غالباً ما تواجه الشركات صعوبة في التعامل مع التقلبات عند عملية صنع الاستراتيجية؛ وعادة ما يحاول المدراء توقّع كيفية تطور الأسواق واستجابة المنافسين باستخدام نموذج التخطيط الاستراتيجي التقليدي، وبعدها يضعون خطة لعدة سنوات بهدف بلوغ الغاية المنشودة في المستقبل، ثم يُطلب من المؤسسة تنفيذ تلك الخطة. وتُمارس الرقابة على الأداء بشكل روتيني، ولكن ظاهرياً فقط لضمان أن يبقى الجميع على المسار الصحيح.
وقد نجح هذا النهج بالفعل عندما كانت الأسواق أكثر استقراراً وكانت عملية توقّع العوامل الأولية التي تؤثر على النمو والربحية في المستقبل أكثر سهولة. لنتأمّل قطاع الطيران التجاري. كان النمو في هذا القطاع ثابتاً نسبياً منذ عام 1980 حتى عام 2000، مع ازدياد عدد الأميال الجوية المقطوعة بنسبة تقل قليلاً عن 5% سنوياً. واستخدمت الشركات المصنعة وشركات الطيران نماذج منفصلة لتقييم الاستثمارات في برامج الطائرات التجارية الجديدة ولوضع خطط تطوير أساطيل الطائرات. وشهدت شركتا إيرباص وبوينغ نمواً كبيراً خلال هذين العقدين: إذ نما الأسطول العالمي للطائرات بمعدل 3 أضعاف؛ من 5,000 طائرة إلى ما يقرب من 15,000 طائرة.
ثم حصلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الإرهابية، واندلعت الحروب في العراق وأفغانستان، وارتفعت أسعار النفط، وتطورت الأزمة المالية العالمية، وازدادت المخاوف البيئية، وانتشرت جائحتا سارس وكوفيد-19. وأصبحت توقعات السفر الجوي التجاري مهمة شاقة ومعقدة؛ وكانت خاطئة في معظمها. ولا يصف هذا المثال إلا قطاعاً واحداً فقط. وفي الواقع، يتغير العالم اليوم بسرعة كبيرة تصعّب على أي شركة التخطيط لكل الاحتمالات. وقد قضى الباحثون والممارسون بالفعل سنوات في صياغة الأدوات وأطر العمل لتطوير الاستراتيجية في ظل حالات الغموض وعدم اليقين، بما فيها تخطيط التصورات، ومحاكاة مونت كارلو (محاكاة الاحتمالات المتعددة)، وتحليل الخيارات الحقيقية.
فكرة المقالة باختصار
المشكلة
يستخدم عدد قليل من الشركات مجموعة من الأدوات لتطوير الاستراتيجية في ظل حالات الغموض وعدم اليقين، كتخطيط التصورات، ومحاكاة مونت كارلو، والخيارات الحقيقية. والتزمت معظم الشركات بالتقنيات التقليدية في عملية صنع الاستراتيجية على حساب الزبائن والمساهمين وأصحاب المصالح الآخرين، حتى في مواجهة التقلبات الشديدة.
لماذا يحدث ذلك؟
أخبرنا المسؤولون التنفيذيون بالفعل أن تلك الأدوات تتطلب بيانات يصعب جمعها وتحليلها، وهي عملية مكلفة للغاية عند أدائها بشكل روتيني. علاوة على ذلك، قد تكون النتائج غير بديهية ومعقدة بحيث يصعب شرحها لكبار القادة وأعضاء مجلس الإدارة.
طريقة الحل
يجب على قادة الشركات اعتبار عملية صنع الاستراتيجية عملية مستمرة ينتج عنها خططاً عملية وديناميكية. ويتطلب ذلك تبني نهج جديد وعقلية جديدة لصناعة القرارات إلى جانب اعتماد نموذج جديد، مقترح في هذه المقالة، لتطوير الاستراتيجية ومراقبة الأداء.
ومثّلت كل من تلك الأدوات تقدماً ملحوظاً بالفعل. حيث شجعت ممارسة تخطيط التصورات التي شاعت في السبعينيات من القرن العشرين، المسؤولين التنفيذيين على التفكير في حالات مستقبلية متعددة عند تقييم الاستثمارات الاستراتيجية، بدلاً من الاعتماد على توقع حتمي واحد. في حين انطوت محاكاة مونت كارلو على وضع توزيع احتمالي لكل متغيّر مهم يليها تنفيذ الآلاف من عمليات المحاكاة بحيث يركز المسؤولون التنفيذيون على توزيع النتائج المحتملة بقدر تركيزهم على وضع تنبؤ بالنتيجة الأكثر ترجيحاً. وبرز تحليل الخيارات الحقيقية كتحسين إضافي في الثمانينيات من القرن العشرين، وهو نهج قائم على تبنّي المرونة عند النظر في الاستثمارات الاستراتيجية.
لكن لم ينتشر أي من تلك التقنيات على نطاق واسع، إذ طبقتها نسبة أقل من ربع المؤسسات الكبيرة عند وضع ميزانية رأس المال، في حين طبقتها نسبة أقل حتى في عملية التخطيط الاستراتيجي. وقد أخبرنا المسؤولون التنفيذيون بالفعل أن تلك الأدوات تتطلب بيانات يصعب جمعها وتحليلها، وهي عملية مكلفة للغاية عند أدائها بشكل روتيني. علاوة على ذلك، قد تكون النتائج غير بديهية ومعقدة بحيث يصعب شرحها لكبار القادة وأعضاء مجالس إدارة الشركات. والنتيجة: التزمت معظم الشركات بالتقنيات التقليدية في عملية صنع الاستراتيجية على حساب الزبائن والمساهمين وأصحاب المصالح الآخرين، حتى في ظل التقلبات الشديدة. لكننا نؤمن بضرورة أن يُعيد قادة الأعمال النظر في ماهية الاستراتيجية الجيدة خلال الأوقات المضطربة، واعتبار عملية صنع الاستراتيجية عملية مستمرة ينتج عنها خططاً عملية وديناميكية. ونتناول بالوصف في هذه المقالة كيفية تحقيق أداء متميّز في حالات الغموض ونقترح نموذجاً عملياً لتطوير الاستراتيجية نجح في العديد من الشركات الرائدة.
التزمت معظم الشركات بالتقنيات التقليدية في عملية صنع الاستراتيجية على حساب الزبائن والمساهمين وأصحاب المصالح الآخرين، حتى في مواجهة التقلبات الشديدة.
عملية مستمرة
تُعتبر شركة ديل تكنولوجيز (Dell Technologies) إحدى الشركات التي نجحت في هذا التحول. ففي عام 2014، بعد فترة من تحويل مايكل ديل شركته إلى شركة خاصة، وضع قادتها نهجاً جديداً ومستمراً لتطوير الاستراتيجية وتخصيص الموارد. يكمن "جدول أعمال ديل" في صميم ذلك النهج، وهو عبارة عن تراكم من القضايا والفرص الاستراتيجية التي يجب معالجتها لتحسين الأداء والقيمة الجوهرية للشركة على المدى الطويل. ووضع فريق القيادة التنفيذية رؤية مستقبلية لعدة سنوات لكل نشاط تجاري من أنشطة الشركة بدلاً من وضع "خطة استراتيجية" لمعالجة جدول الأعمال. وتضمنت تلك الرؤية المستقبلية وضع توقعات لمسار أداء كل نشاط تجاري على أساس القرارات التي اتخذتها القيادة بالفعل؛ لكنها لم تشمل القرارات التي قد يتخذها القادة في المستقبل.
ثم قارنت الشركة الرؤية المستقبلية مع أحد أهداف الأداء التي تمتد لعدة سنوات ووضعته بشكل منفصل وكان مرتبطاً بتطلعات القيادة الاستراتيجية والمالية. وعادة ما ينتج عن تلك العمليات فجوة بين الرؤية المستقبلية والتطلعات. وذلك مفيد بالفعل ويمثّل حجر الزاوية في هذا النهج. فقد أتاح جدول أعمال شركة ديل للمسؤولين التنفيذيين التركيز على اتخاذ القرارات اللازمة لسد تلك الفجوة. كما بقي جدول أعمال شركة ديل عملياً: فبمجرد معالجة قضية واحدة بشكل فعال (وتحديث الرؤية المستقبلية لتعكس التزامات الأداء الناتجة)، تُضاف مشكلة جديدة إلى جدول الأعمال من القضايا المتراكمة. ونجد نتيجة لذلك أن شركة ديل تتبنى "خطة مرنة" تأخذ في الاعتبار جميع القرارات التي تم اتخاذها، إضافة إلى تبنيها عملية تركز على اتخاذ القرارات لتحقيق أداء أفضل.
إن اعتبار عملية صنع الاستراتيجية عملية مستمرة ووضع خطة مرنة يُتيح للمسؤولين التنفيذيين الاعتماد على أفضل الأدوات الحالية للتعامل مع حالات الغموض، ما يؤدي إلى استراتيجيات أكثر مرونة ويساعد في إيجاد عملية أكثر مرونة لصنع الاستراتيجيات. لنلق نظرة تفصيلية على الخطوات الخمس لهذا النهج الجديد وكيفية استفادة كل خطوة من مجموعة الأدوات لصنع استراتيجية في ظل حالات الغموض.
1. تحديد السيناريوهات المتطرفة والمقبولة في الوقت نفسه
تحاول الشركات التي تستخدم تخطيط التصورات توقع كيفية تطور الظروف السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية. ثم تطور سيناريوهات أفضل الحالات وأسوأ الحالات وسيناريوهات الحالة الأساسية المرجحة وفق الاحتمالات لتقييم التحركات الاستراتيجية.
ومن واقع خبرتنا، غالباً ما ينتج عن تحليل تلك السيناريوهات عقلية تصاعدية تقود إلى إجراء تعديلات على الاتجاه الحالي للشركة بدلاً من إجراء تغيير شامل على المسار، وهو الخيار الأمثل غالباً. وتأتي الرؤى الثاقبة غير المسبوقة من تحليل ما نطلق عليه سيناريوهات متطرفة لكنها مقبولة في الوقت نفسه. ولا ينطوي الهدف من هذا التحليل على فهم النتيجة المحتملة وإنما على الكشف عن طرق جديدة ومختلفة للمنافسة والفوز، مع الأخذ في الاعتبار عدداً كبيراً من النتائج الممكنة، والكشف عن التحركات التي "لا تحمل على الندم" والتي يجب أن تكون ذات قيمة في معظم السيناريوهات.
لنأخذ في الاعتبار شركة سي إم إس إنرجي (CMS Energy)، أكبر مؤسسة خدمات لموارد الكهرباء والغاز الطبيعي في ميشيغن. أدرك قادة الشركة قبل عقد من الزمن أن أساسيات أعمالها التجارية تتغير بسرعة. حيث كانت تواجه بيئة تنظيمية ديناميكية؛ وظهور جيل جديد وتطوّر تكنولوجيا توزيع الطاقة؛ وتغيرات في عمليات الإمداد وتكاليف المواد الأولية المهمة، كالفحم والغاز والطاقة النووية؛ وتطور ظروف السوق التي أثرت في الطلب على الكهرباء محلياً وعلى مستوى الدولة. واضطرت الشركة وسط حالة الغموض تلك إلى تحديد الاستثمارات الاستراتيجية التي يجب إجراؤها ووقت إجرائها.
طورت الشركة في الماضي خططاً استثمارية من خلال إجراء تحليل دقيق على الأسعار الآجلة للفحم والغاز الطبيعي إلى جانب وضع توقعات للمعدلات المستقبلية استناداً إلى مناقشات مع الجهات الرقابية. ولو أنها التزمت بهذا النهج، لواصلت ربما مسارها السابق، وهو الاستثمار بشكل متزايد في إمدادات إضافية من الغاز والكهرباء وانتظار التغييرات في القوانين أو ظهور شركة منافسة تقوّض قدرتها على تحقيق الأرباح وتدفعها في النهاية إلى تغيير المسار.
لكنها اختارت استخدام نموذج مختلف. حيث طور قادتها 4 سيناريوهات متطرفة ولكنها مقبولة: إلغاء القيود التنظيمية (وهو السيناريو الذي تصور إلغاءً شبه كامل للقيود التنظيمية في سوق الكهرباء بين الولايات)؛ إلغاء النظام المحوري (الذي توقع تدفقات الطاقة من نقطة إلى نقطة عبر حدود الولاية)؛ عزل الكربون (الذي توقع زيادة سريعة في القوانين البيئية)؛ والوفرة في الغاز (الذي استند إلى إمكانية أن توفر المصادر الجديدة غازاً طبيعياً منخفض التكلفة لسوق الولايات المتحدة). لم تُعتبر أي من تلك السيناريوهات محتملة، بل مثّلت النتائج التي قد تواجهها الشركة، وكان لكل منها تأثير مختلف جداً على أعمال شركة سي إم إس الأساسية بصفتها مؤسسة خدمات.
أجرى فريق القيادة التنفيذية تحليلاً على وضع الشركة في ظل كل سيناريو من السيناريوهات الأربعة، ثم وضعوا العديد من التحركات التي لا تحمل على الندم، مثل تقليص ميزانية الشركة العمومية، وتحسين ثقافة التركيز على العملاء للمساعدة في إدارة المخاطر التنظيمية، وإيجاد طرق لتقليل تكاليف الوقود والطاقة المشتراة. وستكون تلك الإجراءات ذات قيمة في ظل جميع السيناريوهات الأربعة. كما أدرك القادة أيضاً إمكانية إعادة تشكيل مجموعة منتجات توليد الطاقة استناداً إلى توافر الغاز الطبيعي وتكلفته مقارنة بضغوط عزل الكربون. والأهم من ذلك، اكتشفت شركة سي إم إس أن استراتيجيتها التقليدية المتمثلة في زيادة إمدادات الطاقة كانت خطوة محفوفة بالمخاطر في ظل جميع السيناريوهات الأربعة: فكان من المحتمل أن تجعل الشركة عرضة للنقد من قبل الجهات الرقابية والمنافسين وتعوقها عن مواكبة التغييرات المحتملة في سوق الطاقة الكهربائية. وفي الواقع، لم يتوقع أحد آنذاك أن أسعار الغاز الطبيعي ستنخفض بنحو 67% في عام 2014، لكن ذلك ما حدث بالضبط. وبما أن فريق القيادة حدد سيناريوهات متطرفة ولكنها مقبولة بدلاً من الاعتماد على السيناريوهات الأكثر ترجيحاً، أصبحت الشركة في وضع أفضل من المنافسين للتبديل من توليد الفحم إلى الغاز بسرعة، واحتلت مكاناً في العُشر الأعلى من قائمة أفضل مؤسسات الخدمات من حيث عائدات المساهمين من عام 2015 حتى عام 2020.
من المهم إدراك أن الاستثمار في التحوطات والخيارات الاستراتيجية لا يعني إجراء الاستثمار في كل مشروع. يؤدي التعامل مع مجموعة من المشاريع المتنافسة إلى إضعاف تركيز القيادة وتبديد المواهب النادرة.
2. تحديد التحوطات الاستراتيجية
تتمتع المرونة بقيمة هائلة في عالم يسوده الغموض وعدم اليقين. على سبيل المثال، إذا توقعت عند سفرك احتمالية حدوث ازدحام مروري، فقد تختار تجنب طريق سريع مرتفع (يضم عدداً أقل من الشوارع الفرعية والمنحدرات) واتخاذ طريق أكثر مرونة ولو كان أطول لتوفير الوقت. وبالمثل، يمكن للقادة دمج عامل المرونة في عملية صناعة القرارات الاستراتيجية في شكل تحوطات وخيارات. وظهر تحليل الخيارات الحقيقية بصفته منهجية لمساعدة الشركات على إدراك قيمة المرونة بشكل أفضل. يمثل الخيار الحقيقي واجباً وليس التزاماً باتخاذ بعض القرارات التجارية، ما يعني أنه يمكن لصاحب الخيار تأخير إجراء مزيد من الاستثمارات إلى حين تحليل معلومات إضافية.
وتتيح التقنيات التي تعتمد على تسعير الخيار المالي لخبراء التحليل تحديد أهمية تأخير الاستثمار أو إلغائه، شرط توفر البيانات الصحيحة. ولطالما اعتُبر تحليل الخيارات الحقيقية في أوائل العقد الأول من الألفية الثالثة أداة متطورة لتقييم استثمارات الموارد الطبيعية، وصياغة خطط جديدة لتطوير المنتجات، وتحليل الإنفاق على البحث والتطوير، وإجراء عمليات الاستحواذ، وتقييم الاستثمارات في التكنولوجيا. لكن لسوء الحظ، لم تُستخدم تلك الأداة أبداً في عمليات التخطيط الاستراتيجي. وواجه خبراء الاستراتيجية صعوبات كثيرة في تحديد معلمات النموذج لجعل نتائجه مفيدة لهم.
ومن وجهة نظرنا، لجأت الشركات إلى تجاهل نموذج تحليل الخيارات الحقيقية في وقت سابق لأوانه، في حين أنها أولت كثيراً من الاهتمام بآليات تحديد القيمة المطلقة لخيار حقيقي معين بدلاً من الاعتماد على المبادئ الأساسية للأداة لفهم القيمة النسبية للبدائل الاستراتيجية المتنافسة. على سبيل المثال، لنفترض وجود بديلين قادرين على معالجة القضايا التنافسية للشركة بشكل متساو، لكن أحدهما يوفر قدراً أكبر من المرونة لتغيير المسار، أو تأجيل الاستثمار، أو إعادة توزيع الموارد على أساس معلومات أفضل، فستكون قيمته النسبية أعلى في معظم الحالات ويجب حينها اختياره.
ونحن نشجع القادة على مراعاة أهمية المرونة عند تقييم البدائل الاستراتيجية، حتى عندما يكون من الصعب (أو ربما من المستحيل) تقدير أهميتها كمياً.
وللمرونة الاستراتيجية مجموعة متنوعة من المصادر. ويمكن للتكنولوجيا الجديدة خلق تلك المصادر في بعض الحالات. على سبيل المثال، تستبدل العديد من خطوط السكك الحديدية قاطراتها القديمة بمحركات جديدة. ومع زيادة تقلب أسعار الوقود، أصبح تحديد نوع الوقود الذي يجب اختياره للقاطرات المستقبلية أمراً بالغ الأهمية. وابتداءً من عام 2016، ازداد الفارق بين أسعار النفط والغاز الطبيعي بشكل كبير، ما خلق فرصة للتحول إلى الغاز الطبيعي لتزويد قاطرات المستقبل بالوقود. لكن لا يمكن لأحد ضمان ما إذا كان ذلك الفارق سيبقى أم أنه سيتسع أم يتقلص. في الوقت نفسه، كانت تكنولوجيا القاطرات تتغير، إذ ظهرت القاطرات ذات الوقود المرن باعتبارها بديلاً عملياً للمحركات أحادية الوقود التي كانت أقل تكلفة لكنها أقل مرونة بكثير. ويمكن للمرونة التي توفرها المحركات الجديدة تعويض التكلفة الأولية الإضافية لشرائها، وذلك اعتماداً على بنية مسار خط سكة الحديد وقاعدة الزبائن والاستراتيجية. وعلى الرغم من ذلك، عادة ما يكون الموقف أقل وضوحاً، وتجد فرق القيادة نفسها مضطرة إلى الاختيار بين الخيارات ذات المكاسب المتباينة، وذلك اعتماداً على كيفية تكشّف جوانب المستقبل. ويمكن للمسؤولين التنفيذيين عند تبنّي نهج المرونة الكشف عن الاستراتيجيات التي تتيح لهم التحوط من الخسارة وتأجيل الخيارات القيّمة للمستقبل.
وتُعتبر شركة والت ديزني أحد أبرز الأمثلة على ذلك. فقد أدرك قادتها قبل عدة سنوات أن البث التدفقي يهدد استمرارية خدمات الكابل والأقمار الصناعية التقليدية. وفي شهر أغسطس/آب عام 2017، أعلنت الشركة أنها ستستحوذ على أغلبية أسهم شركة بام تيك (BAMTech)، وهي شركة عالمية رائدة في تكنولوجيا البث المباشر عبر الإنترنت الموجه للمستهلك وخدمات التسويق. تسبب استثمار ديزني البالغ قيمته 1.58 مليار دولار في إثارة ضجة آنذاك، ما ترك المستثمرين يتساءلون عن سبب استثمار الشركة الكثير من أموالها في منصة صغيرة نسبياً (أحد فروع مؤسسة "ميجور ليغ بيسبول" (Major League Baseball)). لكن هذا الاستحواذ أتاح للشركة إطلاق منصة ديزني بلاس (Disney+) بعد أكثر من عامين بقليل. وبعد 4 أشهر من استثمارها في شركة بام تيك، بدأت ديزني الاستحواذ على شركة توينتي فيرست سينتشري فوكس (21st Century Fox). بدا هذا الاستثمار البالغ 71.3 مليار دولار كمحاولة لمضاعفة الاستثمار في وسائل الإعلام التقليدية. لكن الاستحواذ كان تحوطاً في الواقع، فقد أتاح لشركة ديزني الوصول إلى مكتبة أفلام فوكس الواسعة، وهي مجموعة ستكون ذات قيمة بغض النظر عن ماهية نموذج التوزيع المتّبع على المدى الطويل.
أتاحت الاستثمارات في التحوطات والخيارات الاستراتيجية لشركة ديزني التفوق على المنافسين الأقل بصيرة ومضاعفة قيمتها السوقية بين عامي 2017 و2020. وتحذو مؤسسات أخرى اليوم حذوها كجزء من استراتيجيتها طويلة المدى.
ومن المهم إدراك أن الاستثمار في التحوطات والخيارات الاستراتيجية لا يعني الاستثمار في كل مشروع. فمحاولة تقليل المخاطر بهذه الطريقة تجعل من المستحيل تقريباً على الشركة تحقيق ربح كبير (لكننا لم نشهد إلا أمثلة قليلة في الواقع على الاستثمار في مشاريع صغيرة بهدف كسب الريادة في السوق) وتجعل القادة يغفلون عن حقيقة أن الخسائر الصغيرة تشكل مجتمعة أموالاً طائلة. والأسوأ من ذلك هو أن إدارة قائمة من المشاريع المتنافسة يشتت تركيز القادة، ويهدر كثيراً من الوقت، ويبدد المواهب النادرة، ويضاعف الأضرار.
لنعد إلى مثال شركة ديل مرة أخرى. ففي السنوات التي سبقت عام 2013، استثمرت شركة ديل في مختلف أنواع الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية وأجهزة كروم بوكس (Chromebooks) والطابعات وأجهزة الكمبيوتر الاستهلاكية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة التجارية والمكتبية ووحدات التشغيل والخوادم ووحدات التخزين وخدمات تكنولوجيا المعلومات والبرمجيات، وذلك قبل أن تدرك كيفية تطور التكنولوجيا حتى. لكن بعيداً عن أجهزة الكمبيوتر المحمولة ووحدات التشغيل والخوادم، كانت شركة ديل متخلفة عن الركب في معظم الأسواق التي استثمرت فيها أموالها.
وبعد أن جعلت عملية صناعة القرار مرتكزة على سيناريوهات متطرفة ولكن مقبولة، بدءاً من اندثار الكمبيوترات الشخصية إلى القدرة على استخدام أجهزة الكمبيوتر المحمولة في كل مكان، أدرك فريق القيادة عدد المشاريع الصغيرة التي كان احتمال نجاحها ضئيلاً. فكانت الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية والطابعات من بين أول المشاريع التي تخلت عنها الشركة، ثم تخلّت في وقت لاحق عن خدمات تكنولوجيا المعلومات والبرمجيات.
لكن التحليل سلّط الضوء أيضاً على المجالات التي يمكن أن تضاعف الشركة فيها استثماراتها وتساعدها في تحقيق مكاسب على المدى الطويل. فخفّضت نتيجة لذلك مجموعة منتجاتها من أجهزة الكمبيوتر الشخصية والخوادم وأعادت استثمار جزء من المدخرات المتولدة لتحسين تصميم المنتجات.
وساعدت تلك الخطوات (وغيرها) شركة ديل على تحقيق النجاح، لا سيما بعد تسليع أسواق أجهزة الكمبيوتر الشخصية والخوادم ودمجها. وزادت شركة ديل أرباحها التشغيلية أكثر من ثلاثة أضعاف من عام 2013 حتى عام 2020، وزادت القيمة السوقية للشركة بنسبة 420%، وذلك من خلال الخروج من أسواق متعددة والتركيز على مشاريعها بطريقة استراتيجية.
3. إجراء التجارب قبل الاستثمار
يرى مؤسس شركة أمازون، جيف بيزوس، أن التجارب هي مفتاح الابتكار. وقد ولّدت العديد من تجارب الشركة أعمالاً تجارية جديدة مربحة، كمنصة ماركت بليس (Marketplace) وأمازون ويب سيرفيسز (AWS) وبرايم (Prime). ومع ذلك، لم يكن أداء المنصات الأخرى جيداً وسرعان ما أُغلقت، ومن بينها منصة كروسبل (Crucible)، منصة الشركة التنافسية في مجال الألعاب متعددة اللاعبين؛ وهافين (Haven)، مشروعها المشترك مع شركتي جيه بي مورغان (JPMorgan) وبيركشاير هاثاواي (Berkshire Hathaway) في مجال الرعاية الصحية؛ وسبارك (Spark)، التي مثّلت محاولة شركة أمازون بناء منصة تسوق تشبه إنستغرام. لكن بيزوس وفريقه اعتبر حالات الفشل تلك بمثابة دروس مهمة ساعدتهم في جعل الاستثمارات المستقبلية أكثر نجاحاً. وأصبحت شركة أمازون بفضل ثقافة الاختبار والتعلم واحدة من أكثر الشركات ابتكاراً وقيمة في العالم.
ويجب على القادة وضع مبادئ توجيهية في المجالات التي يرغبون في إجراء اختبارات عليها، وذلك لأن إجراء العديد من التجارب الصغيرة قد يدفع الشركة إلى تنفيذ العديد من المشاريع الصغيرة، وهي استراتيجية فاشلة كما أشرنا. على سبيل المثال، يقتصر التجريب في شركة أمازون على اختبار الأفكار "الحالمة"، أي الأفكار التي يفضّلها الزبائن، والتي قد تتحوّل إلى شركات كبيرة جداً تولّد عوائد هائلة وتحظى بفرصة الاستمرارية.
استوفت كل من منصات ماركت بليس وأيه دبليو إس وبرايم تلك المبادئ التوجيهية. لنتأمّل شركة برايم: لا يمكن لأي موظف في فريق شركة أمازون الإفصاح عن أن اختيار الزبائن الاشتراك السنوي يغطي تكاليف الشحن المجاني لهم. وتمكنت شركة أمازون من خلال إجراء التجارب، في أسواق محلية مختارة أولاً، ثم على مستوى العالم، من التحقق من مدى نجاح الفكرة ومن ثم تطوير منصة برايم لتصبح شركة تبلغ قيمتها 25 مليار دولار بحلول عام 2020، أي بعد 15 عاماً من إطلاقها. باختصار، تُعتبر التجارب الصغيرة مفيدة تماماً (وهي محل تشجيع في الواقع)، لكن لا بدّ من ربط كل تجربة بهدف أكبر لضمان قيمة الاختبار. فتطبيق التجارب بشكل صحيح سيُثبت قدرة المشاريع الكبيرة على النجاح.
4. تحديد نقاط التحفيز والعلامات الإرشادية
والمقاييس تستند قيمة الخيار إلى وقت ممارسته. ففي القطاعات التي تحصد فيها الشركات الناجحة معظم الأرباح المستقبلية، قد يؤدي الدخول في المنافسة إلى مزايا هائلة. لنتأمل مثال شركتي أوبر وليفت. قبلت أوبر أول راكب لها قبل 18 شهراً فقط من شركة ليفت، لكن تلك الانطلاقة السريعة مكنتها من تحقيق تقدم كبير، حيث بلغت حصتها السوقية 70% من الركاب؛ في حين اقتصرت حصة شركة ليفت على 30%. وبالتالي، تُعدّ معرفة وقت التحرك عاملاً مهماً، حتى في الأسواق التي تكون مزايا المتحرك الأول فيها أقل بكثير. وتحدد الشركات الرائدة استناداً إلى ذلك نقاط التحفيز والعلامات الإرشادية والمقاييس التي تساعدها على تحديد التغييرات قبل المنافسين والاستفادة من المرونة المضمنة في استراتيجياتها.
على سبيل المثال، اعتبرت شركة رائدة في مجال تصنيع المعدات الأصلية للسيارات انتشار المركبات الكهربائية التي تعمل بالبطاريات عاملاً حاسماً أو نقطة تحفيز تؤثر على معظم عناصر استراتيجيتها، بدءاً من الاستثمارات التي يجب على الشركة إجراؤها في تكنولوجيا محرك الاحتراق الداخلي التقليدية وحتى حجم شبكة وكلائها وحوكمتها ونموذج تشغيلها على المدى الطويل. تباينت آنذاك التوقعات الخاصة باحتمال انتشار المركبات الكهربائية التي تعمل بالبطاريات على نطاق واسع، من أقل من 20% من الطلب العالمي على المركبات بحلول عام 2030 وحتى أكثر من 50%. وطوّر قادة الشركة المصنعة العديد من السيناريوهات المتطرفة ولكنها مقبولة في الوقت نفسه وقرروا تقليص بصمة محرك الاحتراق الداخلي في الشركة وخطط الاستثمار بما يتماشى مع انتشار 30% من المركبات الكهربائية التي تعمل بالبطاريات بحلول عام 2030.
ومع ذلك، لاحظت الإدارة أن هذا التخفيض المدروس قد يكون غير كاف في حال تسارع انتشار المركبات الكهربائية التي تعمل بالبطاريات. وهو ما دفعها إلى تحديد بعض المؤشرات الرائدة أو العلامات الإرشادية لمراقبة سرعة انتشار المركبات الكهربائية التي تعمل بالبطاريات، مثل القواعد التنظيمية الحكومية، والتزامات الشركات المصنعة للمركبات الكهربائية التي تعمل بالبطاريات، وإرشادات إنتاج تلك المركبات من قِبل الشركات المنافسة للمستثمرين، وتكاليف بطارياتها وصولاً إلى منحنى التكاليف، ومعدلات الانتشار الملحوظة حسب المناطق الجغرافية، إضافة إلى وضع مقاييس واضحة لكل من تلك المؤشرات أو المعالم. كما حددت نقاط التحفيز والعلامات الإرشادية والمقاييس لستة عوامل أخرى أيضاً. كانت خصوصية تلك العوامل بالغة الأهمية، ما مكّن قادة الشركة المصنّعة من البقاء في حالة تيقّظ وعلى استعداد لتغيير المسار عند أول إشارة على حدوث تغيير مهم في توجهات السوق. وتتعقب الشركة المقاييس المرتبطة بكل علامة إرشادية مهم بشكل ربع سنوي. وأكد الفريق التنفيذي الرئيسي على أنه إذا أشارت العلامات الإرشادية إلى احتمال بلوغ نسبة انتشار المركبات الكهربائية التي تعمل بالبطاريات إلى 30% بحلول عام 2028، فعلى الشركة تقليل مدة تحولها من شركة مصنعة لمحركات الاحتراق الداخلية إلى المركبات الكهربائية التي تعمل بالبطاريات إلى أربع سنوات. ويمكن للقادة عند التفكير مسبقاً في التغييرات المحتملة في المسار مراعاة النظر في خياراتهم لتحقيق أفضل النتائج، إضافة إلى تحقيق استفادة كاملة من المرونة المرتبطة باتخاذ إجراءات استناداً إلى أي معلومات إضافية، وفي الوقت نفسه، تعظيم قيمة أعمالهم المربحة في إنتاج محركات الاحتراق الداخلية شرط أن تبقى عملية.
إن العلامات الإرشادية ونقاط التحفيز ليست ثابتة مطلقاً، فهي تعكس من خلال تصميمها فهم الإدارة "للمجهول المتوقع" الذي سيؤثر على استراتيجية الشركة خلال وقت معين. لكن عندما يصبح "المجهول غير المتوقع" متوقعاً، ستصبح مراجعة العلامات الإرشادية ونقاط التحفيز حينها واجبة. على سبيل المثال، ربما لم تعتبر شركة نتفليكس استحواذ شركة ديزني على بام تيك علامة إرشادية مسبقاً، لكنها اضطرت إلى الاستجابة لئلا تخسر مركزها المهيمن. وبالمثل، قبل يناير/كانون الثاني عام 2022، وضع عدد قليل جداً من الشركات علامات إرشادية محددة مرتبطة بغزو روسيا لأوكرانيا. وكانت الشركات القليلة التي دمجت ذلك الحدث في استراتيجياتها بسرعة في وضع أفضل من المنافسين مكّنها من الحفاظ على سلامة موظفيها وعلى استقرار أعمالها.
وبالتالي، يجب أن تستجيب الاستراتيجية للتغييرات غير المتوقعة في السوق والظروف التنافسية. وبناءً على ذلك، يجب على القادة مراجعة نقاط التحفيز والعلامات الإرشادية التي يتتبعونها بسرعة عند تغيّر الظروف فجأة، وذلك باتباع نفس العملية التي استخدموها لوضع المقاييس الأولية. وكلما كانت العلامات الإرشادية للشركة حديثة، كانت احتمالات تنفيذ استجابة ناجحة للصدمات الخارجية أفضل.
يجب أن يتعامل القادة مع مراقبة الأداء بعقلية جديدة. لا ينبغي أن يكون السؤال الرئيسي "كيف كان أداؤنا؟" وإنما "هل يجب أن نغير المسار؟"
عوامل عدم القدرة على التوقع
توجد أربعة مصادر لعدم القدرة على التوقع تجعل من المستحيل تقريباً على صانعي الاستراتيجيات الاعتماد على التوقع الحتمي.
عدد القوى المحركة للتغيير. تتأثر معظم القطاعات بالتغيرات نتيجة واحد أو اثنين من القوى. لنتأمّل مثال تعدين الذهب. لطالما أدرجت شركات التعدين تقلب أسعار الذهب في خططها.
لكن المخاوف البيئية، وقوانين استعمال الزرنيخ، ومعايير السلامة المتغيرة، وعدم الاستقرار السياسي، والسياسة النقدية العالمية، والتكنولوجيا غير المسبوقة، ومجموعة من العوامل الأخرى، زادت من حالة الغموض وعدم اليقين لدى المنتجين. ويجب اليوم أخذ كل عامل في الاعتبار عند اتخاذ قرارات الإنتاج وتقييم المشاريع الجديدة. لكن عندما تفوت الشركة أحد العوامل فقد تتبع مساراً خاطئاً.
العلاقات بين القوى المحركة للتغيير. العديد من القوى مترابطة، بمعنى أن التغييرات في أحد المجالات تؤدي إلى تفاقم التغييرات في مجالات أخرى. ويضاعف هذا الترابط المتبادل عدد المتغيرات التي يجب على خبراء الاستراتيجية مراعاتها.
توقعات الحالة المستقرة. عادة ما يكون هناك مجموعة واسعة من التوقعات لماهية "الحالة المستقرة" بالنسبة لكل قوة من القوى. خلُصت إحدى أكبر شركات الاتصالات في العالم في أوائل ثمانينيات القرن الماضي إلى أن الهواتف المحمولة ستبقى أمراً مبتكراً:
فقد كانت الهواتف ثقيلة بلا داع، وعمر البطارية قصير، وتغطية الشبكات متقطعة، وتكلفة الدقيقة مرتفعة.
وانسحبت الشركة عند وضع توقع بأن السوق العالمي سيبلغ 900,000 وحدة بحلول عام 2000.
في الوقت نفسه، استثمر المشغلون الآخرون الذين اعتمدوا على توقعات أكبر بمقدار 50 مرة في الهواتف الخليوية. وبالتالي، قد تجعلك محاولة اختيار أفضل تقدير تميل إلى الخطأ أكثر من الصواب.
الوقت المتوقع للوصول إلى الحالة المستقرة. غالباً ما تختلف التوقعات حول معدلات الاستخدام بشكل كبير، ولسبب وجيه، وهو صعوبة وضع تلك التوقعات. استغرق الأمر 18 عاماً حتى يثق 50 مليون شخص في أجهزة الصراف الآلي، بينما جمعت منصة وي تشات (WeChat) 50 مليون مستخدم في أقل من عام.
لنأخذ مثالاً بسيطاً لفهم تأثير هذه العوامل على وضع التوقعات: إذا واجه قطاع ما 8 قوى محركة للتغيير، ولكل منها 4 توقعات فقط للحالة المستقرة، فهذا يعني ضرورة أخذ 32 سيناريو محتملاً في الاعتبار عند وضع الخيارات الاستراتيجية. وعند إدراج أربعة توقعات إضافية للوقت المطلوب للوصول إلى الحالة المستقرة إلى جانب كل من القوى الثمانية، سيزداد عدد السيناريوهات إلى 128.
ونظراً لترابط العديد من قوى التغيير الثمانية وتوقعات الحالة المستقرة، فسرعان ما يتضح أن عدد النتائج المحتملة التي سيحتاج المسؤولون التنفيذيون إليها لتقييم استراتيجية التنفيذ، حتى في هذا المثال البسيط، يقترب بسهولة من 1,000 نتيجة أو أكثر. لكن عالمنا اليوم يتسم بالغموض وهو عالم لا يمكن التنبؤ به، خلافاً لما يوحي به هذا المثال.
5. توفير المراقبة الإلزامية
تقتصر مراقبة الأداء في معظم الشركات على الإبلاغ عن الوضع العام. حيث يجتمع فريق القيادة، بشكل ربع سنوي عادة، لمراجعة أداء كل وحدة ومقارنته بالخطة لتحديد الفروق. وكان القادة إما يحثون موظفيهم على تحقيق أداء أفضل، وإما يراجعون الخطة لتكييفها مع الفروق في أحيان أخرى. ونادراً ما كان الهدف من مراجعات الأداء رصد الظروف المستقبلية المحتملة أو تقديم إرشادات مفيدة حول ما إذا كان يجب على الشركة النظر في تغيير الاتجاه. لكن يجب على القادة التعامل مع عملية مراقبة الأداء بعقلية جديدة ليصبحوا أكثر قدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة. ولا يجب أن ينطوي السؤال الرئيسي على "كيف كان أداؤنا؟" وإنما على "هل يجب أن نغير المسار؟"
تتطلب الإجابة عن ذلك السؤال معلومات أكثر ومختلفة مقارنة بالمعلومات الواردة في تقرير الوضع العام المألوف. ويجب أن يفهم القادة الأسباب الجذرية لأي قصور في الأداء. وأن يُعدوا خططاً لحالات الطوارئ يمكن تنفيذها بسرعة لمعالجة أي تغييرات مهمة في السوق أو الظروف التنافسية. أنشأ عدد قليل من الشركات الرائدة حدوداً لفرز العلامات الإرشادية بالألوان الأخضر أو الأصفر أو الأحمر. فعندما تتجاوز علامة إرشادية ما حداً مهماً، فيشير ذلك إلى تغيير في الاتجاه (أحمر) أو الحاجة إلى إجراء تحقيق أعمق (أصفر).
وتتبنى شركة تيترا باك (Tetra Pak) نهج مراقبة الأداء هذا، وهي شركة تغليف وتجهيز للأغذية تبلغ قيمتها 11 مليار يورو ومقرها في سويسرا والسويد. فقد أخذ قادتها في الاعتبار أربعة سيناريوهات عند وضع استراتيجية الشركة تتراوح من التحوّل إلى شركة خضراء بشكل أسرع إلى الاندفاع نحو تسليع البضائع. وتتعقّب الشركة 42 علامة إرشادية كل ربع سنة، بما فيها المؤشرات البارزة مثل نسبة التغليف التي ينص عليها القانون من أجل إعادة التدوير في المناطق الجغرافية الرئيسية، والزيادة المئوية في السعر المفروضة على العبوات التي تتمتع بميزة الاستدامة، والنسبة المئوية لأسهم الجهات الفاعلة في مجال التجارة الإلكترونية في قطاع الأغذية والمشروبات، ومتوسط الهامش التشغيلي لتجار تجزئة الأغذية والمشروبات.
يركز الرئيس التنفيذي أدولفو أوريف وفريقه في المراجعات الربع سنوية على الخطط المستقبلية ("ما الذي يجب علينا فعله؟")، وليس على الأداء السابق ("ما هو مقدار مبيعاتنا في الهند في الربع الأخير؟") وعندما تقترح العلامات الإرشادية تجاوز أحد السيناريوهات، تتخذ الإدارة خطوات لتسريع برامجها الحالية أو إطلاق برامج جديدة. وهو ما مكّن شركة تيرا باك من تكييف استراتيجيتها مع التحولات الأساسية في السياسة البيئية وتفضيلات الزبائن بسرعة. على سبيل المثال، عندما زادت المرونة السعرية في أكبر أسواق شركة تيرا باك بشكل أسرع بكثير من توقعاتها الأساسية، وهو مؤشر أحمر فيما يتعلق بالتسليع، سرّعت أنشطتها فيما يتعلق بالتغليف أقل تكلفة. كما أسفر النموذج الجديد أيضاً عن جعل عملية مراقبة الأداء في الشركة أكثر توجهاً نحو العمل وأكثر ترابطاً، ما أدى إلى مستويات أعلى من النمو والربحية.
وعلى الرغم من العديد من الأدوات الواعدة التي طُوّرت للمساعدة في التعامل مع حالات الغموض، يواجه معظم المسؤولين التنفيذيين صعوبات في تطبيقها لاتخاذ قرارات أفضل. لكن النجاح في الأوقات المضطربة يتطلب نموذجاً جديداً لتطوير الاستراتيجية. وستحقق الشركات التي تتحرك بسرعة لتبني نهج أكثر ديناميكية قفزات نوعية وتبقى في الطليعة خلال العقود القادمة.
بينما ستخاطر تلك التي تلتزم بـنهج "التخطيط ثم التنفيذ" بالتخلف عن الركب، وهو وضع قد يتعذّر تصحيحه.