كيف يمكن تحديد قوة الثقافة لدى الدول لمواجهة الأزمات؟ هل تحدد ثقافة الدولة مدى ضعفها في مواجهة تطور الأوبئة داخلها؟
حاولت من خلال بحثي الجديد في كلية سليمان العليان لإدارة الأعمال في الجامعة الأميركية في بيروت الإجابة عن هذا السؤال، على أمل تقديم آفاق جديدة والتشجيع على مواصلة البحث والاستكشاف في هذه المسألة. وجد البحث أن العوامل الثقافية قد تكون خط الدفاع الأول ضد الأوبئة في المستقبل. فقد تطور "كوفيد-19" أو انحسر داخل الدول بناءً على بُعدين من الأبعاد الثقافية ل نظرية هوفستيد (Hofstede’s theory)، ألا وهما: تجنُّب المجهول، والتساهل، حيث إن الدول التي سجلت نقاطاً عالية في بُعد "تجنُّب المجهول" وسجلت نقاطاً منخفضة في بُعد "التساهل" كانت مقاومتها للوباء ضعيفة. ومن الأمثلة على ذلك: إيطاليا وإيران واليابان وكوريا الجنوبية، التي كانت على قمة التصنيف قبل الإعلان عن تحول الفيروس إلى جائحة. وبذلك يمكن أن يضطلع الممارسون وواضعو السياسات والمسؤولون التنفيذيون بدور مباشر في منع تفشي الفيروس بالتركيز بصفة رئيسية على مجتمعاتهم من خلال التعليم والتواصل والإجراءات الاستباقية.
منذ بداية ظهور "كوفيد -19" في أواخر عام 2019 حتى إعلانه جائحة في 13 مارس/آذار عام 2020، كان يتم التهوين من تداعياته، والمعلومات المقدمة حوله كانت مؤقتة لأن وسائل الإعلام كانت تحاول فهم هذا التهديد المجهول. بدأ التحليل بمقارنة عوامل مختلفة (التركيبة السكانية والحوكمة والاقتصاد والرعاية الصحية، وغير ذلك) بين الدول، ووجد أنها لا تؤثر سوى بشكل طفيف على أفضل تقدير. وفي حالة مرض "كوفيد-19"، لم تكن تلك العوامل كافية للحد من تطور هذا الوباء، كما تَبين أنه في الدول ذات العوامل المتشابهة هناك اختلافات جذرية في مقاومتها الأولية للمرض. وبذلك فإن فرضية هذا البحث تأخذ في الاعتبار العوامل الثقافية المؤثرة؛ وهي التأقلم والاستجابة.
قوة الثقافة لدى الدول
تنص نظرية هوفستيد، التي يعتمدها علماء النفس بين الثقافات على نطاق واسع، على أن هناك 6 أبعاد ثقافية داخل كل دولة، وهي: الفردية مقابل الجماعية، وتجنُّب المجهول، وفارق القوى، والذكورية مقابل الأنثوية، والتوجه طويل المدى، والتساهل. وتُمنح الدول درجات على كل بُعد على مقياس يتراوح بين منخفض إلى مرتفع. وقد أشارت النتائج الأولية لهذه الدراسة إلى أن الدول التي حصلت على درجات متشابهة أظهرت مقاومة متشابهة أو ضعف متشابه في مواجهة الأوبئة، ما يدل على احتمالية وجود علاقة ترابطية.
من بين الأبعاد الستة الخاصة بتحديد قوة الثقافة لدى الدول، كان هناك بُعدان أساسيان في التأثير بشكل مباشر على ضعف الدولة في مواجهة الفيروس. تجنُّب المجهول هو الطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع حقيقة أن المستقبل لا يمكن معرفته أبداً؛ أما التساهل فهو المدى الذي يحاول به الأفراد التحكم في رغباتهم ودوافعهم بناء على الطريقة التي تربّوا عليها. بعبارة أخرى، الأفراد الذين كانوا مقاومين للتغيير وغير راغبين في الامتثال للقواعد المعدّلة في الظروف الخاصة، كانوا يفاقمون الوضع. (يمكن الاطلاع على ترتيب كل دولة على هذه الأبعاد من خلال هذا الموقع: https://www.hofstede-insights.com).
الدول التي أظهرت ضعفاً شديداً في مواجهة تطور "كوفيد -19" سجلت درجات منخفضة في بُعد "تجنُّب المجهول". وبالمقابل، فقد تَبين أن الدول التي حصلت على درجات عالية في هذا البُعد لديها معتقدات وسلوكيات صارمة وأنها لا تتساهل مع التصرفات المستاهلة. كما تعتمد مكافحة تفشي فيروس كورونا المستجد بشكل كبير على تكييف الناس سلوكياتهم التقليدية بسرعة، وهو ما يعد أمراً صعباً على الشعوب التي حصلت على درجات منخفضة في بُعد "تجنُّب المجهول". ففي تلك المجتمعات، هناك حاجة إلى القواعد، والوقت يعني المال، وأفراد هذه المجتمعات يتسمون بأنهم مدمنون على العمل، وملتزمون بمواعيدهم ويتسمون بالدقة، ولكنهم يميلون إلى تجاهل الابتكارات. وهذه الاستعدادات المسبقة جعلت التحكم في تطور "كوفيد-19" يمثل تحدياً في تلك المجتمعات.
الدول التي أظهرت ضعفاً شديداً في مواجهة تطور مرض "كوفيد -19" سجلت درجات منخفضة في بُعد "التساهل"، حيث تتصف المجتمعات في تلك الدول أنها مقيدة أو متحفظة، ما يعني أن الأفراد يميلون إلى الشك والتشاؤم، ما يدفعهم إلى السخرية من التهديدات الوشيكة والتقيد بدرجة أقل بالمعلومات الأولية التي تصلهم حول "كوفيد-19". فالأفراد في هذه المجتمعات يحاولون التحكم في إشباع رغباتهم ويولون أهمية أقل لأوقات الفراغ ويتأثرون بالأعراف الاجتماعية. وبالتالي فإن مقاومة هذه الأعراف الاجتماعية في المراحل الأولى من ظهور "كوفيد-19" (من خلال التوقف عن الزيارات العائلية والالتزام بالتباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات، وغير ذلك) كان أمراً صعباً بالطبع. فهذه الاستعدادات المسبقة جعلت المجتمعات التي سجلت نقاطاً منخفضة في بُعد "التساهل" ضعيفة في مواجهة التطور المبكر لمرض "كوفيد -19".
الانتقال من المخاطر الصحية إلى الثقافة الوطنية وثقافة الشركات
عند التعامل مع المواقف الصعبة التي يكتنفها الغموض، يعتمد الناس بقدر كبير على العوامل الثقافية. ومع توفُّر معلومات موثوقة تدريجياً، يتلاشى دور الثقافة. وفي أوقات الأوبئة، يؤثر ذلك بشدة على تفشي الفيروس على نطاق واسع. لذا يجب على واضعي السياسات، أثناء التخطيط للوقاية من الأوبئة في المستقبل، أخذ التأثير الأولي للثقافة في الاعتبار. ويمكن للشركات الكبرى أيضاً أن ترسِّخ ذلك في ثقافاتها، بأن تصبح "أقل تجنباً للمجهول" وأكثر تكيفاً مع التغيير. كما أن الأدوات البسيطة ولكنها فعالة للغاية، مثل المعلومات الموثوقة والتواصل المستمر والوعي والتعليم، لديها تأثير مباشر على السلوك التنظيمي. وتوفير تلك الأدوات يقي من العوامل المستقبلية المجهولة، سواء كانت طبية أو غير ذلك. ينبغي للمؤسسات المتعددة الجنسيات أن تكون حذرة بشكل خاص، لأن فروعها الموجودة عبر الحدود ستواجه تحديات خاصة، حتى داخل الشركة نفسها.
المخاطرة: محمودة في الأعمال التجارية، ومذمومة في أوقات تفشي الأوبئة
عادة ما يُشجع القادة ورواد الأعمال على المخاطرة، لأنها في معظم الحالات تكشف للأعمال التجارية عن فرص جديدة ومجالات غير مجرَّبة من قبل. ولكن في الظروف الاستثنائية، المخاطرة قد تؤخر الاستجابة. فعندما يتأخر المدراء في استيعاب خطورة الموقف وفي الالتزام بالتدابير الصارمة على الفور، فإنهم بذلك يعرضون سلامة التسلسل الهرمي بأكمله للخطر. من أبرز الأمثلة على ذلك ما فعله إيلون ماسك الذي كان "يقلل باستمرار من خطورة الأزمة وكتب على موقع تويتر تغريدات تتضمن معلومات مضللة مثل أن ’الأطفال محصنون في الأساس’ ضد الفيروس" (بزنس إنسايدر Business Insider، 2020). وإذا تصرَّف المدراء على نحو مماثل، فسيكون لذلك عواقب خطيرة. فمن واجبهم إدخال ممارسات جديدة لإعادة توجيه ثقافة شركاتهم التي تكون في كثير من الحالات نسخة مبسطة من ثقافة الدولة. يمكنك الضغط هنا وهنا للاطلاع على المقالات المنشورة في موقع "بزنس إنسايدر".
صنيعك سينعكس على الآخرين
نحن نعيش على الكوكب نفسه. فعندما تفشل دولة ما في الحد من تفشي الفيروس، سيترتب على ذلك موجات من التفشي في دول أخرى. والتفويض السليم وأسلوب الإدارة لهما القدرة على قلب الموازين. ولكن إذا لم يعمل القادة على بناء عقليات سليمة لمواجهة الأوبئة، فإن الدول التي يبدو أنها في أمان ستضطر في نهاية المطاف إلى تحمُّل نتيجة أفعال الدول المهملة مرة أخرى. ويمكن للقادة السبّاقين استخدام هذه المعلومات للحد من أوجه ضعفهم في المستقبل من خلال تعزيز التكيف الثقافي. وفي حين أن الصين هي المكان الذي بدأت منه الأزمة، إلا أنها تُعد مثالاً جيداً في هذا الصدد. فبوصفها دولة مقيدة، حيث سجلت درجات منخفضة في بُعد "تجنُّب المجهول"، كان مواطنوها متكيفين بصورة جيدة وسريعي الاستجابة. واشتملت السلوكيات الحكومية النموذجية على تغيير الكيفية التي يتم بها توصيل المواد الغذائية وفرض حظر تجوال صارم بشكل سريع.
اقرأ أيضاً: نقاط القوة في الشخصية