبالتالي رحب المدافعون عن المناخ والمراقبون بخطة المملكة العربية السعودية بمليارات الدولارات لمكافحة تغير المناخ في الشرق الأوسط، لكنهم يؤكدون أن نجاحها يتوقف على التعاون الهادف من الدول الأخرى.
تبشر المبادرة السعودية بمستقبل واعد عن طريق رؤية واعدة وواقعية، كما تنطلق من خلال الإيمان القوي بحماية مستقبل كوكبنا والبشرية، وفي الوقت الذي تعتمد فيه دول كثيرة على الصادرات النفطية لدفع عجلة نموها الاقتصادي جاءت الرؤى الحديثة الخاصة بالمملكة العربية السعودية لتركز جهودها على التنويع الاقتصادي وإيجاد اقتصاد بديل للنفط، وتعزيز آفاق النمو المستدام من خلال الاستثمار الأخضر، بسبب الاهتمام المتزايد حيال التأثيرات البيئية السلبية للاستهلاك النفطي. كما إنها تؤمن بأنه سيعود بالنفع على الاقتصاد من خلال الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة ومساعدة الاقتصاد السعودي في تجنب التكاليف الرئيسية من أجل مجابهة التأثيرات المستقبلية المحتملة للتغير المناخي والاحتباس الحراري العالمي وخطر النضوب المحتمل للاحتياطيات النفطية في البلاد.