"أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم"؛ مقولة شهيرة جداً نُسبت إلى القائد طارق بن زياد على أساس أنه قالها خلال خطاب حماسي ألقاه على جنوده قبل معركة وادي برباط سنة 711، وذلك بعد أن أمر بحرق السُفن التي نقلتهم من شمال إفريقيا إلى جنوب إسبانيا، لكن مصادر كثيرة تؤكد أن طارق بن زياد لم يأمر بحرق السفن بل وتُرجح أنه لم يتلفظ أصلاً بهذه المقولة، والأدلة على ذلك كثيرة منها أن عدداً من السُفن لم يكن أصلاً ملكاً للمسلمين، ثم إنه أقام قاعدة عسكرية قريبة من مكان المعركة ليأوي إليها في حال الانسحاب؛ أما أصل فرضية حرق السُفن، فيعود إلى بعض المؤرخين الإسبان الذين لم يتقبلوا هزيمة جيش لذريق الذي كان يتفوق من حيث العدد والعتاد بنحو 10 أضعاف على الأقل، فعللّوا الهزيمة بالقتال المستميت المدفوع بغريزة البقاء لدى جيش المسلمين، لكن الحقيقة ببساطة هي تطبيق طارق بن زياد استراتيجية مُحكمة مكّنته من تجريد العدو من ميزة التفوق العددي. (هذه تحتاج إلى مقال وحدها بما أن لديها إسقاطات في ميدان الأعمال الربحية).
لكن من غرائب صُدف التاريخ أن قائداً آخر من إسبانيا اسمه إرنان كورتيس أمر فعلاً بتدمير السُفن التي أقلّت مجموعة من المحاربين معه عندما كان يخطط لغزو المكسيك عام 1519، وذلك بعدما أيقن أن جزءاً من أتباعه مُشتت الذهن ويُفكر في أمور غير هدف الحملة العسكرية، مثل الاستيلاء على الذهب والعودة إلى أحضان الأهل والوطن على متن السُفن المتاحة، لذلك أرسل رسالة واضحة مفادها أنهم إذا أرادوا النجاة بأنفسهم، فلا يوجد خيار آخر غير القتال وتحقيق النصر. كورتيس أدرك أن لديه فرصة حقيقية للنجاح في حملته العسكرية على الرغم من شحّ الموارد والجنود، لكنها فُرصة لن يُكتب لها النجاح دون الوعي التام لجنوده بخطورة الموقف، فلجأ إلى قاعدة عسكرية تعود جذورها لعدة قرون قبل الميلاد، وتحديداً لأقدم مخطوطة معروفة عن الاستراتيجية العسكرية "فن الحرب"، التي ذكر فيها الجنرال الصيني صن تزو عبارة "أرض الموت" (Death Ground) ليصف الوضعية التي يكون فيها الجيش مُحاصراً داخل تضاريس جغرافية تمنعه من التفكير في الهرب، فيضطر إلى مواجهة العدو ويُقاتل بأضعاف القوة والروح المعنوية اللتين يُقاتل بهما عادة في أرض مفتوحة فيها إمكانية الهرب.
لماذا قاعدة "أرض الموت" للتخلص من الكسل والتسويف؟
في عام 1955، نشر الباحث البريطاني نورثكوت باركنسون مقالاً في مجلة ذي إيكونوميست (The Economist)، وردت فيه العبارة الآتية: "إن العمل يمتد ليملأ الوقت المتاح لإنهائه"، فنالت إعجاب الكثير من القرّاء وأصبحت تُعرف فيما بعد باسم "قانون باركنسون"، وفحوى هذا القانون هو أن الأفراد يستهلكون كل الوقت المتاح لتأدية مهمة معيّنة، حتى لو كانت تتطلب وقتاً أقل بكثير، وبصيغة أخرى، عندما يكون الوقت المتاح ضيقاً ويوجد تهديد حقيقي بالعواقب في حال عدم الإنجاز (أرض الموت)، يعمل الفرد بوتيرة أعلى ويركّز على الأمور المهمة ويحاول إنجازها بسرعة، وعندما يتوافر متسع كبير من الوقت لإنجاز عمل ما، فغالباً ما يقع الفرد فريسة للتسويف والتأجيل والاهتمام المبالغ بالتفاصيل الفرعية غير المهمة.
من زاوية علمية، فالعقل البشري يميل غريزياً إلى اقتصاد الطاقة وعدم إصدار الأوامر ببذل أي مجهود ما لم يكن هناك تهديد حقيقي للإنسان أو على الأقل سبب وجيه، لذلك إن أردت الإنجاز بغض النظر عن ظروفك التي تبدو صعبة، فعليك أن تضع "مستقبلك على المحك". يصف روبرت غرين في كتابه 33 استراتيجية للحرب هذه الوضعية بقوله: "أرض الموت هي ظاهرة نفسية تتجاوز ساحة المعركة العسكرية، فهي مجموعة من الظروف التي تشعر فيها بأنك مُحاصر بلا خيارات بديلة، وأن هناك ضغطاً حقيقياً على كاهلك يجعلك تواجه خطراً مُميتاً يحدق بك، لذلك عليك التصرُف قبل نفاد الوقت وإلا فسوف تتحمّل عواقب وخيمة".
لماذا قاعدة "أرض الموت" في شهر رمضان بالذات؟
تنخفض إنتاجية الموظف العربي بنحو 35% إلى 50% في الشهر الفضيل، على الرغم من أن العديد من الدراسات الحديثة أكّدت أن الصيام يساعد على التحكم بالوزن، وتحسين المزاج، وتعزيز التركيز، ورفع مستوى الطاقة، وتحسين جودة النوم، والعيش لفترة أطول؛ وحتى عقائدياً، فالنصوص المقدسّة التي تبيّن فضل الصيام كثيرة، ولا يوجد نص واحد يعلّل انخفاض إنتاجية الصائم أو كسله أو تسويفه، بالإضافة إلى مقاصد الصيام الاجتماعية مثل تحقيق التكافل ومساعدة الغير وتهذيب النفس والتحكم فيها؛ وبالتالي فإن الصيام بريء من كل السلوكيات السلبية وحالة الكسل والتسويف التي تنتاب البعض، والمشكلة الحقيقية هي في العقليات نفسها والعادات الراسخة، لذلك فالحل هو خلق الإحساس بالخطر والحاجة الملحّة للإنجاز (Sense of Urgency) عبر قاعدة "أرض الموت". بالمناسبة، معركة وادي برباط التي حقّق فيها طارق بن زياد نصراً باهراً كانت في شهر رمضان.
خطوات عملية لوضع نفسك في "أرض الموت"
"العالم تحكُمه الضرورة، فالناس لا يغيّرون سلوكهم إلا إذا اضطروا إلى ذلك، ولن يشعروا بالحاجة الملحّة إلا إذا كانت حياتهم تعتمد على ذلك". هكذا لخّص روبرت غرين قاعدة "أرض الموت"، ليُضيف 5 نصائح عملية لتطبيق هذه القاعدة العسكرية والتخلص من الكسل والتسويف:
- راهن بكل ما تملك على تحقيق هدف واحد: محاولة تحقيق العديد من الأهداف يجعل جهودك الجسدية والنفسية مشتتة، لذلك ركّز على هدف واحد خلال فترة زمنية محددة، وتخيّل أن مُستقبلك على المحك وأن كارثة ستحُل بك في حال لم تحققه، وستجد نفسك تبذل أضعاف ما تتخيله من جهد لتحقيقه.
- تصرف حتى ولو لم تكن على أتم الاستعداد: عندما لا نواجه ضغطاً خارجياً، نتأخر كثيراً في المبادرة وإنجاز ما علينا من مهام (قانون باركنسون)، لذلك عليك التحرك ووضع نفسك في "نقطة اللاعودة"، ما يُجبرك على الاستخدام الأمثل لقدراتك المتاحة وحتى مفاجأة منافسيك إن وُجدوا.
- لا تخشَ اقتحام مجالات جديدة: لا تركن إلى منطقة راحتك حتى لا تقع في خطأ شركة نوكيا، وتذكّر دائماً محاربة الانحيازات السلوكية التي تجعلك تركُن إلى الوضع السائد.
- فكر بعقلية "أنا وحدي ضد الجميع": عندما تشعر بأن الكثير من الأشخاص يتمنون رؤيتك تفشل، يولد ذلك قدرة هائلة على المواجهة والإنجاز، لذلك حاول أحياناً خلق بعض "الأعداء"، على الأقل في مخيلتك، حتى يحفزك ذلك على التحرك وبذل جهد إضافي.
- اجعل شهيتك دائماً مفتوحة على تحقيق المزيد: نابليون بونابرت قال ذات مرة: "أحياناً، يأتي الموت فقط بسبب تلاشي طاقة الإنسان". اجعل المخاطرة المحسوبة أسلوب حياة لك، وضع دائماً أشياء ثمينة على المحك يمكن أن تفقدها إذا لم تتحرك وتُنجز.
تجدر الإشارة إلى أن الكثير من المصطلحات الحديثة في مجال الأعمال تتقاطع مع هذه القاعدة العسكرية، على غرار لحظة سبوتنيك والضفدع المغلي ومتلازمة المنصة المحترقة ولحظة كوداك.
طارق بن زياد لم يأمر بحرق السفن، لكن عليك فعل ذلك: احرق سُفن نجاتك وضع نفسك دائماً في مواجهة "العدو" حتى تتخلص من الكسل والتسويف.