تعد شركة "بريدج ووتر أسوشيتس" (Bridgewater Associates)، والتي أسسها راي داليو عام 1975، وهي شركة إدارة استثمارات أميركية، أكبر صندوق تحوط في العالم يدير 160 مليار دولار تقريباً وتتبع أسلوب الشفافية المطلقة في الشركة. وما يثير الاهتمام في هذه الشركة ليس فقط حجمها ونجاحها، وإنما أيضاً فلسفة داليو حول مسألة "الشفافية المطلقة"، والتي ناقشها في كتابه "مبادئ" (Principles). وعرض داليو هذه الفكرة على الشركة، عام 1993، بعدما أخبره ثلاثة من أكثر الأشخاص الذين يثق بهم، من خلال مذكرة، أنه يضر بالشركة بسبب صدقه المبالغ به. ولحل هذه المشكلة، بدأ داليو إجراء مقابلات مع كل موظف في الشركة بمفرده، لمناقشة كيفية التعامل مع بعضهم البعض. ربما تتساءل لماذا فعل ذلك؟ كان هدف داليو هو خلق ثقافة تُمكن الموظفين من الانخراط في "خلاف مدروس"، وتبادل الأفكار دون نزاع طويل الأمد، حتى عندما تكون الأفكار جدلية.
وقد شرح داليو مبدأ "الشفافية المطلقة" في مقابلة أُجريت معه مؤخراً:
أعتقد أن أعظم مآسي البشرية هي أن الناس يتبنون أفكاراً وآراءً، ولكنهم لا يمتلكون آلية تمكنهم من دراسة هذه الأفكار لاستنتاج الصحيح منها، مما يخلق عالماً من الاختلالات. وهذا ينطبق على كل ما نفعله، وأعتقد أنه ينطبق على عملية اتخاذ القرارات برمتها أيضاً. ولذلك حين أقول إنني أؤمن بالحقيقة المطلقة والشفافية المطلقة فكل ما أعنيه هو أن نتحدث بوضوح عن الأمور التي يخفيها الناس عادة، وخاصة الأخطاء والمشاكل ونقاط الضعف. فنطرح هذه الأمور علانية وندرسها معاً، لا أن نخفيها.
الشفافية المطلقة في الشركة
تتفق الأدلة العلمية مع ما يعتقده داليو بشأن ميل البشر إلى تقييم المعلومات بصورة متحيزة. فعلى سبيل المثال، غالباً ما نقع ضحية ما يسميه الأخصائيون النفسيون وباحثو القرارات بـ "التحيز التأكيدي"، ويعني، ببساطة، أننا نميل إلى التركيز على الأدلة الذي تؤكد معتقداتنا وافتراضاتنا، بدلاً من البحث عن بيانات تناقضها.
اقرأ أيضاً: هل فرط الشفافية في الخوارزميات يمكن أن يأتي بنتائج عكسية؟
وما يزيد الأمور سوءاً أننا غالباً لا ندرك أن هذا التحيز يضعف أحكامنا وقراراتنا. وفي هذا الشأن، قد قال بنجامين فرانكلين، ذات مرة: "هناك ثلاثة أمور قاسية جداً وهي: قطعة حديد وقطعة ألماس ومعرفة الشخص لذاته".
وتؤكد الأبحاث مقولة فرانكلين هذه. إذ وفقاً لما كتبته تاشا يوريك، في كتابها الصادر عام 2017 بعنوان "رؤية ثاقبة" (Insight)، يعتقد نحو 95% منا أنه يتمتع بوعي ذاتي عالٍ، في حين أن 10% إلى 15% فقط يتمتعون بهذا الوعي فعلاً. وفي الحقيقة، كلما زادت قوتنا وارتقينا في مهَننا، كلما قل وعينا الذاتي.
ويعد إيماننا القوي بأنفسنا على جميع الأصعدة الإيجابية، وفقاً لمئات الدراسات، جزءاً من المشكلة. على سبيل المثال، يعتقد 80% من الناس (بمن فيهم أنا!) أنهم أفضل من عموم السائقين. كما أظهرت دراسة استقصائية، شملت 1,000 أميركي عام 1996، أن الناس يعتقدون أن احتمالية دخولهم إلى الجنة تفوق احتمالية دخول الأم تريزا. وبالتالي، عندما يتعلق الأمر بفهم ذواتنا، نجد فجوة بين منظورنا والواقع.
للأسف، عندما يواجهنا الآخرون بتحيزاتنا تلك، نجد صعوبة في الاستماع إلى آرائهم والتعلم منها، خاصةً عندما تتعارض مع رؤيتنا تجاه ذواتنا وأعمالنا. وفي الواقع، وكما أشرتُ في مقال آخر، فقد وجد البحث الذي أجريته مع بول غرين من "كلية هارفارد للأعمال" وبراد ستاتس من "جامعة نورث كارولينا" ( University of North Carolina) في شابل هيل، أن الناس يميلون إلى الابتعاد عن الأشخاص الذين يدلون بآراء سلبية أكثر مما يعتقدونه عن أنفسهم. وعلى العكس، يميلون إلى تقوية علاقتهم مع الناس الذين يرون صفاتهم الإيجابية فقط. لماذا؟ تكمن الإجابة ببساطة في أنه عندما يقدم الناس دليلاً يتعارض مع رؤيتنا تجاه ذواتنا وأفكارنا، نجد أن هذه المعلومات تهددنا. فيكون رد فعلنا الطبيعي هو إزالة هذا التهديد، والذي قد يعني الابتعاد عن مصدر هذه المعلومات.
