ما رأيك لو اكتشفت أنك يمكن أن تقع تحت تأثير التنويم المغناطيسي حين تتابع الأخبار وتتأثر بها وتساهم بنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي؟ هل تعتقد أنك محصّن من التأثر بالأخبار المزيفة كلياً أو جزئياً؟ إذاً، تعال معي في هذه الرحلة من الوقائع:
هل تعلم على سبيل المثال أن قناعتك بالخبر الذي تقرأه أو المعلومة التي تجدها في تقرير أو كتاب، تصبح راسخة حينما يُرفق الخبر أو التقرير بصورة دماغ؟ نعم، هذا ما أثبتته دراسة لجامعة كولورادو عام 2007، ثم أثبتته دراسة أخرى لجامعة مينيسوتا عام 2018، وقد قارنت إحدى الدراستين بين مجموعتين عرض عليهم الخبر ذاته؛ واحد مرفق بصورة للدماغ والثاني بصورة أخرى لا توحي بالبعد العلمي، فكانت النتيجة بوضوح، أن المجموعة التي قرأت الخبر مرفقاً بصورة الدماغ صدقته بنسبة أكبر بكثير. هل تظن أن هذا "التلاعب بالعقل" لا يشملك؟ ربما عليك أن تفكر مرة أخرى حينما تعلم طبيعة المشاركين في هذه الاختبارات وتنوعهم، وحينما تعلم أن صورة الدماغ ما هي إلّا مؤشر واحد عما يمكن استخدامه من مؤثرات علم النفس السلوكي في زراعة الأخبار والقناعات.
تذكّر كم مرة شاركت فيها خبراً أو معلومة على وسائل التواصل الاجتماعي، ثم اكتشفت أنك استعجلت في ذلك بعد أن نبهك أحد الأصدقاء إلى خطأ المعلومة أو الخبر أو جزء فيه؟
والسؤال الذي ربما تطرحه على نفسك في نقاش داخلي هو؛ ما الذي دعاني لتصديق هذا الخبر ومشاركته بسرعة، على الرغم من أنني لو أمعنت التفكير قلياً لاكتشفت أنه مثير للشكوك وغير مطمئن؟
قد تكون الصورة هي السبب، أو ربما ناشر الخبر الذي تعتقد أنك تثق به، أو الموقع الإلكتروني الذي يزعم أنه ينقل عن مصادر موثوقة، أو يدعي أنه يترجم من خبر منشور في صحيفة عالمية. حتى بلغ الأمر من الاستهتار بقدرات القراء العقلية نشر فيديوهات باللغة الإنجليزية وتزوير ترجمتها دون وجل، ومع ذلك فقد حققت انتشاراً ومشاركة واسعة من بعض فئات الجمهور.
يكمن الجواب في التوصيف العلمي لمثل هذه الحالة التي يقع فيها كثيرون منا، والتي تسمى (Cognitive bias) أي "التحيز الإدراكي"، حيث نميل إلى تصديق ما يناسب معتقداتنا وأهوائنا حتى ولو كان غير صحيح بالمحاكمة المنطقية والواقعية. حسناً، والسؤال الذي يليه؛ ما هي نسبة مثل هذه الخيارات والقرارات التي يمكن أن يرتكبها الإنسان خلال يومه ويساهم فيها بنشر الأخبار الزائفة أو على الأقل تصديقها؟ إلى أي مدى تتحكم مثل هذه التحيزات "اللاوعية" بخياراتنا اليومية في استهلاك الإعلام وإعادة مشاركته؟
الجواب أيضاً بحسب الدراسات العلمية، فقد بينت الجمعية الأميركية للصحة لعلم النفس الفردي والاجتماعي في إحدى دراساتها، أن 40% من أفعالنا وقراراتنا اليومية نتخذها وفقاً لعادات ومحركات في "اللاوعي". بل أكثر من ذلك، فقد أثبتت التجارب والأبحاث العلمية أنك حينما تواجه البشر بقراراتهم أو اختياراتهم، فإنهم قد لا يدركون لماذا اختاروا هذا الرأي أو ذاك، وربما لا يدركون أنهم ارتكبوا خطأً إلا بعد فوات الأوان. وبالتأكيد فقد سمع معظمنا الكثير عن قصص الندم والصدمة التي أبداها العديد من البريطانيين الذين صوتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي فيما يعرف بالبريكست، بعدما راجعوا أنفسهم واكتشفوا أنّ قراراتهم لم تكن واعية. ويكفينا للدلالة على حجم هذه الصدمة، أن نشير إلى أن كلمة جديدة ولدت في اللغة الإنجليزية بعد ذلك الاستفتاء اسمها (Bregret) أي (Brexit) ثم (Regret) ومعناها "الندم على التصويت للبريكست".
