يقول المثل الشائع: "التاريخ لا يعيد نفسه، ولكنه يتشابه"، وهذا ما حدث مع فرض التعريفات الجمركية مجدداً.
بعد فترة طويلة من غياب التعريفات الجمركية، نجدها تعود من جديد، ليتم فرضها على مليارات الدولارات من البضائع والسلع المتداولة، بدءاً من الصلب والألمنيوم وصولاً إلى الدراجات النارية "هارلي ديفيدسون". وتعد عودتها جزءاً من حرب تجارية نشبت بين الولايات المتحدة والصين من ناحية، وبين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى، وربما تخفف المحادثات التي جرت بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود جنكر من حدة هذه التوترات.
وبإيجاز بسيط، يقصد بالتعريفات الجمركية "الضرائب التي تفرضها دولة من الدول، فترفع تكلفة الواردات".
الولايات المتحدة قد فرضت هذه المجموعة الأخيرة من التعريفات الجمركية استجابة للعجز التجاري لديها. ويقصد بالعجز التجاري أن تشتري دولة من الخارج أكثر مما تبيع. وتهدف فكرة فرض التعريفات الجمركية من الأساس إلى الحد من الرغبة في استيراد المنتجات الأجنبية، وبالتالي حماية الصناعة المحلية.
وعلى الرغم ذلك، فقد تعامل كبار الاقتصاديين في التاريخ بحذر مع هذا المبدأ تحديداً، وهو فرض الضرائب لمعالجة اختلال التوازن التجاري. وإنما الطريقة الأفضل لمعالجة هذا الاختلال هي زيادة الصادرات، وليس زيادة تكلفة الواردات بهدف الحد من استيرادها.
وبالعودة للتاريخ، نجد أن بريطانيا رفضت أيضاً مبدأ استخدام التعريفات الجمركية لتحسين الوضع التجاري لبلد ما منذ أكثر من قرن. ويعود الفضل في ذلك إلى اثنين من كبار الاقتصاديين وهما، آدم سميث، ويطلق عليه أبو الاقتصاد، وديفيد ريكاردو، ويطلق عليه أبو التجارة الدولية. فعندما ألغت المملكة المتحدة قوانين الذُرة، والتي هي جزء من التشريعات الحمائية، في عام 1846، كان ذلك بمثابة عصر جديد من الانفتاح لها، وكانت وقتها التاجر المسيطر في العالم كله.
ما هو رأي كبار الاقتصاديين السابقين في التعريفات الجمركية؟
بخلاف الكثير من الاقتصاديين، تمكن "سميث" من وضع نظرياته موضع التنفيذ. وباعتباره مفوضاً للجمارك في إسكتلندا، دعا إلى إزالة جميع الحواجز التجارية، والتي لم يكن لها أي داع سوى الحاجة إلى زيادة العائدات من أجل تحقيق ما وصفه بـ "الأغراض المناسبة" لإدارة بلد ما، كتوفير الطرق على سبيل المثال. وعلى الرغم من ذلك أيد سميث فرض رسوم معتدلة على الواردات والصادرات، على ألا تكون تلك الرسوم مرتفعة للغاية لدرجة تفتح المجال أمام التهريب وتجعله مربحاً.
ويحسب لأفكار سميث ومعتقداته بشأن السياسات الحكومية عدم تشويهه للسوق، فقد وضع واجبات متساوية لكل من المنتجين والمستوردين المختلفين، بحيث لا تمتلك مجموعة واحدة أو دولة واحدة ميزة على أخرى. فعلى سبيل المثال، رأى أنه من عدم الإنصاف إعفاء المشروبات ومنتجات التقطير الخاصة - وكانت في تلك الفترة تعتبر مشروبات الأغنياء- من ضريبة المكوس في الوقت الذي تُفرض فيه ضرائب على المشروبات الرخيصة التي كانت هي الشراب المفضل للفقراء.
لذلك، رأى أنه لو كانت التعريفات الجمركية ضرورية، فكان من اللازم معاملة جميع التجار والدول التجارية بالمعيار ذاته، حتى لا يتم تشويه "اليد الخفية" - وهو المصطلح الشهير الذي ورد في واحد من أهم كتبه "ثروة الأمم" (The Wealth of Nations) ويعني أن المصلحة الفردية ستدفع الأفراد إلى التنافس لتحقيق وتعظيم مصلحتهم، ما سيقود حتماً إلى المصلحة العامة- في السوق التي تخصص ما ينبغي على المنتجين القيام به.
في وقت لاحق، اتخذ الاقتصاديون مسلكاً مختلفاً عن مسلك آدم سميث فيما يتعلق بتطوير مجالات البحث الجديدة، وعلى الرغم من ذلك ظلوا محتفظين بأفكاره وآرائه الثاقبة. فنجد أن الاقتصادي ديفيد ريكاردو، طوّر نظرية الميزة النسبية، متأثراً بكتاب "ثروة الأمم"، والتي توضح أن الدول ينبغي أن تتخصص أولاً، ومن ثم تتاجر، وهو ما أدى إلى مزيد من الازدهار.
وفي القرن العشرين، عزز كبار الاقتصاديين من أمثال بول صامويلسون، فهمنا للتجارة الدولية من خلال الإشارة إلى أنه عندما تتخصص دولة ما، فإن هناك من يحققون استفادة أكثر، وهناك أيضاً من تكون استفادتهم أقل، حتى وإن كان النظام الاقتصادي محققاً للمكاسب بشكل عام. وهكذا، فإنه يسلط الضوء على الأثر التوزيعي للتجارة، ويشير إلى طرق لمساعدة الخاسرين من العولمة.
