جمانة موظفة تنفيذية شابة وصاعدة وجدت نفسها مُستبعدة استراتيجياً نتيجة صراع سياسي داخلي في شركتها وتنتظر دور القادة العظماء. كان لدى جمانة فرصة الوصول إلى المراتب العليا: فهي دوماً من الـ 10% الأفضل أداءً، كما أنها مجتهدة في عملها، وذكية، وشخصيتها فاتنة، ومندفعة، كما أنها تتحدث أكثر من لغة، وحاصلة على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من إحدى الجامعات المرموقة، بالإضافة إلى رسالة شكر مكتوبة بخط اليد من الرئيس التنفيذي للشركة تزين جدار مكتبها.
ماذا حدث لها؟
عندما التقيتُ جمانة (ليس اسمها الحقيقي)، كان تعاني في محاولة استيعاب هذه الانتكاسة في مسيرتها المهنية. تقول جمانة: "كان الجميع في الشركة بلا استثناء يحبونني، كنت قائدة لفريق، عملتُ ساعات طوال أكثر من أي شخص آخر. نذرتُ نفسي لتحقيق النتائج المطلوبة مني وكنت منفتحة على الجميع وكسبت ثقتهم. لقد فعلت كل ما تدربت عليه وكل ما تعلمته".
لدى سماعي هذه الكلمات، فهمتُ القصة كلها. كانت جمانة ضحية أخرى لما أسميه أنا مدرسة "كومبايا" في القيادة، والتي تقول إن سر التفوق يكمن في انفتاحك وثقتك بالآخرين ومصداقيتك وإيجابيتك وتسخير نفسك كلياً للعمل. لكن هذه المدرسة لم تَعُد على جمانة وعلى العالم إلّا بالضرر لدفعهم نحو العمل بطرق مجحفة لحياتهم المهنية.
اقرأ أيضاً: إذا كنت تطمح لأن تكون قائداً عظيماً فاحرص على أن تكون حاضراً
كيف كان يجب على جمانة التصرف؟
كان عليها تخصيص وقت أطوال لإدارة رؤسائها. كان عليها إدارة صنّاع القرار، ومديرها، وصورتها في الشركة، ومسيرتها المهنية إدارةً أفضل.
بدل البقاء مُكبّلة طوال الوقت إلى مكتبها وهي منكبّة على تقديم عملها الرائع، كان يجب على جمانة بناء علاقات مع المدراء التنفيذيين الأكثر تأثيراً وضمان أن الأشخاص في أعلى السلم الإدراي يلاحظون إنجازاتها وجعلهم يرون فيها خامة مؤهلة للانضمام إلى مراتب فريق الإدارة في المستقبل.
اقرأ أيضاً: القائد الجيد لا يخشى أن يكون شخصاً لطيفاً
مع أن من الحيوي جداً هذه الأيام إدارة المسار المهني بهذه الوسائل، فإن من المفاجئ إغفال معظم الناس لها. فالمنظمات عبارة عن تسلسل هرمي، تلك حقيقة مرّة من الصعب تقبّلها. كما أن العلوم الاجتماعية تؤكد عدداً من الحقائق المزعجة عن السياسة والعلاقات بين الأشخاص، منها: نحن نُصدر على الأشخاص أحكاماً أولية متسرعة، اعتماداً على المظاهر غالباً، وقد تستمر معنا طوال الوقت، نحن نفضِّل الأشخاص المشابهين لنا، نحن نحصل على ترقيات أو نحصل على معلومات قيّمة من خلال إسعاد مديرينا وبناء علاقات مع الأشخاص المؤثرين، نحن نبني انطباعاتنا عمّن يكلمنا اعتماداً على شكل المتحدث ولغة جسده وصوته أكثر مما هو بناءً على محتوى نقاشه، سنُعتبَر أشخاصاً أكفاء أكثر إن كنا حازمين في انتقاداتنا أو أظهرنا غضبنا (بالنسبة للرجال على الأقل). هناك دلائل قوية على أن العلاقة بين أدائنا الفعلي وبين تقييمات عملنا ومكافآتنا وترقياتنا علاقة ضعيفة، بل في الواقع قد يكون لأدائنا تأثير أقل على نجاحنا مقارنة بمهاراتنا السياسية ونظرة صناع القرار لنا.
