ملخص: قد نلتمس بعض العذر لتركيز الشركات على القضايا الملحة اليوم في ظل استمرار الجائحة وهبوب رياح معاكسة للنشاط الاقتصادي. ولكن هناك عدداً من القضايا الماسة بالعنصر البشري التي تلوح في الأفق وتنذر بمخاطر منهجية جسيمة على المؤسسات وسمعتها. ويضمن التعاطي مع الأسئلة الخمسة التالية خروج شركتك من الجائحة في وضع أقوى وأكثر استعداداً لمواجهة ما يخبئه لنا المستقبل: 1) كيف تحقق التوازن بين قوة العمل البشرية والأتمتة في شركتك؟ 2) ما خططك المعدّة سلفاً لتطبيق نظام العمل عن بُعد؟ 3) كيف تسهم في ضمان الصحة العقلية للموظفين؟ 4) كيف تتواصل مع أصحاب المصلحة؟ 5) هل تسعى لتحقيق غاية أسمى تخدم المجتمع ككل؟
منذ أن فتكت الجائحة بالبشرية، ومدراء الشركات العالمية يوجّهون كل تركيزهم إلى القضايا التشغيلية والمالية لمؤسساتهم على أمل النجاة من الأزمات الصحية والصدمات الاقتصادية المتتالية، حيث يعطون الأولوية لصحة الموظفين وسلامتهم، ويبذلون جهدهم لحماية الثقافة المؤسسية وضمان عمل شركاتهم بالكفاءة اللازمة.
ومع ذلك، فلا يوجد أنسب من هذا الوقت أمام قادة الشركات للتركيز أيضاً على حزمة أعمق من القضايا المتعلقة بالموظفين التي ستهيمن على الشركات في حقبة ما بعد أزمة "كوفيد". وهناك ما لا يقل عن 5 أسئلة تتعلق بالعنصر "البشري" والتي يجب على الشركات التعاطي معها عند خروجها بسلام من الجائحة والحقبة التي تليها.
كيف تحقق التوازن بين قوة العمل البشرية والأتمتة؟
كان خبراء الاقتصاد يتوقّعون تعرّض الكثير من الوظائف للفقدان بسبب الأتمتة، حتى قبل تفشي أزمة "كوفيد-19". إذ توقّع تحليل أجرته مؤسسة "أوكسفورد إيكونوميكس" عام 2019 أن ما يصل إلى 20 مليون وظيفة في قطاع الصناعة على مستوى العالم مهددة بالفقدان بحلول عام 2030 بسبب الأتمتة.
وقد نشهد في ظل هذه الجائحة ارتفاع وتيرة الأتمتة في المؤسسات وانخفاض أعداد العناصر البشرية في وقت أقرب مما كان متوقعاً في السابق، حيث أدت عمليات الإغلاق وغيرها من سياسات الصحة العامة والتدابير الاحترازية إلى انهيار غير مسبوق في الطلب العالمي وما صاحب ذلك من انكماش في الاقتصاد العالمي. وأعلن الكثير من الشركات عن تسريح العمال، بينما تنذر شركات أخرى بمزيد من عمليات التسريح إثر اعتمادها بصورة أكثر كثافة على العمالة المؤتمتة. وبلغ مجموع الوظائف التي تم فقدها في الولايات المتحدة وحدها حوالي 10 ملايين وظيفة منذ أن بدأت الجائحة.
ويجب على الشركات من هذا المنطلق أن تخطط لانحسار الوظائف بمعدلات أكبر في ظل انتشار الرقمنة، إلى جانب ضرورة إعادة النظر في الهياكل التنظيمية للشركات. وتشمل هذه الخطط جذب الموظفين ذوي المهارات الصالحة للمستقبل وتزويد قوة العمل الحالية بالمهارات التكنولوجية اللازمة لبيئة الغد الحافلة بالتحديات.
ونظراً لخطورة هذه المشكلة، فيجب أن تشارك الإدارة العليا، جنباً إلى جنب مع مجلس الإدارة، في التخطيط للانتقال من قوة العمل البشرية إلى قوة العمل المؤتمتة. ويعتبر هذا الانتقال تحولاً هيكلياً يحدث مرة واحدة كل جيل، ويعيد رسم ملامح أسلوب عمل الشركة، وبالتالي يجب على الإدارة العليا التعامل معه من خلال الإجابة عن عدد من الأسئلة الرئيسية: ما الحجم المثالي لقوة العمل، وما حجم رأس المال الذي يجب أن تخصصه الشركة لتعزيزها؟ وما العمليات والمناصب الوظيفية التي لم تعد مطلوبة؟ وما المجالات والمناصب الناشئة التي يجب أن تستثمر فيها الشركة؟ وما المعايير التي يمكن للإدارة تتبعها لقياس سلاسة الانتقال إلى قوة عاملة أكثر اعتماداً على الأتمتة؟ وما الاستثمارات التي ينبغي تنفيذها لصقل المهارات وجذب قوة العمل في المستقبل؟
يجب على الإدارة العليا التعامل بصورة أكثر حساسية مع كل ما يخص موظفيها والمجتمعات التي تعمل فيها، فضلاً عن المخاوف المجتمعية الناشئة عن مخاطر انتشار البطالة، حيث تتعامل بعض الشركات، على سبيل المثال، مع مسألة الاستغناء عن موظفيها بطريقة مختلفة، وذلك من خلال إنشاء صناديق الأسهم أو تخصيص رسوم لدفع رواتب الموظفين المسرّحين مؤخراً، سواءً كانوا من العمالة المنتظمة أو من العاملين بنظام التعاقد الحر.
ما خططك المُعدّة سلفاً لتطبيق نظام العمل عن بُعد؟
يجب أن تُعد الشركات خطط العمل عن بُعد لإدارة مؤسساتها. ويجب أن تطرح الإدارة أسئلة تشمل: ما نسبة العمل عن بُعد التي تتيح للشركة إدارة عملياتها بكفاءة على المدى الطويل؟ وما خطوط الإنتاج المهيأة للعمل عن بُعد بحكم طبيعتها؟ وهل يمكن للشركة وضع خطط العمل عن بُعد لأفراد بأعينهم بدلاً من اعتماد سياسة شاملة لكل موظفيها؟ وإلى أي مدى تصلح المقاييس الحالية لمستوى لأداء والأجور والترقيات في بيئة العمل عن بُعد؟ وكيف يتأتى للشركة أن تحافظ على ثقافتها في ظل زيادة مساحة العمل عن بُعد؟
يمكن إعداد خطة لمكان العمل استناداً إلى العلاقة النسبية بين مدة العمل التعاوني ومدة العمل الفردي للموظف العادي. إذ يمكن، على سبيل المثال، هيكلة خطة العمل بحيث تفترض أن 60% من عمل كل موظف يتم من خلال التعاون مع زملائه، ويتطلب التواصل المباشر معهم وجهاً لوجه في مقر الشركة، في حين أن 40% منه عبارة عن عمل فردي ويمكن إنجازه عن بُعد. وتضع الإدارة على هذا الأساس خطة عمل تُلزم الموظف بالعمل لمدة ثلاثة أيام من أصل كل خمسة أيام في مقر الشركة، والعمل عن بُعد في اليومين المتبقيين. ومن الطبيعي أن تسترشد النسبة التي تستقر عليها الإدارة بخصوصية القطاع الذي تعمل فيه الشركة والعلاقة النسبية بين مقدار العمل التعاوني والعمل الفردي الذي يصلح لظروف كل شركة.
ويؤدي الانتقال بطبيعة الحال إلى سياسة أكثر اعتماداً على العمل عن بُعد إلى طرح أسئلة أكثر صعوبة، مثل: كيف توازن الشركة بين مصالحها وتفضيلات كل موظف؟ حيث ستلاحظ الشركة أن الكثير من الموظفين سيبدون رغبتهم في العمل من المنزل بحجة أن هذا كان ممكناً خلال الجائحة. وستظهر أمام إدارة الشركة تعقيدات إضافية حينما تحاول الاختيار بين عمل أعضاء الفريق عن بُعد كوحدة واحدة أو بصورة فردية.
علاوة على ذلك، كيف تحمي الشركات ثقافتها حينما تصبح قوة العمل أكثر انتشاراً ويعمل موظفوها عن بُعد؟ وكيف ستضمن تحديداً أن يظل كل الموظفين متمسكين بثقافة الشركة وهدفها ولا يشعرون بالعزلة والانفصال الوجداني عن الفريق، وخاصة الموظفين الجدد والشباب الذين لم يكوّنوا علاقات وطيدة بعد؟
يجب أن تتأكد الشركات في نهاية المطاف من استدامة العمل عن بُعد، بمعنى أنه يدافع عن ثقافة الشركة ويمكّن الشركة من النمو وتحقيق الربح وتلبية احتياجات العملاء والمجتمع بالتوازي مع توفير السعادة والشعور بالاندماج للموظفين. وقد أثبتت شركة "غِت لاب" المتخصصة في التقنيات التكنولوجية، على سبيل المثال، إمكانية نجاح نموذج العمل من المنزل لأن عملياتها تُدار بواسطة قوة عاملة عن بُعد بنسبة 100% تقريباً.
كيف تسهم في ضمان الصحة العقلية للموظفين؟
كشف تقرير صادر عن لجنة "لانسيت" عام 2018 أن الصحة العقلية يمكن أن تكبّد الاقتصاد العالمي خسائر بقيمة 16 تريليون دولار أميركي تقريباً حتى عام 2030. تتمثل هذه الخسائر في التكاليف المباشرة اللازمة لتوفير الرعاية الصحية والأدوية وغيرها من العلاجات، بالإضافة إلى تكاليف فقدان الإنتاجية.
وقد ارتفعت معدلات الإصابة بالأمراض العقلية "بصورة مرعبة" في مختلف أنحاء العالم على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، ويرجع ذلك جزئياً إلى ارتفاع معدلات الأعمار وارتفاع أعداد الأطفال الباقين على قيد الحياة حتى سن المراهقة، ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه خلال العقود المقبلة، وفقاً للمؤلف المشارك في قيادة لجنة "لانسيت" فيكرام باتل. وتؤدي الجائحة إلى تفاقم هذه المشكلات، حيث يُتوقع أن يعاني الموظفون من القلق والاكتئاب والاحتراق الوظيفي والشعور بالصدمة واضطراب ما بعد الصدمة لسنوات قادمة.
وستكون الشركات مطالبة في ظل محدودية الميزانيات الحكومية بأن تتحمل قدراً أكبر من المسؤولية في هذا المجال. وفي حين أن الكثير من الشركات تراعي فعلياً اعتبارات الصحة العقلية، فهناك الكثير من الجهد الذي يجب بذله على صعيد التكلفة وتقديم الرعاية الصحية العقلية وآثارها العملية على المؤسسات بمفهومها الأوسع. وستكون الشركات ملزمة على وجه الخصوص بدراسة إمكانية تقديم استشارات الصحة العقلية للموظفين وأسرهم وتمويل العلاجات المحددة من قِبَل المختصين، بالإضافة إلى تعزيز ثقافة يشعر فيها الموظفون بالثقة اللازمة لعرض مخاوفهم.
كيف تتواصل مع أصحاب المصلحة؟
لم تعد القضايا الماسة بالعنصر البشري ترتبط بموظفي الشركة فقط. فقد بات الكثير من أصحاب المصلحة في الشركات، سواء كانوا من الجهات الرقابية أو العملاء أو المساهمين أو المجتمعات، أكثر حرصاً على معرفة أدق التفاصيل حول كل شيء بدءاً من متوسط الأجور المدفوعة وظروف العاملين وصولاً إلى مصدر منتجاتهم وأثرها البيئي. ولا يفتأ الموظفون يشاركون التفاصيل المرتبطة بثقافة شركاتهم وممارساتها على المنصات الرقمية، مثل "غلاسدور" (Glassdoor) و"بلايند" (Blind) و"ذا لاي أوف" (The Layoff). وصار انتشار شكاوى العملاء على وسائل التواصل الاجتماعي في لحظة واحدة أمراً في غاية السهولة.
ومن هنا يجب على الشركات التسلح بالاستراتيجيات الملائمة واكتساب مهارات جديدة والاستعانة بعمليات مناسبة للتعامل مع هذه الآراء وتعزيز التواصل مع أصحاب المصلحة بمختلف أطيافهم. وهذا يعني تحديد مصادر الآراء ومراعاة تصورات أصحاب المصلحة في عملية صناعة القرار في الشركة. وبإمكان الإدارة المبادرة باستخدام المنصات الرقمية لكي تمنح نفسها الفرصة لتتبع ميول العملاء والموظفين أولاً بأول بصورة مباشرة وبلا رتوش، ومن ثم الرد عليها والتفاعل معها.
هل تسعى لتحقيق غاية أسمى تخدم المجتمع ككل؟
يجب على قادة الشركات أخيراً تكييف مؤسساتهم بحيث تعكس غاية أسمى تتجاوز تحقيق عوائد للمساهمين فحسب. وقد كانت الشركات في سبيلها فعلياً نحو رؤية أكثر رحابة، وهو ما اتضح جلياً في خطاب "جمعية بزنس راوند تيبل" (Business Roundtable) لعام 2019 الذي وقعت عليه مئات الشركات العالمية الكبرى متعهدة بالسعي لتحقيق غاية أسمى والعمل على تحقيق النفع العام.
ويُقصَد بتحقيق النفع العام أنه يجب على الشركات التعامل مع الأسئلة المعقدة، مثل: من يجب اعتباره موظفاً؟ وهل يقتصر هذا الوصف على العاملين بدوام كامل المقيدين في سجلات الشركة أم ينبغي توسيع تعريف الموظف بحيث يشمل الموظّفين بعقود والموردين والعاملين بلا عقود؟
يتعين على الإدارة أيضاً تقييم ما إذا كانت الرقمنة ستقوض الجهود المبذولة لتحقيق المزيد من التنوع والاندماج، خاصة أن الشركات تتجه اليوم إلى تعيين موظفين ذوي مهارات أقل يسهل استبدالهم في عالم مقبل بقوة على الأتمتة.
قد نلتمس بعض العذر لتركيز الشركات على القضايا الملحة اليوم وإغفالها القضايا التي تعتبرها غير ذات أولوية، على الرغم من أهميتها، في ظل استمرار الجائحة وهبوب رياح معاكسة للنشاط الاقتصادي. ولكن القضايا الماسة بالعنصر البشري التي أوردناها أو ناقشناها هنا تنذر بمخاطر منهجية جسيمة على المؤسسات وسمعتها. وسيضمن التعاطي معها الآن خروج شركتك من الجائحة في وضع أقوى وأكثر استعداداً لمواجهة ما يخبئه لنا المستقبل.