في الحالات التي تكون فيها نتائج قراراتنا غير الواعية واضحة ومصيرية كقرار البريكست أو تأييد أو معارضة قرار أو قانون مصيري بشكل متسرع، أو ربما التشهير وإدانة متهم تثبت براءته بعد حين، يمكن حينها أن نشعر بالندم حين لاينفع الندم.
لكن ماذا عن تلك القناعات التي نتبناها وننشرها ولا نعلم ربما أننا مخدوعون بها أصلاً؟
ولكي نجيب عن هذا السؤال دعونا نميز بين نوعين من الأخبار والمعلومات الزائفة؛ الأولى هي تلك "الأخبار الكاذبة" التي لا أصل لها، وهي بالطبع، مختلقة كلياً عن تلك الأخبار التي تلعب لعبة التزييف بذكاء فتدس السم في الدسم كما يقال. ولكي توقن بداية أن ثمة أخباراً كاذبة تبث بشكل مقصود ومباشر، يمكنك أن تقرأ كتاب "لماذا يكذب القادة" (Why Leaders Lie) للباحث جون ميرشايمر، حيث ستجد نماذج صريحة من الكذب الذي مارسه قادة سياسيون عبر التاريخ، ما تسبب بحروب أو تسبب في إخفاء حالات فساد أو طمس معالم حقائق كانت ستغير التاريخ. وبصرف النظر عن المبررات التي ستجدونها في هذا الكتاب، فإن الخلاصة هي أن من ارتكب هذه الكذبات كان يعلم أنها كذب، ونشرها إعلام ربما يعلم أنها كذب.
وإذا كانت الأخبار الكاذبة تُمارس في وسائل الإعلام وعبر ما يسمى "المؤثرين" وصفحات التواصل الاجتماعي على جمهور يتسم بصفة قطيعية ويسير بغريزة القطيع، فإن الكذب "المغلف" يمارس بدهاء وعلم على الجمهور صاحب المستوى الذهني والثقافي الأعلى. ولكي تقرر إلى أي مدى يمكن أن تكون قد نجوت من واحدة من هذه الأخبار أو وقعت ضحيتها، يمكنني أن أسرد لك بعض الخلفيات العلمية البحثية التي درست نفسيات الجمهور لتمرير مثل هذه الأخبار.
هنالك ما يسمى في علم التسويق - وهذا ينطبق على المنتجات والأخبار - ما يطلق عليه نظرية السندويتش، والتي تحدث عنها كتاب "قوة العادات" (The Power of Habit) للكاتب تشارلز دويغ، حينما عرض كيف تتبع هذه الطريقة لتمرير أغنية سيئة بين أغنيتين محبوبتين اجتماعياً وتكرر عبر الإذاعات حتى يحبها الناس فعلاً، وهذا طبعاً يمكن أن يكون أمراً "تبلعه" في الأخبار بشكل يومي دون أن تشعر. وخلاصته: "دس السم في الدسم".
بل أكثر من ذلك، فقد يكون الخبر صحيحاً والمعلومات كذلك، لكن طريقة تقديمها وتوقيتها توجهك لاتخاذ موقف معين، وعُد ثانية إلى علم السلوك الذي يستند إليه المسوقون وصنّاع الأخبار معاً، حيث يكتشف من علم السلوك أن وضع الفاكهة في مقدمة المنتجات التي تجدها في السوبر ماركت والشوكولا عند "الكاشير" ليس أمراً عبثياً، بل هو مدروس ليجعلك تستهلك هذه الأشياء ويعرضك للضغط من أطفالك المرافقين لشرائها. وهذا المبدأ كما يمكن أن تتخيل يستخدمه الإعلام من حولك في الليل والنهار، حينما يجعلك تعيش في ثقافة من المصطلحات والأفكار، تهيئك في الوقت المناسب لقبول أي خبر وتبنيه. فالإنسان معتاد على عدم قبول الغموض في المعلومات، ويعتقد دوماً أن ثمة تفسيراً مباشراً وحاضراً لكل مشكلة، وهنا يبادر بعض الإعلام والمؤثرين وقادة التواصل الاجتماعي لملء الفراغ، فتصبح الإشاعة منتشرة كالفيروس ويصبح التحليل من "خبير" كأنه حقيقة ومعلومة وليس مجرد رأي، وهكذا.