لماذا إذاً لم تُخصِّص جمانة مزيداً من الوقت في إدارة رؤسائها، خاصة إن كان ذلك في مصلحتها؟
أولاً، نحن نقنع أنفسنا أن العالم مكان عادل. كآباء، نحن نحب أن نحجب عن أولادنا واقعاً صارخاً فيه العنصرية والتمييز بين الجنسين ومسابقات الشهرة والمضايقات في باحة المدرسة. واليوم أيضاً، ومع الشفافية التي توفرها وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، ننجرُّ أكثر وراء الاعتقاد أن "حقيقتنا" ستحررنا من الواقع المزعج فترانا نقول، على سبيل المثال، "الجميع يرى كم أنا مجتهد في عملي" أو "الجميع يعرف جودة عملي، فنتائجي تتحدث عني". الاعتقاد بأن العالم مكان عادل يمنحنا شعوراً مريحاً. كانت جمانة تقول لنفسها: "لم أُرد أن أكون طرفاً في لعبة السياسة في العمل أو أن ينظر إليَّ على أنني متملِّقة أو متباهية بنفسي أو شخصاً صعد لقربه من فلان أو فلان. هذا يخالف تربيتي التي كانت على أساس أن القشطة لا بد ستطفو على السطح في النهاية".
إن لأدب السيرة الذاتية للرؤساء التنفيذيين والقادة دورٌ في إدامة أسطورة "العالم العادل". فبدل إخبارنا كيف هزموا أقرانهم كي يصلوا للقمة، يعيد الرؤساء التنفيذيون كتابة تاريخهم مصوِّرين العالم مكاناً فاضلاً آملين بترك إرث إيجابي خلفهم. ومع أن هناك دراسات مقنعة أثبتت أنه من الممكن أخلاقياً واستراتيجياً استخدام العاطفة أو المناورة أو العلاقات للتأثير على الآخرين، فقد نُظر إليها على أنها طرق غير مشروعة.
بالنتيجة، نحن نعيق أنفسنا بأنفسنا باستحيائنا من تقنيات كانت ستفتح أمامنا دروباً أكثر للصعود لو استخدمناها. كما أننا نعزل أنفسنا عن "السياسيين" ونراهم مثيرين للاشمئزاز، بدل التوقف قليلاً لدراسة كيف يتواصلون ويبنون علاقاتهم ويديرون مستقبلهم المهني استراتيجياً. كما أننا نختار ما يعجبنا من البحوث التي تؤيد تقنيات القيادة المريحة لنا، مثلاً، مع أن علم النفس الإيجابي لا يقول إنه يجب أن تكون سعيداً دوماً أو تمتدح الآخرين دون تمييز، لكن هذه هي الرسالة التي يتلقفّها الناس وينطلقون في تطبيقها مخطئين.
القادة الشباب
يحتاج القادة الشباب لمن ينصحهم بأن يكونوا أكثر واقعية ودهاء وخشونة. لقد توصلتُ شخصياً إلى هذه النتيجة منذ زمن بعيد- وللأسف متأخراً كثيراً- أثناء مسيرتي المهنية في العمل مع الشركات. لقد كنت أرى كيف لا يصبح الفتيان الأكثر ذكاءً واجتهاداً في الطليعة. وقد صعقت خلال السنوات الماضية القليلة التي كنت أبني فيها خبرتي في التدريب المهني وتدريس ماجستر إدارة الأعمال من قلة الأدلة التي تؤيد أشهر النصائح القيادية والمهنية، ومن مدى استسهال العديد من المدّربين البقاء متمسّكين بحكمة "الشعور المريح" التي لا إثبات لها. فاجأني أيضاً رؤية مدربي القيادة يخجلون من دراسات لا يمكن دحضها استناداً لارتباطات لا يُعتمد عليها. أخبرني، مثلاً، طالب أن أستاذه لم يشأ تدريس تقنية للإقناع أثبتت البحوث نجاحها بعد معرفته أن "وكالة الاستخبارات الأميركية" استخدمتها أيضاً. لكن ماذا عن المعلومات نفسها التي تكون مقنعة وتستحق الدراسة.
اقرأ أيضاً: القادة الأكثر إبداعاً يقومون بهذه الأمور الثلاثة
أعلمُ أنني لست الداعي الوحيد للاهتمام أكثر بالسياسة والعلاقات الشخصية. يستعرض روبرت تشالديني في كتابه "التأثير: علم نفس الإقناع" (Influence: The Psychology of Persuasion) كماً ضخماً من الفوائد التي نجينها من فهم علم النفس الاجتماعي. كذلك يشرح علماء الاقتصاد السلوكي بإقناع كيف تؤدي العاطفة والتأطير ومحفزات العصا والجزرة إلى سلوكيات "لا منطقية متوقعة" (predictably irrational) كما وصف ذلك دان أريللي في كتابه الذي يحمل نفس العنوان. كتبَ جف بفيفر أيضاً مؤلفات عن هذه الحقائق غير المريحة: "القوة والقيادة" (Leadership BS)، (تنويه، أنا أدِّرس في دورة "الطرق إلى القوة" المخصصة للتنفيذيين التي يقيمها جف في "ستانفورد"، وأشكره لأنه فتّح عيني على هذا الموضوع). كذلك يقدم تود كاشدان، مؤلف كتاب "جمال جانبك المظلم" (The Upside of Your Dark Side)، إثباتا قوياً يتحدى ببراعة النصيحة السائدة في علم النفس الحديث.
لكنني كثيراً ما أرى قادة ومدربيهم ينظرون إلى تقنيات بناء التأثير الفعال كما لو كانت تقنيات انتهازية. أنا لا أقول هنا أن علينا أن نكون انتهازيين، فكل منا يقرر بنفسه ما إذا كان يريد الارتقاء في المنظمة وأي طريق سيسلك لذلك، ويقرر ما إذا كانت الغايات تبرر الوسائل. ما أقوله هنا على أي حال هو أننا إذا أردنا تجنب ما حدث لجمانة، فعلينا تخصيص وقت أكثر في إدارة رؤسائنا ومن حولنا، وتوظيف تقنيات قد لا تكون فطرية لدينا. في كتابها "تصرف كقائد، فكر كقائد" (Act Like Leader, Think Like a Leader)، تؤكد هيرمينيا إيبارا حاجتنا إلى تدريب أنماط وسلوكيات مختلفة من القيادة إن أردنا أن نكبر، وأن الانغلاق على فكرة الأصالة قد يكون عذراً لتبرير بقائنا في منطقة الراحة لأن الحياة الواقعية تخبرنا أن القيادة تسبب شعوراً بالتضايق أحياناً.
بالنسبة لجمانة، بعد مضي 3 سنوات على ما حدث، ازدهرت حياتها المهنية في عملها الحالي. استغرقها الأمر بعض الوقت كي تواكب مجال عملها الجديد، لكنها تبدع في عملها وترتقي بسرعة لأنها فهمت كيف تجري اللعبة. هي أيضاً تنصح الشباب الذين ما زالوا في أول الطريق بأن الاجتهاد في العمل ليس إلا جزءاً في معادلة النجاح. تقول جمانة إن نظرتها للعالم أصبحت أشمل وهي تراه الآن مكاناً أفضل. وعلى هذا، أنا وهي متفقان الآن فيما يتعلق بدور القادة العظماء.
اقرأ أيضاً: هذا هو الفرق بين القادة الجيدين والقادة العظماء