على مدى أعوام، عملنا على تقديم الاستشارات وإجراء الأبحاث حول المئات من عمليات التحويل الرقمي، بالإضافة إلى المشاركة فيها. لذا فقد تشكلت لدينا فكرة واضحة عن مدى صعوبة متطلبات التحول الرقمي والصعوبة التي يتسم بها التحول الرقمي الحقيقي. التحول الرقمي ليس لضعاف القلوب، والحقيقة المرة هي أنه حتى اليوم، باءت محاولات كثيرة بالفشل، تماماً كما هو حال برامج التحول عموماً.
فالنجاح يتطلب حشد مجموعة كبيرة من الجهود وتنسيقها، لكن يجب أن تكون هذه المجموعة أكبر مما يقدره معظم القادة بكثير. وأي ضعف يظهر في أحد المجالات الأربعة المترابطة، المتمثلة في التقنية والبيانات والعمليات وإمكانية إحداث التغيير المؤسسي، سيؤدي إلى تعثر التحول الذي كان نجاحه ممكناً. وتتعلق جميع الأمور المهمة بالموظفين، بدءاً من إنشاء رؤية مقنعة ومشاركتها مروراً بصياغة خطة وتعديلها أثناء العمل، وصولاً إلى الخوض في التفاصيل.
لكن التحول الرقمي يحتاج إلى المواهب أكثر من أي شيء آخر. وبالفعل، لربما كان تجميع الفريق المناسب الذي يضم موظفين مختصين بالتقنية والبيانات والعمليات، قادرين على العمل معاً ومع قائد قوي قادر على إحداث التغيير، هو الخطوة الوحيدة والأهم التي يمكن لمؤسسة تفكر بالتحول الرقمي اتخاذها. لكن بالطبع، لا يمكن لأصحاب أفضل المواهب ضمان النجاح، إنما يكاد عدم توفرهم يضمن الفشل.
فلنستكشف المواهب التي نحتاج إليها في المجالات الأربعة واحداً تلو الآخر.
متطلبات التحول الرقمي
1. التقنية
إن الإمكانيات البكر التي تتمتع بها التقنيات الناشئة مذهلة، بدءاً من إنترنت الأشياء مروراً بالبلوك تشين وبحيرات البيانات، وصولاً إلى الذكاء الاصطناعي. ومع تزايد سهولة استخدام كثير من هذه التقنيات، فإن فهم مشاركة كل تقنية بحد ذاتها في فرصة التحول، وتكييفها مع الاحتياجات الخاصة للشركة ودمجها في الأنظمة الحالية هو أمر معقد للغاية. ولتعقيد الأمور أكثر، تحمل معظم الشركات ديناً تقنياً هائلاً يتمثل في تقنيات موروثة وراسخة يصعب تغييرها. ولا يمكنك حل هذه المشكلات إلا بواسطة موظفين يتمتعون بمهارات تقنية عميقة وواسعة وقدرة على العمل مع الشركة يداً بيد.
اقرأ أيضاً: ماذا تحتاج المؤسسات العربية لتجاوز التردد في التحول الرقمي؟
ثمة مشكلة حساسة أخرى على ذات القدر من الصعوبة، وهي أن كثيراً من رجال الأعمال قد فقدوا الثقة بقدرة أقسام تقنية المعلومات على إحداث تغيير كبير، لأن العديد من الوظائف في تقنية المعلومات تركز بصورة أساسية على استمرار العمل حتى وإن لم يكن هناك أي تقدم. لكن في نهاية المطاف، لا بد أن يشمل التحول الرقمي تقنية المعلومات المؤسسية، لذا سيكون بناء الثقة ضرورة حاسمة. وهذا يعني أنه يجب على خبراء التقنيات تقديم قيمة الأعمال وإثباتها في كل ابتكار تقني. لذا، يجب أن يتمتع قادة مجال التقنية بمهارات عالية في التواصل، ويجب أن يملكوا إحساساً استراتيجياً يمكّنهم من اتخاذ الخيارات التقنية التي تحقق التوازن بين الابتكار والتعامل مع الدين التقني.
2. البيانات
الحقيقة المرة هي أنه في كثير من الشركات اليوم، لا ترقى البيانات إلى المعايير الأساسية، وصعوبة التحول تفرض جودة أكبر بكثير في البيانات والتحليلات. لا بد أن يتضمن التحول الرقمي فهم أنماط جديدة من البيانات غير المنظمة (مثل صورة أرسلها السائق عن الضرر الذي لحق بالسيارة) وكميات كبيرة من البيانات المكتسبة من خارج الشركة، والاستفادة من البيانات التي تملكها، ودمج كل ذلك مع الاستغناء عن كميات هائلة من البيانات التي لم ولن تستعمل. ثمة مفارقة مثيرة للاهتمام فيما يتعلق بالبيانات: فمعظم الشركات تعلم أن البيانات مهمة وأن جودتها سيئة، ومع ذلك فهي تهدر موارد هائلة بسبب عجزها عن توزيع الأدوار والمسؤوليات على النحو الملائم. وغالباً ما تحمّل موظفي تقنية المعلومات المسؤولية عن هذا العجز.
وكما هو الحال مع التقنية، فأنت بحاجة إلى مواهب عميقة وواسعة في البيانات. والأهم هو القدرة على إقناع أعداد كبيرة من الموظفين في الخطوط الأمامية من المؤسسات باستلام أدوار جديدة على اعتبارهم مستخدمين ومنشئين للبيانات. وهذا يعني التفكير بالبيانات التي يحتاجون إليها الآن والتي سيحتاجون إليها بعد التحول، وتوضيحها، بالإضافة إلى مساعدة موظفي الخطوط الأمامية في تحسين عمليات وظائفهم ومهماتهم كي يتمكنوا من إنشاء البيانات على نحو صحيح.
3. العمليات
يتطلب التحول عقلية تتبنى نهج "من البداية إلى النهاية"، وإعادة النظر في طرق تلبية احتياجات الزبائن وسهولة التواصل بين نشاطات العمل والقدرة على إدارة وحدات العمل المنعزلة في أثناء التقدم. ويتناسب توجيه العملية تماماً مع هذه الاحتياجات. ولكن الكثيرين وجدوا صعوبة في مواءمة إدارة العمليات بأنواعها - سواءً الأفقية أو الخاصة بالوحدات المنعزلة أو المركزة على الزبائن- مع التفكير التقليدي القائم على التراتبية الهرمية. وبالنتيجة، تضاءل هذا المفهوم القوي. ومن دونه، يقتصر التحول على سلسلة من التحسينات المتزايدة التي لا تعتبر تحويلية بحق على الرغم من أهميتها وفائدتها.
عند بناء المواهب في هذا المجال، يجب البحث عن إمكانية تحقيق التوافق بين الوحدات المنعزلة وتوجيهها نحو الزبون، من أجل تحسين العمليات الحالية وتصميم عمليات جديدة، بالإضافة إلى البحث عن الحس الاستراتيجي لمعرفة ما إذا كانت التحسينات المتزايدة على العمليات كافية وما إذا كانت إعادة تصميم العمليات بصورة كاملة ضرورية.
4. إمكانية إحداث تغيير مؤسسي
في هذا المجال، نشمل القيادة وعمل الفريق والشجاعة والذكاء العاطفي وغيرها من عناصر إدارة التغيير. لحسن الحظ، تتوفر مؤلفات كثيرة بشأن هذا المجال منذ عدة أعوام، لذا لن نناقشه هنا، كما أنه ليس هناك ما يشير إلى ضرورة امتلاك أي مسؤول عن التحول الرقمي خبرة كبيرة في هذا المجال. ويبدو الاحتمال ضئيلاً لتبني من ينجذبون نحو التقنية والبيانات والعمليات الجانب الإنساني من التغيير، إلا أننا لا نملك أي دليل ملموس يؤكد ذلك. وبالطبع، في توصياتنا المذكورة آنفاً، نحث القادة على البحث عمن يتمتعون بمهارات عالية في التعامل مع الأشخاص. وإذا لم تتمكن من العثور عليهم، فلديك بديل جيد يتمثل في وضع بعض الأشخاص الأرجوانيين- أولئك الذين يمتلكون مزيجاً من المهارات في مجال الأعمال والتكنولوجيا معاً - ضمن فريق التحول.
5. جمّع كل ما سبق معاً
حتى الآن، ناقشنا مجالات التقنية والبيانات والعمليات وإمكانية إحداث تغيير مؤسسي وكأن كلاً منها منعزل عن الآخر، وهذا ليس صحيحاً. بل يشكل كل من هذه المجالات جزءاً من كلّ أكبر. فالتقنية هي محرك التحول الرقمي، والبيانات هي الوقود، والعمليات هي نظام التوجيه، وإمكانية إحداث تغيير مؤسسي هي ترس الهبوط. وأنت بحاجة إلى جميع هذه الأجزاء، ويجب أن تعمل جميعها معاً على نحو جيد.
خذ مثلاً المشكلة التي تسمى "أنظمتنا لا يتحدث بعضها إلى بعض"، التي تعرقل معظم الشركات وتشكل لعنة على التحول الرقمي. إلى أي مجال تنتمي؟ بحسب وصفها السابق، فهي مشكلة تقنية، ولكنها أيضاً تؤدي إلى قصور كبير في العمليات. ومع ذلك، فهي تنتج عن عدم امتلاك بنية متماسكة للبيانات، وقد تتضمن أيضاً مشاكل يصعب تغييرها فيما يتعلق بالبنية والسياسات التنظيمية. لذا، يمكن أن نقول إن أي مجال من هذه المجالات قادر على قيادة جهود التحول، لكن الحل الأمثل هو أن تعمل المجالات الأربعة معاً.
بيد أنه في غياب الفهم العميق لكل من هذه المجالات، يصعب على غالبية قادة الشركات رؤية كامل إمكانات التحول الرقمي، وهذا أحد العوامل التي تسهم في كثير من حالات فشل التحول الرقمي. لكن بالطبع، لا يملك أي شخص بمفرده جميع المعارف والإمكانات المطلوبة. لذا، ندعو لجمع المواهب في كل المجالات.
اقرأ أيضاً: 3 استراتيجيات رقمية للشركات المتخلفة عن ركب التحول الرقمي
وأخيراً، يجب الاستمرار بالعمل على التقنيات والبيانات والعمليات بالتسلسل المناسب، إجمالاً، من البديهي ألا يكون منطقياً أن نحول عملية غير فعالة أساساً إلى التشغيل الآلي، لذا في كثير من الحالات يجب أن نبدأ بتحسين العمليات أو إعادة تصميمها. ومن الجهة الأخرى، ستضم بعض التحولات جرعات عالية من الذكاء الاصطناعي. وبما أن البيانات السيئة تحبط تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي الجيدة وتطبيقها، فمن الضروري البدء بالعمل على البيانات. ابدأ بأهدافك النهائية، ثم طور سلسلة الخطوات الأنسب لتحقيقها.
فمن الممكن، بل من الضروري أن يركز التحول الرقمي على أهم المشكلات في الشركة. كما ستمنح هذه الأولويات أيضاً نكهة مميزة للمواهب المطلوبة. إذا كان التركيز منصباً على تحويل علاقات الزبائن مثلاً، فيمكن أن يملك أصحاب مواهب البيانات في الفريق خبرات محددة في بيانات الزبائن، وأن يملك أصحاب مواهب العمليات خبرات في المبيعات والتسويق، وهكذا دواليك. لكن الأهم في متطلبات التحول الرقمي هو أن يملك صاحب الموهبة الأنواع الأربعة التي ذكرناها من الخبرات، وأن يكون قد حقق نجاحات سابقة في إنشاء أي نوع من التحول القائم على التقنية وتنفيذه.
اقرأ أيضاً: