يتخذ قادة الشركات القرارات كل يوم، سواء كانت قرارات كبيرة أم صغيرة، إيجابية أم سلبية. وتؤثر جميع هذه القرارات على الموظفين والزبائن والمساهمين والمجتمعات وعلى المجتمع ككل. لذا، أعتقد أن من الضروري تكييف الصفات الأساسية للقائد بهدف اتخاذ هذه القرارات بطرق أدبية وأخلاقية. فمن المهم أن يتمتع القادة الناجحون، اليوم وفي العقود المقبلة، بقدرات قيادية ثلاثية تضم الذكاء والذكاء العاطفي واللباقة. بمعنى آخر، يجب أن يمتلك القادة مزيجاً من سمتين مألوفتين، ألا وهما الذكاء والذكاء العاطفي، وسمة أخرى من المهم الإقرار بها وإبرازها، ألا وهي اللباقة.
تُعد الكفاءة أمراً أساسياً في الشركات، ويُعتبر الذكاء الذي أشير إليه هنا بمصطلح حاصل الذكاء هو السمة الأكثر شيوعاً والمرتبطة بقادة الشركات الناجحين. ونحن لا نتحدث عن درجة اختبار حاصل الذكاء فقط، وإنما عن الفكرة الواسعة لكفاءة الشركة وفهم ما يلزم لنجاحها اليوم.
يدرك معظم القادة مفهوم الذكاء العاطفي المتمثّل في الوعي الذاتي بعواطفنا وبعواطف الآخرين. كما أن امتلاك المدير لمعدل ذكاء عاطفي عالي يعني وعيه بأحاسيس موظفيه وقدرته على معرفة ما يدور في خلدهم، وتصرفه بناءً على تلك المعلومات. ومع ذلك، فإن الذكاء العاطفي لا يعني أن تراعي تصرفاتك ما هو أفضل بالنسبة إلى الآخرين. إذ لا يتساوى الوعي والتعاطف مع الرأفة والسلامة، بمعنى أنه قد يمتلك الأفراد ذكاء عاطفياً بالفعل، بيد أن استخدامه يكون من أجل استغلال الآخرين في سبيل تحقيق منفعتهم الشخصية. فالذكاء العاطفي لا ينطوي على فعل الصواب دائماً.
بينما تنطوي اللباقة على مفهوم أعمق من الذكاء العاطفي. إن الالتزام بحدود اللباقة لا يعني امتلاك الفرد سمة التعاطف مع الموظفين والزملاء فقط، وإنما يعني امتلاكه الرغبة الحقيقية في رعايتهم. كما أنه يعني الرغبة في توفير شيء إيجابي للجميع في مكان العمل وضمان شعور الجميع بالاحترام والتقدير. ويتجلى الالتزام بحدود اللياقة في التفاعلات اليومية مع الآخرين. كما أنه ينطوي على التركيز على فعل الآخرين الصواب.
كان الرئيس التنفيذي لشركة ماستركارد أجاي بانجا أول شخص يُعرّفني على سمة اللباقة في حديث أمام طلابنا في كلية "فوكوا لإدارة الأعمال" (Fuqua School of Business) بجامعة "ديوك" (Duke). ووفق ما أفاد بانجا، "يُعتبر حاصل الذكاء مهم جداً، وينطوي حاصل الذكاء العاطفي على القدر نفسه من الأهمية، بيد أن ما يهمني بالفعل هو سمة اللباقة. وإذا تمكّنت من الالتزام بحدود اللباقة في مكان العمل كل يوم، ستصبح الشركة مكاناً ممتعاً جداً للموظفين الذين سيستمتعون بوجودهم فيها وفي تأديتهم المهمات على نحو صحيح".
لسوء الحظ، يوجد لدينا العديد من الأمثلة من عالم الشركات حول ما يحدث عند عدم الالتزام باللباقة. وتُعتبر فترة الركود الكبير مثالاً بارزاً في هذا الصدد. إذ لا تزال الشركات في القطاع المالي تحاول بعد عشر سنوات استعادة الثقة من عامة الشعب الذين اعتقدوا أن هذه الصناعة تتّسم بالجشع وتخدم مصالحها وتركز على صافي المبيعات على حساب الصالح العام. في الواقع، وجد مؤشر إيدلمان للثقة، لعام 2019، والذي يقيس مدى ثقة الجمهور في المؤسسات/ أن الخدمات المالية هي الصناعة الأقل ثقة، إذ أشار 57% فقط من الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع إلى ثقتهم بها. ومع ذلك، نجد أن هذا الرقم قد ارتفع بنسبة 2% مقارنة بالعام الماضي. وقد يكون سبب ارتفاعه هو تعمّد القادة فهم الثقافة في القطاع المالي الذي أسفر عن تأجيج الركود. ويعمل البنك الاحتياطي الفدرالي في مدينة نيويورك بنشاط على معالجة الثقافة من خلال دعوة قادة الصناعة وقادة كليات الإدارة في سبيل محاولة معالجة المشكلة وجهاً لوجه، وإيجاد حلول طويلة الأجل (إفصاح: لقد ساهمت شخصياً في هذه الجهود). وهذا هو المستوى الأعلى من المشاركة في مجال التمويل الذي قد يستعيد ثقة الجمهور في نهاية المطاف.