اقرأ أيضاً: مقارنة لممارسات الشفافية والإفصاح في أكبر اقتصادات الشرق الأوسط
بالإضافة إلى ذلك، نحن نميل، بحسب ملاحظة داليو، إلى تجنب الدخول في نقاش حول نقاط ضعفنا وأخطائنا، ونفضل بدلاً من ذلك النقاش حول الأمور التي نفذناها بصورة صحيحة. خذ مقابلات العمل على سبيل المثال. فنجد أن المرشحين للوظيفة يناقشون نقاط قوتهم ويخفون نقاط ضعفهم في المقابلات، حتى أنهم ينشطون خيالهم بقوة إلى حد سرد قصص خيالية تظهر نقاط قوتهم. وبشكل عام، ضمن أي سياق تقريباً، نستطيع القول إنه من المريح أكثر التركيز على الإيجابيات بدلاً من السلبيات، حتى وإن كان العكس أكثر فائدة.
كانت هذه قائمة من التحيزات والميول الإشكالية التي نشترك فيها جميعاً. وقد يكون الحديث عنها بشفافية وتقبل التعامل معها، كما فعل داليو في "بريدج ووتر"، أمراً نافعاً. إذ إنه يشجع على المزيد من النقاشات الصريحة التي يتحدى فيها الناس بعضهم البعض بحثاً عن الحل المناسب، بدلاً من محاولة إثبات أنهم على حق. وقد أثبت هذا النوع من الشفافية فائدته ضمن سياقات أخرى.
فوجد أحد الأبحاث أن الشفافية تزيد إدراك الزبائن لقيمة السلعة أو الخدمة، ورضاهم بشأنها، بل واستعدادهم للدفع من أجل الحصول عليها، بغض النظر عن جودتها. فعلى سبيل المثال، عندما تعرض مواقع السفر مقطع فيديو أو صور لجهد البحث المبذول نيابةً عن الزبون (مثل عرض عدد مواقع السفر التي تبحث فيها الخوارزمية، وتعداد النتائج التي عثر عليها، وابتكار صورة لعملية "التمرير عبر الصفحات إلى الأسفل")، فإن ذلك يعطي الزبائن انطباعات أفضل عن قيمة الخدمة. كما أظهر بحث آخر أن أكثر الشركات شفافية في عرض النتائج تحقق أداءً أفضل. فعلى سبيل المثال، تجد أنه، بخلاف أغلب المراكز الجراحية والتي لا تعلن عن أسعارها مقدماً، يوفر "مركز أوكلاهوما للجراحة" (Surgery Center of Oklahoma) لمرضاه المحتملين قائمة إلكترونية بكافة الأسعار لكل إجراء في المركز. وقد أثمرت هذه الشفافية المتزايدة، وفقاً لموظفي المركز، عن تصاعد كبير في الإقبال، حيث يسافر المرضى الآن من ولايات وحتى من دول أخرى لإجراء جراحة في "أوكلاهوما".
وتولد الشفافية ثقة لدى المستهلكين والموظفين على حد سواء، كما أنها تساعد على إعادة بناء الثقة عند تضررها أو فقدانها. ففي إحدى الدراسات التي استخدمت فيها جميع المؤسسات مراسلة شفافة كاستجابة لأزمة ما، قيّم المشاركون الشركات المشهورة بشفافيتها على أنها أجدر بالثقة من تلك الشركات الأقل شفافية.
اقرأ أيضاً: ما الذي تعنيه عبارة "الشفافية في سلاسل التوريد" فعلياً؟
وعلى جانب آخر، أشارت بعض البحوث إلى مشاكل محتملة قد تنتج عن الشفافية. إذ يظهر العمل الذي أنجزه إيثان بيرنستاين في "كلية هارفارد للأعمال" انخفاض إنتاجية الموظفين عند علمهم بمراقبة المدراء لهم عن إنتاجيتهم عندما يكون عملهم أكثر خصوصية. ولكن الشفافية في هذه الحالة تحمل معنى آخر، فعندما نشعر بأننا مراقبون، نميل جميعاً إلى التصرف بسلبية.
تجربة شركة "بريدج ووتر أسوشيتس" في اعتماد مبدأ الشفافية المطلقة
وفقاً لشرح داليو المفصّل في كتابه، فإن ما فعله في "بريدج ووتر" يختلف نوعاً ما عن مراقبة عمل الناس. إذ شجع داليو، من خلال الشفافية المطلقة، على خلق ثقافة يدرك خلالها الأشخاص أهمية تحدي وجهات نظر الآخرين، بغض النظر عن رتبهم، والقيام بذلك بانتظام. ويضحى هذا النهج نافعاً إذا ناقش الأشخاص بشأن الأفكار والمشاكل بشكل صريح، حتى وإن تضمن هذا الإشارة علناً إلى أخطاء بعضهم البعض.
ولكن، في الوقت ذاته، يقر داليو بعدم استعداد الجميع للالتزام بالشفافية المطلقة. فيقول: "يصعب جداً على معظم الناس في البداية التعامل مع الحقائق غير المريحة". ولكن عندما اقتنع موظفو "بريدج ووتر" بنظرته حول الشفافية المطلقة، فإن ذلك خلق بيئة تمكّنهم من تقديم الأدلة بصورة بناءة، والتي قد تتعارض مع أفكار الآخرين ووجهات نظرهم دون أخذها على محمل شخصي.
إذاً، عندما تكشف الشفافية المطلقة في الشركة عن تحيزنا البشري العالمي، تزداد احتمالية حصولنا على منفعة كأفراد. كما أن مؤسساتنا ستستفيد من ذلك أيضاً.
اقرأ أيضاً:دراسة شملت أكبر 40 شركة خليجية عن تأثير الشفافية في قرار المستثمر المحنك