نحن حالياً في خضم أكثر الأزمات الاقتصادية شدة منذ فترة الركود العظيم. فقد ارتفع معدل البطالة بشكل قياسي، كما أن صندوق النقد الدولي يتوقع انخفاضاً في الناتج المحلي الإجمالي بنحو 6% هذا العام. إذا كانت هذه الأمور تُعد تقلبات مفاجئة على مستوى العرض، فإن اقتصادنا ينبغي أن يتعافى بسرعة بمجرد أن تُرفع القيود المفروضة على النشاط الاقتصادي. ولكن من ناحية أخرى، وفقاً لتقرير صدر عن "معهد بيكر فريدمان" (Becker Friedman Institute) بجامعة شيكاغو، فإن 42% من الوظائف التي فُقدت حتى الآن خلال هذه الأزمة يمكن أن تكون من الخسائر الدائمة. فإذا كان الأمر كذلك، ستتحول التقلبات المفاجئة في العرض إلى أزمة طلب كما حدث في فترة الركود الاقتصادي الكبير عام 2008، وسيكون التعافي أبطأ بكثير. إذن مع هذا القدر الكبير من الغموض وعدم الاستقرار، ما الذي ينبغي للاستراتيجيين فعله؟
بحثنا في بيانات مستقاة من الفترة التي سبقت فترة الركود عام 2008 مباشرة لمعرفة كيف كان أداء 5,278 شركة أسهمها مطروحة للتداول العام بناء على استراتيجيتها العامة المتمثلة في أن تكون إما متميزة (باتباع استراتيجية التميز) وإما من قادة التكلفة (باتباع استراتيجية قيادة التكلفة)، وفقاً لنظريات مايكل بورتر. يتنافس المتميزون على أساس مجموعة متنوعة من العوامل كالجودة أو الخدمة بدلاً من إيلاء الأولوية للأسعار المنخفضة. أما قادة التكلفة فيركزون استراتيجيتهم على خفض التكاليف، ما يتيح لهم تقديم المنتج بأقل سعر ممكن. يقول بورتر أن أياً من الاستراتيجيتين ستنجح طالما أن التوجه الاستراتيجي واضح. ولكن في تحليلنا كان المتميزون عرضة للمعاناة من انخفاض الإيرادات أكثر من قادة التكلفة في فترة الركود الاقتصادي الكبير وكانوا أيضاً أكثر عرضة للإفلاس.
وفي ضوء ذلك، قد يعتقد الاستراتيجي عميق التفكير أنه من الحكمة تغيير الاستراتيجيات من خلال التوجه إلى قيادة التكلفة. على كل حال، يُعد الانتقال من استراتيجية التميز إلى استراتيجية قيادة التكلفة منطقياً لأن في فترات الركود، وخاصة الشديدة، يخفف الجميع نفقاتهم. فالمستهلكون يخفضون نفقاتهم ويبحثون عن مورّدين منخفضي الأسعار. وتسعى الشركات إلى تخفيض نفقاتها لاجتياز الظروف الصعبة، حيث يصبح خفض التكاليف محور تركيز جهود معظم الشركات، خاصة في الظروف التي لا يمكن التنبؤ بها كما حدث عام 2008 (أو التي نشهدها في الوقت الحالي). ولكن بياناتنا لا تدعم تغيير الاستراتيجيات لتصبح قائمة على قيادة التكلفة أثناء فترات الركود. فقد وجدنا أنه عندما توجه المتميزون صوب استراتيجية قيادة التكلفة، فإن مثل هذه الجهود لم تساعدهم. كما وجدنا في الواقع أن تغيير الاستراتيجية لم يزد من فرص الشركة في النجاة خلال فترة الركود، وأيضاً لم يحسّن إيراداتها ولا وضعها المالي.
هذا هو الدرس المستفاد من فترة الركود الاقتصادي الكبير الذي يتعين على الاستراتيجيين استيعابه: قادة التكلفة يكون لهم الأفضلية. على الرغم من سعي كلا نوعي الشركات إلى خفض التكاليف للنجاة من الأزمة وإلى خفض الأسعار لجذب المزيد من العملاء المقتصدين في التكاليف، فإن الشركات التي تتبع استراتيجية قيادة التكلفة لديها الأفضلية لأنها منظمة ومهيكلة وفقاً لهذا النهج. وهذه هي المشكلة التي أشار إليها بورتر تحديداً. أثناء المنافسة، لكي تصبح الشركات من قادة التكلفة، فإنها يجب أن تفوز دائماً. إذن ما الذي ينبغي للمتميزين فعله؟ يشير بحثنا إلى بعض الدروس العملية التي يمكن للاستراتيجيين في الشركات المتميزة الاستفادة منها أثناء فترات الركود.
أولاً، لا تحاول تغيير الاستراتيجيات. فالمتميزون لن يصبحوا أبداً قادة تكلفة. وبالتالي من الأفضل للمتميزين التركيز على مواطن قوتهم ومحاولة الاستفادة منها. ثانياً، خفِّض التكاليف إلى حد معين بشكل سريع. عندما تواجه الشركات طلباً متقلباً، فإنها تحتاج إلى خفض التكاليف بأسرع ما يمكن بغية حشد الموارد لخوض معركة طويلة. وانتظار خفض التكاليف على أمل حلول فترة الانتعاش سريعاً سيضع الشركة في موقف صعب إذا تَبين أن هذه المخاطرة لم تكن سديدة. وفي الوقت نفسه، يجب أن تحرص الشركة على ألا تضر هذه التخفيضات بقدرتها على تقديم منتج أو خدمة متميزة. وأخيراً، اعلم أنه لا يوجد حل سهل، حيث إن خفض الأسعار ببساطة لن يحل المشكلة. وما لم تكن رائد التكلفة المنخفضة في القطاع، سيكون هناك دوماً مَن يمكنه تقديم سلع أو خدمات بسعر أقل. ولذلك فأنت بحاجة إلى التنقيب عن حماستك في ريادة الأعمال التي ساعدتك على تأسيس شركتك في المقام الأول. وركّز على مواطن قوتك. فالمزايا التي جعلت منتجك أو خدمتك تستحق أكثر مما يعرضه قادة التكلفة لا تزال قائمة. وما عليك سوى توضيح هذا الأمر لعملائك.
الخبر السار هو أن معظم الشركات نجت من الركود الاقتصادي الكبير عام 2008. وإذا كنت تقود إحدى هذه الشركات، فأنت تعلم بالتحديد نوع العمل الشاق المطلوب للنجاة من أزمة بهذا الحجم. ولكن تصوُّر أن الطريق مفروش بالورود أمام الشركات التي تتبع استراتيجية مختلفة للغاية عن استراتيجيتك، ليس حلاً ناجعاً.
اقرأ أيضاً: مهارات التفكير الاستراتيجي