وعلى الرغم من تطور فهمنا للقضايا المتعلقة بالتجارة، فإن المبادئ المركزية التي وضعها كبار الاقتصاديين منذ قرنين من الزمان ما تزال قائمة وصالحة، حيث تعد التعريفات الجمركية تدبيراً حمائياً غير فعال ويتسم بالتشويه طالما كانت زيادة الضرائب على بعض الواردات تعني أن هذه الواردات تصبح أقل تنافسية بالمقارنة مع غيرها من المنتجات.
استشراف المستقبل
كثيراً ما استخدمت البلدان التدابير الحمائية لتشجيع الصناعات المحلية إلى أن تتمكن من المنافسة مع الشركات القائمة. وهذا ما فعلته الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر عندما كانت تنافس بريطانيا، وما زالت تفعله الصين أيضاً في عدد من القطاعات.
وبالتركيز على الصين على وجه الخصوص، فهي ليست مفتوحة أمام التجارة مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي شكت منه الكثير من الشركات الغربية. وتتعامل الصين بمبدأ العين بالعين في كل جولة من التعريفات الجمركية الأميركية، إلا أنه لا يوجد تكافؤ بين الدولتين في هذا الشأن. ففي الوقت الذي تهدد الولايات المتحدة بفرض رسوم جمركية على كل الصادرات الصينية تقريباً، والتي تبلغ حوالي 500 مليار دولار، ما لم يتحسن الوضع التجاري الأميركي - الصيني، لن تتمكن الصين بسهولة من الثأر بطريقة مماثلة لأنها لا تستورد ما قدره نصف تريليون دولار من البضائع من الولايات المتحدة. وقد يدفع ذلك الصين لتلجأ إلى محاكاة الولايات المتحدة في فرض قيود على الاستثمار، الأمر الذي سيحمل ضرراً كبيراً، لأن هذه القيود قد تشوه سلاسل التوريد والقرارات التشغيلية للشركات متعددة الجنسيات. ولن يكون بالإمكان التغلب على هذا وإبطاله بسهولة، على عكس التعريفات الجمركية، والتي يمكن فرضها اليوم وإلغاؤها في اليوم التالي. وهناك بالفعل بعض المؤشرات على تأثر الاستثمار بتلك التوترات التجارية. فمثلاً أفسدت الصين عطاء شركة كوالكوم الأمريكية للتقنية لشراء شركة "إن إكس بي" (NXP) الهولندية لصناعة الرقائق على الرغم من الموافقة العالمية على الصفقة من قبل جانب الجهات التنظيمية والتشريعية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
من شأن زيادة تشويه التجارة، التي تأتي جزئياً من خلال الشركات التي تستثمر في سلاسل التوريد/ التوزيع، وإجراء عمليات الاندماج والاستحواذ عبر الحدود الوطنية، أن تقابل بالرفض من جانب كبار الاقتصاديين، والذين يتفقون فيما بينهم أن التجارة الدولية تعود بالفائدة على الاقتصاد. ومن المرجح أن يوصي كبار الاقتصاديين بفتح السوق العالمية أمام "تجارة الخدمات"، كطريقة مختلفة لتحسين الوضع التجاري لبلد ما.
وقد تستفيد الولايات المتحدة بشكل متفاوت باعتبارها أكبر مصدر للخدمات في جميع أنحاء العالم، حيث تتنافس به بشكل جيد حتى مع وجود الحواجز التجارية. فإذا فتحت الصين المزيد من قطاع خدماتها، وهو ما تتطلع إلى القيام به بحذر، فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى زيادة الصادرات الأمريكية للصين وتخفيض العجز التجاري. كما ستشهد المملكة المتحدة، وهي ثاني أكبر دولة مصدرة، وغيرها من الاقتصاديات المتقدمة مثل الاتحاد الأوروبي واليابان تحسناً في وضعها التجاري، حيث أن الجزء الأكبر من هذه الاقتصاديات المتقدمة يشمل الخدمات. وعلى الرغم من إدراك حقيقة أن الخدمات لا يتم تداولها والاتجار فيها دائماً مثل المطاعم، لكن الاتحاد الأوروبي أشار إلى إمكانية بيع المزيد من الخدمات التي يحتمل أن تعكس ما ينتجه الاتحاد الأوروبي بشكل أفضل، حيث أن هناك 70% من اقتصاد الاتحاد الأوروبي عبارة عن خدمات، بينما لا تشكل الخدمات سوى ربع الصادرات.
باختصار، إن زيادة البيع، بدلاً من الحد من الاستيراد، وبالتالي الحد من الاستهلاك أو الإنتاج بمكونات أكثر تكلفة، هو أحد الدروس التي يمكن استخلاصها من كبار الاقتصاديين في التاريخ.
ولقد كان رأيهم فتح الأسواق في جميع أنحاء العالم حتى تتمكن البلدان من بيع المزيد مما تنتج، وهو الأمر الذي من شأنه أن يحقق المزيد من الازدهار والرخاء الاقتصادي. ورغم أن رؤاهم الثاقبة مازالت مستمرة في دعم الاقتصاد في وقتنا الحالي، لكن ربما تملك السياسة رأياً آخر.
اقرأ أيضاً: