كيف يمكن أن تنجح القيادة في ظل الثورة الصناعية الرابعة تحديداً؟ هل نحن بحاجة فعلاً إلى نمط قيادة جديد يتناسب مع الثورة الصناعية الرابعة؟
يؤمن كثيرون بأنّ الثورة الصناعية الرابعة ستستمر لفترة ليست بالهيّنة وبأنها تتقدم بخطى أسرع مما كنا نظن، الأمر الذي يطرح بدوره سؤالاً جدياً عما إذا كانت القيادة قادرة بدورها على أن تتكيف مع نموذج الأعمال الجديد هذا.
وقبيل الاسترسال بتلك النقطة، لنتطرق إلى النقاط السلبية الموجودة حالياً، فعلى سبيل المثال:
- في مقابل كل دولار يحصل عليه الموظف الأميركي، يحصل رئيسه التنفيذي على 321 دولاراً! وعلى الرغم من الركود المدمر الذي عصف بالبلاد عام 2008، بقي الجدل العام المتصاعد بشأن عدم المساواة في الأجور بين الرؤساء التنفيذيين والموظفين مستمراً. وما زاد الطين بلة عدم وجود أي علاقة واضحة ظاهرة بين ارتفاع هذه الرواتب وأداء الشركة واستدامتها.
- وباتت الوفيات المرتبطة بالإجهاد وبيئات العمل السامة والممارسات الإدارية المريعة في ازدياد، كما برهن عن ذلك جيفري فيفر (جيف فيفر) في كتابه الذي حمل عنوان "الموت بغرض الحصول على أجر" (Dying for a pay check). ففي الصين وحدها، يصل عدد الوفيات الناتجة عن تلك الأسباب إلى مليون شخص تقريباً كل عام.
- وتمر المنظمات والمؤسسات والجمعيات بأزمة كبيرة، إذ يستمر الأداء في الانخفاض سواءً أتم قياسه من خلال العائد على الأصول أم من خلال العائد على رأس المال المستثمر، إذ انخفض العائد على الأصول الخاصة بالشركات الأميركية بنسبة 75% منذ عام 1965 وذلك على الرغم من ارتفاع إنتاجية العمال.
- كما انخفض متوسط العمر المتوقع للشركات المدرجة على قائمة مجلة فورتشن لأفضل 500 شركة بشكل مضطرد من 75 سنة إلى 15 سنة فحسب خلال الخمسين سنة الماضية. علاوة على ذلك، تُظهر البيانات أنّ 25% فقط من القوى العاملة تبدي الحماسة لعملها على الرغم من التقنيات والموارد الهائلة التي يتم إنفاقها على مجال "التعلم والتطوير". وتُظهر الأرقام العالمية الخاصة بمدى مشاركة الموظفين وجود معدل مشاركة أقل من المثالي لدى ما يقارب من 80% منهم.
وتشير تلك الأخبار إلى وجود مشكلة باتت تبرز في الأفق وتتعلق بوجود خطب ما في نموذج القيادة القديم، إذ لم يعد ذاك النموذج صالحاً، بل وبات حتى يزداد سوءاً بشكل مضطرد. بالتالي، لم يعد إجراء تحول كبير في نهج الإدارة والقيادة أمراً محبّذاً فحسب، بل ضرورياً ويجب القيام به. ونعلم أنّ على كل مؤسسة اليوم التعامل مع التقلبات والتعقيد المتزايدين، والتغيير المتسارع، والثورة التكنولوجية والديموغرافية المتغيرة للقوى العاملة. فعلى سبيل المثال، وخلال السنوات العشر القادمة، سيشكل "جيل الألفية" أغلبية القوى العاملة وسيرفضون بدورهم أن يتم إدارتهم على مستوى أصغر التفاصيل. ولن يكون أي قطاع أو صناعة أو بلد بمنأى عن هذا التغيير.
اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: شرح مصطلح الثورة الصناعية
فما الذي يتعين على القادة/الموظفين والمؤسسات القيام به من أجل البقاء والازدهار خلال الثورة الصناعية الرابعة؟ وكيف ستنجح القيادة في ظل الثورة الصناعية الرابعة بالفعل؟
تعكس ثقافة المؤسسة "ثقافة" قادتها ووعيهم وأخلاقهم (سواءً سلباً أم إيجاباً)، والذي "يتضاعف" عبر الفرق ضمن المؤسسة وضمن المؤسسة ذاتها والتي نراها في أمور على غرار التواصل ومدى التزام الموظف وقابلية الابتكار وباقي جوانب الأداء الأخرى. ولا تعتبر الكفاءة الإدارية أمراً مستقلاً بحد ذاته، إنما نقطة الانطلاق للمؤسسة لكي تعمل بشكل جيد. إلا أنه وفي الوقت ذاته، نرى وضعاً غير منطقي، إذ إنه على الرغم من وجود علاقة طردية بين الكفاءة في إدارة الأفراد وتحسن الأداء بشكل كبير، إلا أنّ تبنّي ذلك لا يزال أقل من المتوقع. ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال، ذكر تقرير "معهد الإدارة المعتمد" في عام 2012 أنّ 80% من المدراء المستطلعة آراءهم ممن يعملون في مؤسسات ذات أداء مرتفع قالوا أنّ السلسلة الإدارية في شركاتهم ذات كفاءة عادية أو مرتفعة، بالمقارنة مع 39% ممن يعملون في بيئات عمل ذات أداء ضعيف. إلا أنه وفي الوقت ذاته، كانت نسبة من قالوا أنّ مدراءهم لا يملكون الكفاءة تزيد عن 40%! هل يمكننا أن نرى معدل إخفاق مماثل في أي مهنة أخرى؟
كما أشار "المعهد المعتمد لشؤون الموظفين والتنمية" مؤخراً إلى عدم وجود أي تحسن في جودة الإدارة خلال العقد الماضي، الأمر الذي يثير الإحباط بشدة. كما كانت الآليات الرامية إلى زيادة إنتاجية الموظفين وابتكارهم واستقلاليتهم إلى أقصى الحدود "الاستثناء وليس القاعدة". بالتالي، تغدو الحاجة هنا إلى إجراء تحول إداري كامل لتمكين المؤسسات من البقاء والازدهار خلال الثورة الصناعية الرابعة.
وعلى معظم التحسينات الجوهرية أن تبدأ انطلاقاً من القادة أنفسهم، لكن لا يجب أن تتوقف عندهم، ويجب هنا العمل على معتقداتهم وسلوكهم وطرق تعاملهم مع الآخرين وفهمهم للاستراتيجية فضلاً عن تغيير عقليتهم بطريقة تجعلهم يرون المؤسسة ككيان حيوي، لا مجموعة خاملة من الأصول. كما يحتاج أولئك القادة أيضاً إلى امتلاك مستوى جيد من الذكاء، وفهم نقاط الضعف والقوة لديهم، وامتلاك المعلومات المتصلة بعمل جميع وحدات الأعمال. وفي هذا الصدد، يمكن أن يكون التدريب وسيلة فعالة للغاية لزيادة الوعي الذاتي للمدراء وللحد من مواطن الضعف لديهم. وينقسم التحول الإداري اللازم للتكيف مع الثورة الصناعية الرابعة إلى فئتين: الفردي والمؤسساتي.
ففي مجال التحول الإداري على المستوى الفردي، يحتاج كبار القادة والإدارة العليا إلى فهم تأثيرهم على فرقهم بشكل كامل ومعرفته بشكل أعمق. وتقسّم الأبحاث هنا المشاركة والأداء إلى خمسة مستويات تبدأ مع المستوى (1)، والذي يمثل عدم المبالاة، وصولاً إلى المستوى (5) والذي يمثل الشغف والمشاركة غير المحدودين (الشكل 1). ويعتمد نموذج القيادة الناشئ هذا على كل من علم الأعصاب الاجتماعي ونظرية التعقيد، كما يعتمد أيضاً على الأبحاث التجريبية التي جرت حول مشاركة الموظفين والسلوك المؤسساتي.
ويتميز كل مستوى من تلك المستويات بعقليات وسلوك مختلف عن البقية، ويمكن للقائد أن ينتقل من مستوى لآخر مع التدريب والنقاش الميسّر. وتكون النقلة النوعية متمثلة عبر الانتقال من المستوى (3) إلى المستوى (4) والذي يمثل لحظة التحول الإداري والنقطة التي يبدأ فيها الأداء المرتفع، إذ يمثل المستوى (4) المستوى الذي تظهر فيه القيادة 4.0؛ بمعنى آخر، نوعية القيادة اللازمة للبقاء والازدهار خلال الثورة الصناعية الرابعة.
العبارات النموذجية:
- المستوى 1 غير متفاعل/ لا مبال: "أنا عاجز / لا يوجد ما يمكنني فعله لتغيير هذا الوضع".
- المستوى 2 - متردد / خامل: "أشعر بالإحباط / لا جدوى من محاولة القيام بذلك".
- المستوى 3 – متحكم/ منظّم: "أحتاج إلى التحكم في الأمر / أتردد في مشاركة المعلومات".