ويعوّل إعلام "البروباغاندا" باستمرار على النظرية التي اعتمدها جوزيف غوبلز وزير الدعاية في نظام هتلر، والذي لخصها بالفكرة التالية: "اكذب كذبة كبيرة، اجعلها بسيطة، كررها باستمرار، فيسصدقها الناس، لأن غالبيتهم يتأثرون بالعواطف والمشاعر بشكل أكبر".
ولعلك تتساءل: هل الأخبار الكاذبة، ما زالت منتشرة في عصر ثورة المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي؟ بالطبع. بل هي أكثر من ذي قبل، لأن تدفق المعلومات وتعدد وسائل النشر الاجتماعي جعل إمكانية غربلتها أصعب، وجعل صنّاعها كثر ولم تعد مقتصرة على ما يسمى الصحفي المهني معروف العنوان. في هذا النوع من الأخبار والتي صنفناها بأنها كاذبة كلياً أو جزئياً، يعتمد ناشر الخبر والذي هو غالباً صاحب "أجندة" محددة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها على عدة عوامل لنشره، أولها أن غالبية الناس ينجرون وراء الاختيارات الجماعية دون تفكير لمجرد أن الخبر يتم تداوله ومشاركته من المجموعة التي ينتمي إليها أحدنا سياسياً أو اجتماعياً أو دينياً، فالغالبية عادة تسير وفقاً لما يسمى في علم النفس الإعلامي "غريزة القطيع" متأثرين بالتحيزات التي ذكرناها من قبل. وهذا يعني أن قلة فقط من الناس يمكن أن يخطر في أذهانهم محاكمة الخبر ومقارنته بالمنطق والتأكد من المصادر، وغير ذلك من الخطوات التي باتت منهجاً يدرّس للمختصين والقراء والمتابعين معاً في عصر ثورة المعلومات وفوضويتها، ومنها هذه السلسلة من الأدلة الصادرة عن مركز الإعلام الأوروبي والتي شاركت في كتابة أحد فصولها "دليل التحقق الاستقصائي".
ومع كل ما سبق، هل يمكن أن تسأل؛ كيف يعقل أن ينتشر خبر كاذب في عصر المعلومات والتواصل الاجتماعي؟ هل ما زلت تسأل؟ الجواب، ليس لأن الناس تؤمن بما تؤمن به طائفتها السياسية أو الدينية أو الاجتماعية؟ ولكن أولاً لأن الناس عموماً لا تقرأ ولا تتحقق، ولم يعد لديها القدرة على التحقق حتى ولو أرادت بسبب التدفق الكبير للمعلومات، وباتت القناعات تتشكل باختيارات جماعية وليست فردية. وهذا بالضبط ما عوّل عليه غوبلز سابقاً وما زال ساري المفعول حتى اليوم، فقد كان يعول على تشكيك الجمهور بنفسه حينما يشك في أحد الأخبار.
لقد وصلت العلاقة بين بعض الإعلام والجمهور إلى حد التعامل الحقيقي بمنطق "القطيع"، فلا الإعلام بات مهتماً بأدنى درجات التحقق والتدقيق فيما ينشره، ولا الجمهور المتابع لذلك الإعلام بات مبالياً، وانظر إلى الحالات التي تتناقل فيها وسائل الإعلام خبراً عن بعضها البعض بطريقة "النسخ واللصق"، دون أن يكتشف أحد الخطأ الذي وقع فيه صانع الخبر الأول بقصد أو بغير قصد. ولكي أقدم لك مثالاً، يمكنك أن تبحث في جوجل عن العبارة التالية " إفلاس بيتزا هت"، حيث ستجد أنّ معظم وسائل الإعلام العربية التي تعرفها تنقل ذات الخبر، وإذا دققت في تاريخ نشر الخبر لأول مرة ستجد أن وكالة أنباء روسية تنشر أخبارها بالعربي، هي أول من نشر الخبر مترجماً بخطأ مقصود أو غير مقصود عن صحيفة وول ستريت جورنال التي نشرت الخبر لأول مرة بالإنجليزية، لكن لم يفكر أحد من عشرات الوسائل الإعلامية العربية التي نشرت الخبر بأن يعود إلى وول ستريت جورنال ويتأكد من الخبر حتى اليوم، على الرغم من أنهم نشروه جميعاً في العام 2017، وعلى الرغم من أنهم ما زالوا يطلبون بيتزا هت عبر الديليفري إلى مكاتبهم! الجميع نقل الخبر بالعربي عن تلك الوكالة الروسية وذكروا ضمن الخبر أن هذا الخبر مصدره "وول ستريت جورنال" والتي لم تذكر ببساطة أن بيتزا هت أفلست، وإنما أعلن أحد الحاصلين على ترخيص "فرنشايز" من شركة بيتزا هت في أميركا إفلاسه وليست بيتزا هت ذاتها.
وإن كان ما سبق مجرد نموذج لاستهتار الإعلام بالتحقق من معلوماته في منطقتنا العربية، والتي ما زالت حتى اليوم خاطئة على الرغم من مرور عامين على نشرها، فذلك يدل على أمرين، أولهما أن الإعلاميين باتوا يعيشون بقناعة تامة، أن معظم جمهورهم يعيش في حالة تنويم مغناطيسي، فقرروا هم الآخرين السبات في نوم مشابه، فلم يعودوا يهتمون بمراجعة ما ينشرونه أو ما نشروه، أو قرروا ممارسة الكذب تجاه الجمهور النائم دون تردد، وثانيهما أن الجمهور بات أمام حالة من اثنين؛ فهو إما منوم مغناطيسياً أو غير مبال.
هل نتوقع أن يقوم بعض الجمهور بالتحقق من المعلومات التي ينشرها الإعلام؟ يحدث ذلك في كثير من الحالات، ولكن فقط في الإعلام الذي استطاع بناء مصداقية وثقة مع قاعدة واعية من الجمهور. عندها ستجد أن الجمهور ينبهك لمثل هذه الأخطاء، لأن الجمهور الذي يحتوي بين أفراده مثقفين وخبراء والذي يعلم مسبقاً حرصك على الدقة، "سينكزك" بتعليق وينبهك إلى خطأك. أما إن كان يعلم أنك إعلام تمارس هذا التضليل ليل نهار فلن يلتفت لتنبيهك، بل سيفترض أنه جزء من عملك اليومي. انظر إلى ما تنشره مواقع الأخبار الساخرة مثل "الحدود" و"أونيون" و"دير بوستليون" الألماني حين تتحول تلك الأخبار الساخرة برعونة بعض الإعلاميين إلى أخبار حقيقية يتداولها الجمهور ضمن دوائره التي يثق بعضها ببعض دون أن ينتبه أحد أو ينبّه حتى ولو كان يعلم أنها ليست أخباراً، بل مجرد سخرية مختلقة. ويمكنكم مراجعة الخبر الذي نشره عام 2015 موقع "دير بوستليون" الألماني الساخر بعنوان "السوري الوحيد الذي حضر اجتماع فيينا حول السلام" في إشارة إلى النادل الذي كان يقدم المشروبات للمشاركين، وانظروا عدد المواقع الإلكترونية والصحف العربية التي نشرت الخبر على أنه حقيقة، وما زالت تحتفظ به بكل فخر. لقد انهارت ثقافة "إصلاح الخطأ" في الإعلام العربي، حيث ألف الجمهور الأخطاء المقصودة وغير المقصودة وسار في ركب جماعاته الضيقة وقناعاته المسبقة. ويمكنك أن تقرأ كتاب "التأثير- علم نفس الإقناع" (Influence: The Psychology of Persuasion) للكاتب روبرت تشالديني لتجد فصولاً عن الأبحاث التي تثبت أن الناس ميّالون للقرارات التي يتبناها جيرانهم أو محيطهم أو الجماعة التي ينتمون إليها، كما يمكنك أن تجد في مقالات هارفارد بزنس ريفيو الدراسات التي تؤكد أن الناس يتوقفون عن التنبيه للخطأ عندما يعلمون أن الآخرين يعرفونه ولا يبالون.