وتوجد أمثلة أخرى كثيرة أيضاً عن القادة الذين تبنّوا سمة اللباقة. وقد شاركتُ في الآونة الأخيرة في ندوة مع الرئيس التنفيذي لمؤسسة بنك "أوف أمريكا" (Bank of America) براين موينيهان في جامعة "ديوك" أمام طلابنا. وطرحتُ عليه سؤالاً أثار دهشة الجمهور، إلا أن براين لم يلق لهذا السؤال بالاً:
كيف عمل بنك أوف أمريكا على تخفيض عدد الموظفين بحوالي 100.000 موظف منذ أن أصبح رئيساً تنفيذياً دون تحريض غضب شعبي كبير؟
وأوضح موينيهان مدى تغير الخدمات المصرفية نتيجة ظهور التقنيات الجديدة. وقد كان لدى بنك "أوف أمريكا" حوالي 5 ملايين مستخدم للهاتف المحمول عندما أصبح الرئيس التنفيذي في عام 2010. بينما ارتفع هذا العدد اليوم ليصل إلى أكثر من 26 مليون مستخدم. فالابتكار في التكنولوجيا جعل الانخفاض في العمالة أمراً لا مفر منه، إذ أضحى الزبائن يُنجزون المزيد من أعمالهم عبر الإنترنت، وقلّت تفاعلاتهم البشرية. وتابع موينيهان قائلاً: "والسؤال هو: كيف يمكننا تحقيق ذلك؟".
لقد قرر هو وفريقه اتباع نهج الاستنزاف، سواء نتيجة التقاعد أو انتقال الموظفين إلى وظائف جديدة. وقرروا عدم استبدال الوظائف تلقائياً، إذ كان انتقال الموظفين إلى وظائف جديدة يحصل على مدار سنوات. بدلاً من ذلك، عندما يقرر موظف ما مغادرة الشركة، يُقدم له البنك أفضل تقييم لكي يمضي قدماً في تنفيذ هدفه. وقد كان ذلك يعني في بعض الأحيان تطوير أعضاء الفريق الحالي من خلال توفير مسؤوليات وتعويضات إضافية. بينما عنى في أحيان أخرى إعادة تصميم العمل من أجل تغيير الاحتياجات التشغيلية. وفي الحالتين، سمح هذا التركيز للشركة بإجراء تغييرات مهمة عند تسريح الموظفين. على سبيل المثال، أتاحت الوفورات في التكاليف لبنك "أوف أميركا" زيادة تعويضات نهاية الخدمة لمدة عام ونصف العام للموظفين الذين عملوا مع الشركة لعدة سنوات، وسمحت له أيضاً بزيادة برامج الانتقال إلى وظائف جديدة. علاوة على ذلك، ساعدت هذه الوفورات في تعزيز بعض مزايا الموظفين، مثل الإجازات الوالدية، والإجازات في حالات الوفاة، والدعم الاستشاري وموارد الخصوبة والتبني والدعم.
وأعتقد أن براين وفريقه تعاملوا مع تحدي تسريح العمال مع الالتزام بحدود اللباقة. ونظراً إلى أن سمة اللباقة كانت المبدأ التوجيهي الذي قادهم، شعر عمالهم وزبائنهم بدعمهم ورعايتهم، حتى أثناء هذا الانخفاض الكبير في القوة العاملة. وجرى التعامل مع الأمور التي تسبب انعدام الثقة بطريقة أكثر إنسانية، مثل فقدان الوظائف.
نحن ندخل اليوم حقبة قد تزداد فيها احتمالية الإحساس بعدم الثقة، إذ تعمل التكنولوجيا والابتكار والأتمتة على تغيير طبيعة العمل. وبدلاً من ترك هذه التغيرات تثبط عزيمتنا، يمكننا الالتزام بحدود اللباقة لإيجاد طرق للمضي قدماً دون تجاهل أحد. ونظراً إلى التزام القادة الذين يتسمون باللباقة بالابتكار، نرى أنهم لا يفكرون في ما يجري ابتكاره فقط، وإنما فيما يجري هدمه أيضاً. ولا يتمحور الابتكار حول العثور على حلول جديدة فحسب، بل يتعلق بمساعدة المعزولين عن عملهم أيضاً. ويدرك القادة الذين يتّسمون باللباقة أن قراراتهم لا تنطوي على تحقيق الأرباح فقط، وإنما ستؤثر أيضاً على المئات أو الآلاف أو حتى الملايين من الأشخاص.
وفي حال تعمّدت الشركات الالتزام بحدود اللباقة، فأعتقد أنها قد تصبح قوة شافية يحتاجها عالمنا بشدة. ويمكنها عندها أن تبدأ في إعادة بناء الثقة التي فقدتها مع الموظفين والزبائن. وقد تصبح نموذجاً يقتدى حول كيفية اجتماع الأفراد المختلفين جداً للعمل على تحقيق هدف مشترك. كما يمكنها أن تساعد في حل بعض من أصعب المشكلات في العالم من خلال توحيد الأفراد للعمل معاً على إيجاد الحلول. ولكن، لا بدّ من أن يكون الالتزام باللباقة بمثابة صفة أساسية في القيادة بغية نشر هذا المفهوم. إن الذكاء والذكاء العاطفي أمران جوهريان، بيد أن الالتزام باللباقة يضمن استخدام حاصل الذكاء وحاصل الذكاء العاطفي لإفادة المجتمع وليس لهدمه.