- المستوى 4 - متحمس / تعاوني: "يمكننا تحقيق أشياء عظيمة كفريق / أحترم نفسي والآخرين".
- المستوى 5 – لا حدود / منفتح: "أُلهم الآخرين لتحقيق كل إمكاناتهم / أعيش حياة مرضية".
كيف يمكن للقادة والمؤسسات الانتقال إلى مستوى أداء ونجاح مرتفعين بينما يواجهون في الوقت ذاته تحديات الثورة الصناعية الرابعة؟
ينطبق مفهوم مستويات التطوير المذكورة آنفاً على المؤسسات أيضاً، إلا أنه ونظراً لتعامل المرء هنا مع كيان متعدد الأبعاد، فإنّ نموذج القيادة ذي المحاور الستة يشرح كيفية إدراج جميع العناصر الرئيسية. وتتصل ثلاثة أبعاد من أصل الأبعاد الستة بالأشخاص - الثقافة والعلاقات والأفراد، في حين تتصل الثلاثة الباقية بعمليات الأعمال - الاستراتيجية والنظم والموارد (انظر الشكل 2).
ويكمن الأمر الأساسي هنا في فهم الروابط بين التطوير على المستوى الشخصي والمستوى المؤسساتي. فعندما يصبح الأفراد وفرقهم أكثر تمكيناً، سينتقل هذا بدوره إلى المؤسسة ويرتقي بأداء الفرق والوحدات ذات الأداء المنخفض لدرجة تصبح فيها عملياتها متسمة بالكفاءة والفعالية المرتفعة.
فعلى سبيل المثال، كشف تحليل حالة إحدى شركات التأمين في مدينة لندن باستخدام نموذج القيادة ذي المحاور الستة، عن وجود ثقافة وأخلاقيات عمل قوية إنما في نفسه نزعة بين الموظفين لعدم الاستمرار بالعمل في الشركة لفترة طويلة وشعورهم بالإنهاك الشديد. وساعد تنفيذ البرنامج على تحسين برامج التدريب وتعزيز المشاركة والأداء. كما قامت شركة أميركية تعمل في مجال تقديم الاستشارات الإدارية بتعديل أدائها باستخدام "إدارة التغيير"، ما أدى إلى مضاعفة عدد موظفيها وزيادة الإيرادات بمقدار خمسة أضعاف في غضون 18 شهراً. وضمن إحدى الشركات المدرجة ضمن قائمة أكبر 100 شركة في مؤشر الأوراق المالية، كشف نموذج القيادة ذي المحاور الستة عن طريقة لتحسين التفاعل والابتكار لتزيد الإيرادات بعد ذلك بعامين بنسبة 33% وليزيد صافي الأرباح بنسبة 213%.
واستخدمت إحدى شركات الخدمات الصحية الوطنية في المملكة المتحدة تلك الآلية للتقليل من أسلوب القيادة القائم على "الأوامر والسيطرة" واستبداله بأسلوب أكثر تشاركية. وقد أدى ذلك إلى وجود ثقافة أكثر تركيزاً على الأشخاص، حيث أشار المدير السريري إلى عن وجود مناخ تنظيمي أفضل وقدرة أكبر على علاج للمرضى كنتيجة لذلك.
ويمكن للمؤسسات نقل نفسها من الأداء الضعيف إلى الأداء المرتفع في حال قيامها فقط بالتوقف عن الإيمان بالفكرة القديمة القائلة بأن مشاركة الموظف هي قضية ثانوية وأمر "محبّذ إنما غير ضروري"، حيث تُظهر الأبحاث الحالية أنّ اتباع نهج شامل لتطوير القادة وفرقهم والمؤسسة ذي احتمالية كبيرة لأن يقدم تأثيراً إيجابياً.
وفي الختام عن القيادة في ظل الثورة الصناعية الرابعة تحديداُ، للثورة الصناعية الرابعة تأثير مدمر على القيادة، حيث لم تعد نماذج القياد القديمة صالحة هنا، ولم تعد فكرة العصا والجزرة ووجود القيادة السامة ومؤسسات قائمة على الخوف والسيطرة أموراً مرغوبة. إنّ هناك حاجة إلى نموذج جديد، نموذج تلتقط فيه القيادة ما يحدث على الصعيد العالمي بشكل جيد من جهة، ومن جهة أخرى تعمل بمثابة بوصلة أخلاقية لتوجيه دفة المؤسسة في الاتجاه الصحيح مسترشدة بالخيارات والمسؤوليات الأخلاقية. إنه ليس تغييراً فحسب، بل تحول حقيقي تكون فيه القيادة إنسانية بحق وتسود المؤسسات فيه الثقة والاحترام.