بالقرب من نهاية غداء عمل طويل في مطعم مشرف على بحيرة جنيف الساكنة، اعترف لنا النائب الأول لرئيس شركة تكنولوجية عالمية في حديثه عن التحول الرقمي الناجح قائلاً: "لدينا أكثر من 12 لجنة مسؤولة عن التحول الرقمي؛ ولدينا مبادرات للتحول الرقمي؛ ونحن نمضي في اتجاه التحول الرقمي بكل ما أوتينا من زخم... لكن لا أحد يستطيع أن يشرح لنا ما الذي يعنيه التحول الرقمي بالضبط".
على المستوى الأساسي، تعتبر الإجابة بسيطة: هذا التعبير المستعمل على نطاق واسع يعني تكييف استراتيجية المؤسسة وهيكليتها لاغتنام الفرص التي توفرها التكنولوجيا الرقمية. ولكن هذا ليس بالتحدي الجديد. ففي نهاية المطاف، الكمبيوترات والبرمجيات موجودة بيننا منذ عقود وهي أحدثت تغييرات في المنتجات والخدمات وفي طريقة تقديمها. لكن النقطة التي كان النائب الأول للرئيس هذا يحاول إيصالها لنا هي أنه بات من الصعوبة المتزايدة بمكان على أي شركة أن تترجم الإجابة إلى خطة عمل. فالكمبيوترات اليوم باتت قابلة لأن توضع في جيبك أو على معصمك، والتطبيقات والبرمجيات التي تعمل عليها باتت وبصورة متزايدة تمكّن من أتمتة المهام التي كان البشر تقليدياً هم من ينجزها (مثل إدارة المصاريف)، وتحولت الأجهزة التقليدية إلى برمجيات افتراضية، وزاد الطابع الشخصي أكثر فأكثر للمنتجات والخدمات المستهدفة. لا بل أكثر من ذلك، بات بوسع هذه التطبيقات الوصول إلى الناس في كل مكان: فأجهزة الاستشعار المزروعة في المعدات والتجهيزات تسمح بإيصال البيانات فوراً، الأمر الذي يسمح باتخاذ القرارات بناءً على معلومات أفضل ووضع توصيات بمعاونة الآلات.
الماهية الحقيقية للتحول الرقمي الناجح
باختصار، لم تعد التكنولوجيا الرقمية محصورة ضمن مجال ضيق هو نطاق تقنية المعلومات؛ بل باتت تطبّق في كل جزء تقريباً من أجزاء سلسلة التوريد لأي شركة. وبالتالي، من المفهوم تماماً أن يجد المدراء معاناة في فهم الماهية الحقيقية للتحول الرقمي بالنسبة لهم من حيث الفرص التي يجب اغتنامها والمبادرات التي يجب أن تحظى بالأولوية.
اقرأ أيضاً: كيف نجحت إحدى الرئيسات التنفيذيات في قيادة عملية التحول الرقمي؟
ومن غير المفاجئ أن يتوقع العديد من المدراء الذين يواجهون هذا الواقع أن ينطوي التحول الرقمي على زعزعة جذرية لأعمال الشركة، واستثمارات جديدة ضخمة في التكنولوجيا، وانتقالاً كاملاً من الأقنية التقليدية إلى الأقنية الافتراضية، والاستحواذ على شركات تكنولوجية ناشئة. المؤكد في الأمر هو أنه في بعض الحالات هناك تحول كامل في نموذج العمل. لكن بحثنا وعملنا يشيران إلى أن التحول الرقمي بالنسبة لمعظم الشركات يعني شيئاً مختلفاً تماماً عن الزعزعة الصريحة، التي يكنس الجديدُ فيها القديمَ ليحل مكانه. هناك تغيير يحصل، وفي بعض الحالات يكون من الضروري الاستبدال الجذري لعمليات التصنيع، أو أقنية التوزيع، أو النماذج التجارية؛ ولكن في أغلب الأحيان التحول يعني خطوات متزايدة تدريجياً في القيمة الأساسية المقدمة للزبون.
في الصفحات التالية، نبني على الاستنتاجات والخلاصات التي توصلنا إليها من المقابلات التي أجريناها مع أكثر من 60 شركة، ومن مئات كبار القادة الذين تفاعلنا معهم أثناء التدريس – لتصحيح بعض الأخطاء الأساسية الشائعة حول التحول الرقمي وتزويد التنفيذيين بفهم أفضل للكيفية التي يجب على الشركات أن تتجاوب من خلالها مع الاتجاهات الحالية.
يؤمن بعض المدراء أن تحقيق التحول الرقمي يتطلب منهم إدخال تعديل جذري على الطريقة التي تقدّم بها شركتهم القيمة المضافة، وإلا فإنهم سيكونون معرّضين لخطر أن تجرفهم موجة الزعزعة الآتية لا محالة. ونتيجة لذلك، وفي بداية التحولات الرقمية، تطمح الشركات إلى أن تكون شبيهة بشركة آبل وتحاول العثور على منتج أو منصة أساسيين يعتمدان على التكنولوجيا الفائقة، ويلبيان احتياجات زبائن جدد بالكامل. ورغم أن البعض قد ينجح، إلا أننا نعتقد أن احتياجات الزبائن التي ستلبيها معظم الشركات لن تختلف كثيراً عما سبق. يتمثل التحدي في العثور على الطريقة الفضلى لتلبية هذه الاحتياجات باستعمال الأدوات الرقمية. وكما أخبرنا تنفيذي أول في شركة غاليري لافاييت (Galeries Lafayette) الفرنسية المتخصصة بتجارة الأزياء الراقية: "هذا نوع جديد من التحديث. فنحن موجودون منذ أكثر من 100 عام، واضطررنا للمرور بتغييرات أخرى عبر تاريخنا، مثل وصول المتاجر الكبيرة التي تبيع كل شيء (هايبر ماركت)، ومتاجر التسوق الكبرى (المولات)، وسلاسل المتاجر المتخصصة، والأزياء السريعة، وتحول العلامات التجارية إلى متاجر تجزئة، وأخيراً التجارة الإلكترونية".
تعتبرُ شركة شحن الحاويات "ميرسك" (Maersk) مثالاً جيداً على ما قصده هذا التنفيذي. فتكاليف الشحن تتأثر بالعوائق التجارية، وعدم الكفاءة في سلاسل التوريد العالمية. كما يعاني القطاع أيضاً من غياب الشفافية. هذه تحديات شائعة. لكن ما فعلته التكنولوجيا لميرسك هو أنها وفّرت لها طريقة جديدة للتغلب على هذه التحديات. فقد دخلت الشركة في شراكة مع آي بي إم (IBM) والسلطات الحكومية لتطبيق تكنولوجيا البلوك تشين (سلاسل الكتل) من أجل الوصول السريع والآمن إلى معلومات سلاسل التوريد من مصدر واحد من طرف إلى آخر. تسمح التكنولوجيا، التي تضاف إليها القدرة على تلقي البيانات من أجهزة الاستشعار مباشرة وفوراً، بسير العمل بطريقة موثوقة عبر المؤسسة، وتخفيض المصاريف الإدارية، وإجراء تقويم أفضل للمخاطر في عمليات الشحن العالمية. يسمح هذا التحول لشركة ميرسك أن تخدم زبائنها الأساسيين بشكل أفضل. لكن ميرسك لم تتحول إلى جوجل، فهي تظل شركة يتمثل واجبها الأساسي في تقديم القيمة إلى زبائنها عبر توفير خدمة شحن سريعة وموثوقة وذات كفاءة عالية بالمقارنة مع تكلفتها – وهي خدمة تنطوي على إمكانية تحويلها إلى خدمة أكثر سلاسة وشفافية بفضل الاستفادة الذكية من التكنولوجيا الرقمية.
لم تعد التكنولوجيا الرقمية محصورة ضمن مجال ضيق هو نطاق تقنية المعلومات؛ بل باتت تطبّق في كل جزء تقريباً من أجزاء سلسلة التوريد لأي شركة.
ثمّة مثال آخر جيد هو الخطوط الجوية الروسية إيروفلوت (Aeroflot)، التي حولت نفسها من واحدة من أسوأ شركات الطيران في العالم إلى واحدة من أفضلها، بعد ارتفاع علامتها في صافي نقاط الترويج من 44% في 2010 إلى 72% في 2016؛ في حين نما عامل حمولة الركاب من 64.5% في 2009 إلى 81.3% في 2016، بحسب بيانات الشركة. فكيف حصل ذلك؟ استعملت الشركة التكنولوجيا الرقمية لتدخل تحسيناً هائلاً على أنشطتها الأساسية في العمليات، ورفع التقارير، وحجوزات الركاب، وجدولة المواعيد، وخدمة الزبائن. وبالتحديد، أنشأت الشركة لوحة قيادة تمكّن الإدارة من الاطلاع آنياً على أكثر من 450 مؤشر أداء رئيساً. كما تجمع الشركة المعلومات من أجهزة الاستشعار المركّبة على الطائرات، ما يسمح لها بالاطلاع على أداء الطائرة والصيانة الوقائية التي تخضع لها، ويقلل بالتالي من تكاليف التشغيل. وقد تمكّن قسم العلاقات العامة من تخفيض أعداد موظفيه، لأن الاستجابة لاستفسارات الصحفيين بخصوص بيانات الشركات تحتاج الآن إلى جهد أقل، لأنها متوفرة كلها على لوحة القيادة تلك. إضافة إلى ما سبق، استفادت إيروفلوت من الهيكلية الرقمية التي وضعتها لإدارة شركة الطيران الأساسية وسخرتها لتدير في الوقت ذاته شركة طيران اقتصادية (منخفضة التكاليف) تابعة لها، وهي خطوة لم تنجح إلا بضع شركات طيران في تنفيذها. مرة أخرى، لم يطرأ أي تعديل على سبب وجود الشركة: فهي تظل شركة طيران للركاب تبيع مقاعد على الطائرات إلى وجهات مختلفة عديدة. لكنها أصبحت شركة أكثر كفاءة وأكثر ملاءمة للمستخدم فحسب عبر استعمال الأدوات الرقمية.
اقرأ أيضاً: 3 استراتيجيات رقمية للشركات المتخلفة عن ركب التحول الرقمي
الزعزعة في التحول الرقمي
هذا لا يعني أنه ليس هناك من زعزعة تحصل، ولا يجب على أحد أن يخطئ في تصوّر ذلك. فالأمور تتغيّر بسرعة، والشركات التي لا تفعل شيئاً سوف تتعرض للزعزعة أو في الحد الأدنى ستتفوق عليها الشركات التي تدخل طور التحول باستعمال الأدوات الرقمية. ولكن حتى في الصناعات الكلاسيكية التي تصيبها الزعزعة الأقسى، تعتبر القصة دائماً أعقد بقليل عندما ينظر المرء إلى ما هو موجود تحت السطح. يتوقف تعرضك للزعزعة دوماً على الوظيفة التي تؤديها للزبائن. فالشركة الحالية الراسخة القادرة على استعمال الأدوات الرقمية لتلبية احتياجات الزبائن بشكل أفضل، بالمقارنة مع الشركة المزعزعة الداخلة حديثاً إلى السوق، ستظل قادرة على الازدهار.
فكرة المقالة باختصار
المشكلة
عندما تنمو الشركات، تحتاج إلى أنظمة وهياكل جديدة لإدارة أعمالها الآخذة بالتطور. ولكن في غالب الأحيان، تغيب عن ناظريها الروح والجوهر الأصليان اللذان جذبا مختلف الجهات المعنية وشحذا هممها في الأيام الأولى للشركة.
البحث
تظهر مقابلات أجريت مع أكثر من 200شخص من المؤسسين والتنفيذيين في مجموعة من الشركات السريعة النمو أن "روح الشركة الناشئة" ليست شيئاً حقيقياً فقط، وإنما من الممكن تجزئتها أيضاً إلى ثلاثة عناصر رئيسة هي: غاية الشركة (السبب من وجودها)؛ والارتباط مع الزبائن (التركيز الواضح تماماً على الأشخاص الذين يُخدمون وما يريدونه)؛ وتجربة الموظفين (السماح للموظفين أن يكون لديهم "صوت" و"اختيار.)".
الحل
إذا سارت شركة ما على خطى شركات مثل "واربي باركر،" و"نتفليكس،" و"بلاك روك،" وكانت تفكر بوعي أكبر بما تحتاج إليه للإبقاء على العناصر الثلاثة في مقدمة استراتيجيتها وعملياتها اليومية، فإنها تستطيع المحافظة على روحها أو إحيائها من جديد.
لنأخذ قطاع سيارات الأجرة (التاكسي) مثلاً. فتأثير "أوبر" على سيارات الأجرة هو واحد من أكثر الأمثلة التي تُذكر عن الزعزعة الرقمية. فالناس يتذكرون إضراب سائقي سيارات الأجرة في أنحاء العالم – وتحديداً في مدينتنا باريس وغيرها – في مواجهة ما بدا بمثابة تهديد وجودي لقوت يومهم. لكن شركات سيارات الأجرة في باريس اليوم تعيش حالة من الازدهار.
شركة "جي7" (G7) هي شركة تقليدية لسيارات الأجرة تأسست عام 1905. كانت تشتهر يوماً في باريس، حالها حال العديد من شركات سيارات الأجرة الأخرى، بوقاحة سائقيها. أما إذا انتقلنا إلى يومنا هذا، فإن "جي7" مثلها مثل أوبر طورت تطبيقاً هاتفياً يسمح للزبائن بحجز سيارة أجرة. يوفّر التطبيق مستويات مختلفة من الخدمة: التشارك بسيارة الأجرة مع شخص آخر، أو طلب سيارة الأجرة العادية، أو الخضراء (الهجينة أو الكهربائية)، أو السيارة الكبيرة (الفان)، أو خدمة كبار الشخصيات. بوسعك استعمال التطبيق لطلب سيارة من الشارع، وبوسعك أن تدفع الأجرة إلى السائق عبر التطبيق باستعمال رمزه المؤلف من أربعة أرقام.
لكن "جي7" تختلف عن أوبر في بعض النواحي الهامة: فسائقوها حاصلون على تدريب أفضل، وسياراتها أنظف، وبوسعك أن تطلب سيارة مسبقاً في وقت لاحق تحدده عوضاً عن طلبها لتصلك خلال فترة 15 دقيقة. والأهم من ذلك، ورغم أن "جي7" قد تكون في المتوسط أغلى بقليل من أوبر، إلا أنها أقل تكلفة بكثير عندما تكون في أمسّ الحاجة إليها: فأوبر تفرض زيادة في الأسعار، لتضاعف أجرتك مرتين أو ثلاث مرات أو حتى ثماني مرات، في حين أن أسعار "جي7" تظل ثابتة. من الواضح أن وصول أوبر أجبر شركات سيارات الأجرة التقليدية على تحسين خدماتها: فقد بات سائقو "جي7" يحصلون على دروس في حسن التعامل والآداب العامة (الاتيكيت). ولكن من الصعب القول إن دخول التحول الرقمي أدى بالضرورة إلى حصول إعادة ابتكار شاملة في القيمة التي تقدمها "جي7" إلى الزبائن.
الحال ذاته نجده في قطاع الفنادق الذي كان من بين القطاعات التي تعرضت إلى أكبر تهديد جرّاء صعود التكنولوجيات الرقمية، أولاً من الجهات العاملة على الإنترنت مثل إكسبيديا (Expedia) ثم من منصّات مثل "أير بي إن بي" (Airbnb)، والآن من محركات البحث مثل جوجل. عندما قابلنا الرئيس التنفيذي لسلسلة فنادق ماريوت، آرن سورنسون، لنتعرف منه على أثر التكنولوجيات الرقمية، لم يقلل من شأن التهديد. يقول سورينسون: "من الواضح أن القوى الرقمية شديدة الثورية والقوة، ويمكن أن تكون مرعبة في بعض الأحيان. ونحن في حرب مطلقة على من يستحوذ على الزبائن".
اقرأ أيضاً: ما هي معضلة التحول الرقمي؟
شدد سورينسون على أن التكنولوجيا ستكون عاملاً أساسياً في الفوز بالحرب: "يجب أن نضمن استعمال التكنولوجيا لكي نكون أكفأ في عملياتنا، ونقدم الخدمة، ونؤمّن منصة رقمية عظيمة للولاء، لكن يجب أن نضمن أيضاً امتلاكنا لمنصة كبيرة بما يكفي وتقدّم القيمة لزبائننا بحيث يحجزون مباشرة عن طريقنا. نحن لن نتفوق على جوجل في الخدمة التي تقدمها، ولكن نريد أن نضمن وجود تجمع من الأشخاص الذين يفهموننا. ويجب أن يكون ذلك عبر منصة رقمية. لكن جوهر تلك المنصة يقوم على جذب زبائننا ليتفاعلوا معنا". وهذا شيء لطالما فعلته ماريوت. فرغم أنها أطلقت منصات للمنافسة مع "إير بي إن بي"، وجذب الزبائن مباشرة إلى موقعها، إلا أنها تركز على أكثر ما تجيده ألا وهو تقديم تجربة فندقية وتجربة زبائن عظيمتين. فمن سبق له أن أقام في فنادق ماريوت أو شركتها الشقيقة "ستاروود" يعلم أنه لن يحصل على الأغلب على مراتب وشراشف السرير الفخمة التي تشتهر بهذا هذه الفنادق في شقة عادية من شقق "إير بي إن بي".
الزبون هو محور التحول الرقمي الناجح
إذا فهمتم أن التحول الرقمي لا يعني تغيير سبب وجود شركتكم، فإن ذلك سيساعدكم في تحديد التكنولوجيات التي يجب أن تركزوا عليها. والمدراء الذين يؤمنون أن الزعزعة الرقمية تتطلب إعادة ابتكار شاملة للنشاط الأساسي ينتهي بهم المطاف وقد ركضوا في آلاف الاتجاهات. ولكن إذا كان التحدي يتمثل ببساطة في تحسين الطريقة التي يلبّون بها حاجة الزبون، فإنهم سيركزون على الأغلب على التكنولوجيات التي تترك أكبر أثر على زبائنهم (مثل تجربة الزبائن أو التآزر في العلاقات) أو قدراتهم الأساسية (مثل التآزر في التكلفة). فشركتكم تماماً مثل ميرسك وإيروفلوت وجي7، قادرة ربما على المضي قدماً في خدمة الزبائن الأساسيين ذاتهم حتى في الحقبة الرقمية. كما أن احتياجات هؤلاء الزبائن لن تتغير – رغم أن الخدمة الرقمية ستوفر بالتأكيد طريقة أفضل لتلبيتها.
ليس هناك شك أن التحول الرقمي غالباً ما يمكّن من التخلص من الوسطاء غير الأكفاء والبنية التحتية التقليدية المكلفة. لكن ذلك لا يعني أن التقليدي سيختفي بالكامل. في الحقيقة، وكما هو موُثقَ توثيقاً جيداً، فإن العديد من متاجر التجزئة تجد طرقاً تقوم على تقديم خدمة هجينة تجمع ما بين التقليدي والرقمي مستفيدة من مزايا الاثنين. والأمر لا يقتصر على متاجر التجزئة – فالاتجاه ذاته ملحوظ في العديد من الشركات الأخرى التي تتعامل مع المستهلكين مباشرة.
في قطاع التجزئة، تعتبرُ "غاليري لافاييت" مثالاً كلاسيكياً. فعلى الرغم من المنافسة المحتدمة التي تواجهها من متاجر التجزئة التي تعمل عبر الإنترنت، إلا أنها تدرك أهمية القرب الجغرافي من الزبون، وهو شيء لا يمكن أن توفّره إلا المتاجر التقليدية. ولكلا النموذجين مزاياهما: فالمتاجر التقليدية تساعد في بناء علاقة عاطفية مع الزبائن، في حين أن الخدمة الرقمية (وتحديداً الذكاء الاصطناعي) تساعد في تكوين فهم أفضل لاحتياجات الزبائن. وفي حين أن الشركات في الماضي كانت تفرط في التركيز على المنتج دون التركيز بما يكفي على الزبون، إلا أن النماذج الهجينة بوسعها أن تضع الزبون في صميم اهتمام الشركة.
ولكي تضمن الشركة أنها تعمل على تكوين فهم واضح للزبون، وعلى بناء رابطة عاطفية معه، فإنها تعمل على المزج بطريقة سلسلة بين العالمين التقليدي والرقمي في متجرها الجديد الواقع في جادة الشانزيليزيه الشهيرة في باريس. فالمتجر يحتوي على مجموعة منتقاة من البضائع الفاخرة، ويضم مندوبي مبيعات معيّنين بسبب قدرتهم على التفاعل مع زوار المتجر، ولخبرتهم في الأزياء والأناقة، وسهولة تعاملهم مع شبكات التواصل الاجتماعي. هؤلاء الموظفون المعروفون باسم المتسوقين الشخصيين أو اختصاصيي انتقاء الملابس الشخصيين، بارعون في نسج العلاقات مع زبائنهم، الأمر الذي يجعل المتجر التقليدي نقطة أولية لجذب الزبون والتماس معه. بعد ذلك بوسع المتسوقين الانطلاق في رحلة نحو عمليات تجري بواسطة المنصات الرقمية. وسوف تساعد التكنولوجيا الجديدة أيضاً مندوبي المبيعات في "تذكّر" الزبائن وخياراتهم المفضلة وتحديد الاحتياجات الفردية التي ستنال اهتمامهم.
سارت محلات غاليري لافاييت جزئياً على هذا الطريق في متجرها الأفخم في جادة "بولفارد هاوسمان" في باريس، والذي زودت موظفيه بحواسب لوحية. فالزبائن يأتون إلى المتجر بعد أن يكونوا قد حصلوا عبر البحث عن طريق الإنترنت على معلومات أكثر من تلك التي لدى مندوبي المبيعات حول بعض المنتجات. وتسمح الحواسب اللوحية للموظفين بالتصفح السريع لقائمة المنتجات عبر الإنترنت ليصبحوا مطلعين تماماً مثل الزبائن.
يقدّر المتسوقون جداً زيارتهم للمتجر التقليدي لأنها تسمح لهم برؤية المنتجات الفعلية ولمسها. وبوسعهم حجز قطع الثياب عن طريق الإنترنت ثم تجريبها في المتجر دون إلزام بشرائها، أو عوضاً عن ذلك بوسعهم شراء المنتجات عن طريق الإنترنت واستلامها ببساطة من المتجر. في كلتا الحالتين، يجب على مندوبي المبيعات أن يفهموا كيف يتصرفون كمتسوقين شخصيين، وبيانات المنتجات والزبائن التي بحوزتهم تمكّنهم من فعل ذلك.
هناك العديد من العلامات التجارية التي ظهرت في العالم الرقمي أولاً تسير على الطريق ذاته. فشركة "بونوبوس" (Bonobos)، على سبيل المثال، التي ولدت في شكل رقمي بحت، أصبحت الآن تستعمل متاجر تقليدية للسماح للزبائن بتجريب الملابس. فبعد إتمام عملية الشراء، تُشحنُ الملابس مباشرة من مخزن مدار مركزياً إلى الزبائن. وتستعمل شركة واربي باركر، التي ولدت هي الأخرى كشركة رقمية، الآن المتاجر التقليدية لتوفير تجارب للزبائن تشعرهم فيها أنهم مرحّب بهم. حال متاجر التجزئة هذه كحال غاليري لافاييت، فهي تلبي الاحتياجات التي لا يبرع الجانب الرقمي في تلبيتها جيداً – لتوجِد بذلك ارتباطاً عاطفياً مع الزبائن وتتعامل مع التحديات المرتبطة بتجريب الملابس أو النظارات – مع استعمال التكنولوجيا في الوقت ذاته للاستفادة من البيانات وتحقيق الكفاءة في التكاليف.
نشهد شيئاً مشابهاً في قطاع الطاقة. فقد نجحت عدة شركات معنية بتقديم الخدمة الكهربائية في أوروبا في الجمع بفاعلية بين الجانبين التقليدي والرقمي في أنظمة الربط الكهربائي للمنازل التي تضم أجهزة ضبط حرارة (ترموستات) ذكية ومجموعة متنوعة من أجهزة الاستشعار والكشف. صحيح أن شركات مثل جوجل وأمازون دخلت سوق الأجهزة المنزلية الذكية، لكن شركات الكهرباء لديها ميزة المهندسين (أو المتعاقدين المختارين) الذين يدعمون القيمة التي تقدمها أجهزة ضبط الحرارة الذكية – والزبائن يثقون بقدرة هؤلاء الأشخاص على القيام بأعمال التركيب، والصيانة، والإصلاح. توفر بعض هذه الشركات الصيانة الوقائية: فإذا ما أشار جهاز استشعار إلى أن نظام التدفئة على وشك التعطّل، يُنبَّهُ الزبون عبر جهاز ضبط الحرارة وبوسعه جدولة زيارة مهندس سلفاً. ويساعد الإنذار ذاته المهندس في فهم المشكلة قبل الزيارة والوصول وبحوزته المعدات المناسبة لإصلاحها. هذا الدمج السلس بين الجانبين التقليدي والرقمي يمكن أن يقلل إلى حد كبير من الزيارات وقطع الغيار المستعملة، في حين أنها يوفر راحة البال للزبون.
ثمّة شركة أخرى هي وكالة السفريات تي يو آي (TUI) في المملكة المتحدة التي انتقلت إلى الجمع بين الخدمات التقليدية والرقمية. ففي بادئ الأمر، كانت تحتل موقعاً محفوفاً بالمخاطر كثيراً – فقطاعها ينظر إليه عموماً على أنه خاضع للزعزعة. ولكن مع شروعها في رحلة التحول الرقمي، اكتشفت أنه على الرغم من أن العديد من الزبائن أرادوا وضع خطط سفرهم رقمياً، إلا أنهم أرادوا أيضاً التفاعل مع بشر مثلهم في مكاتب تقليدية، وطرح الأسئلة، والشعور بالراحة تجاه مسارات رحلاتهم المعقدة.
غالباً ما تحاول الشركات الوصول إلى التكنولوجيات أو الأفكار الجديدة من خلال الاستحواذ على الشركات الناشئة، ومن ثم دمجها ضمن صفوفها. تنطوي هذه المقاربة على خطر قتل الثقافة السائدة في الشركة الناشئة، وطرد أصحاب المواهب الذين انضموا إليها أثناء إنشائها. تفضّل الشركات الذكية بناء علاقات هجينة مع الشركات الناشئة – قوية بما يكفي للتعرف على التآزر الممكن بينهما وإيجاده، ولكن ضعيفة بما يكفي لتفادي تدمير الثقافة. لذلك حتى لو كانت الشركات الذكية تملك الشركات الناشئة، فإنها تسمح لها أن تعمل وكأنها شركات مستقلة.
من الأمثلة الجيدة على ذلك شركة "آفنت" (Avnet)، التي تؤمّن حلولاً تكنولوجية عالمية وتبلغ قيمتها 19 مليار دولار. أنجزت الشركة عمليتي استحواذ هامتين على شركتين رقميتين، الأولى هي "هاكستر.آي أو" (Hackster.io)، المنصة التي تسمح لشركات التصنيع من أنحاء العالم أن تضع أفكارها الخاصة بمنتجاتها الجديدة (مثل أجهزة الاستشعار التي ترصد مستويات الضجيج والتلوث في المدن، وأجهزة الواقع المعزز، وأجهزة رصد مستويات الأوكسجين لدى الأطفال الرضع)؛ والشركة الثانية هي "دراغون إنوفيشن" (Dragon Innovation)، الشركة الناشئة التي تساعد الشركات في سد الفجوة بين المنتجات الإلكترونية المصنعة لتكون نماذج أولية، وتلك التي تنتج على نطاق صناعي واسع. تعمل هاتان الشركتان وكأنهما كيانان شبه منفصلين وهما تتواصلان مع آفنت، عبر داينا بادهورن، نائبة الرئيس فيها لشؤون الشركات الناشئة. يتمثل دور داينا في حماية الشركات المستحوذ عليها من حالات عدم الكفاءة مثل التخطيط المفرط ودورات تطوير المنتج البطيئة الموجودة لدى الشركة الأم، بينما تساعد آفنت في تعلم الرشاقة وأهمية إجراء التجارب السريعة. وتطلق هاكستير ودراغون إنوفيشن على داينا لقب الملاك الحارس.
بنت الشركات الذكية علاقات هجينة مع الشركات الناشئة – فهي قوية بما يكفي للتعرف على التآزر الممكن بينهما وإيجاده، ولكن ضعيفة بما يكفي لتفادي تدمير ثقافة الشركة الناشئة.
تتجلى أهمية الملاك الحارس في تجربة غاليري لافاييت مع "مسرّع" الشركات الناشئة لديها "لافاييت بلاغ آند بلاي" (Lafayette Plug and Play) الذي دخلت من أجله في شراكة مع متاجر تجزئة تقليدية من قبيل "ريتش مونت" (Richemont)، و"كارفور"، و"لاغاردير ترافيل" (Lagardère Travel)، و"كيابي" (Kiabi). رغم أن التنفيذيين في غاليري لافاييت يُمضون الكثير من الوقت في التفاعل مع الشركات الناشئة الموجودة في هذا المسرّع، إلا أن الشركة عانت في بادئ الأمر من ترجمة هذه التفاعلات إلى مشاريع ملموسة داخل غاليري لافاييت، لأنه لم يُعيّن قائد مشاريع للمتابعة. تحسّن الوضع منذ أن عيّنت غاليري لافاييت مديراً لشغل هذا المنصب. لا تشتري غاليري لافاييت الشركات الناشئة من المسرّع (لتفادي قتل ثقافة الإبداع فيها)، لذلك فإن وجود شخص دائم التنسيق معها يساعد في المحافظة على علاقات وثيقة مع الشركات الأعضاء في المسرّع وتطبيق المبادرات الناتجة. سارت الشركات الأخرى الأعضاء في المسرّع على خطاها، وقد تحسّن منسوب استفادتها من عمليات التعاون تلك.
في كل حالة من الحالات هناك ملاك حارس يقاتل من أجل تحقيق الاستفادة القصوى من أفضل ما تقدّمه المؤسستان، ولا يسهم بذلك فقط في تشبّث الشركة الناشئة برسالتها (وهو ما يحفز معظم أصحاب الموهبة على البقاء)، وإنما يربطها أيضاً برسالة المؤسسة الأكبر، مع حماية فريق الشركة الناشئة في الوقت ذاته من كل البيروقراطية وعمليات رفع التقارير التي تهدر معظم وقت الشركة. في غضون ذلك، بوسع الشركة الكبيرة تحقيق الاستفادة الكاملة من أفكار الشركة الناشئة، وثقافتها، وتكنولوجيتها.
غالباً ما يعتقد المدراء أن الجوهر الأساسي للتحول الرقمي هو تغيير التكنولوجيا. بالطبع العملية تنطوي على تغيير للتكنولوجيا – لكن الشركات الذكية تدرك أن التحول الرقمي يهدف في نهاية المطاف إلى تلبية احتياجات الزبون بشكل أفضل، سواء عبر زيادة كفاءة العمليات، أو التخصيص الشامل وعلى نطاق واسع بحسب حاجات الزبائن، أو تقديم العروض الجديدة. بما أن التحول الرقمي يمكّن من الربط بين الأنشطة التي كانت معزولة عن بعضها البعض سابقاً – لا بل يجعله شرطاً أساسياً حتى – لهذا الغرض، فإن الشركة يجب أن تعيد تنظيم الناس والتكنولوجيا كليهما.
على أرض الواقع، قد يعني ذلك تغيير الثقافة – فعلى سبيل المثال، في الحالات التي تستدعي وجود هيكلية أكثر رشاقة (أجايل)، تنشأ فرق تدخل داخلية تتمتع بالقدرات والصلاحيات الضرورية لمتابعة المشاريع من البداية وحتى النهاية. ورغم أن فريق التدخل هو فريق في نهاية المطاف، إلا أنه يختلف عن معظم فرق الشركات الكبيرة في أنه يمتلك الصلاحيات التي تسمح له بحل المشاكل الرئيسة بسرعة، تماماً كما يتصرّف رائد الأعمال في مثل هذه الحالات.
تمتلك شركة بطاقات الائتمان العملاقة ماستر كارد عملية منهجية لبناء فرق التدخل هذه، التي تشرف عليها مخابر ماستر كارد (Mastercard Labs). إذ بوسع الموظفين الموجودين في مختلف الأقسام الوظيفية تقديم الأفكار المؤهِّلة للحصول على الجوائز على ثلاث مراحل: الصندوق البرتقالي، والصندوق الأحمر، والصندوق الأخضر. يمنح الصندوق البرتقالي الموظفين الفرصة لاستكشاف أفكارهم والترويج لها. يتلقى الحاصلون على هذه الجائزة بطاقة مسبقة الدفع بقيمة 1,000 دولار وإرشاداً حول كيفية تقديم عرض تقديمي بخصوص حل مشكلة محددة يعاني منها الزبائن. في مرحلة الصندوق الأحمر، يحوّل الموظفون الفكرة إلى مفهوم: يتلقى الفريق 25.000 دولار للاختبار، وتطوير النموذج الأولي، والأبحاث، ودليلاً لمدة 90 يوماً يحدد الخطوات المطلوبة لبلورة المفهوم. أما الصندوق الأخضر فقد صمّم لإيجاد منتج قابل للتسويق التجاري خارج من مشروع حاضنة أعمال رسمية داخل المخابر. في هذه المرحلة، يغادر أعضاء الفريق وظائفهم لمدة ستة أشهر للعمل على المشروع.
يعطي أحد البنوك العالمية الرئيسة، ألا وهو "آي إن جي" (ING) درساً مهماً بخصوص كيفية مساعدة فرق التدخل هذه على العمل ضمن إطار هيكليات مؤسسية ذات طابع تقليدي أكبر. فقد أدرك أن تكليف الموظفين المناسبين بالعمل على مبادرات تشمل الشركة بأكملها، ومنعهم من الاستمرار زيادة عن اللزوم في العمل على مبادرة يجب أن توقف، يستدعيان توفير الدعم لرواد الأعمال الداخليين هؤلاء في الانتقال بين الأدوار المختلفة. طوّر البنك مجموعة من العمليات الداخلية التي تقوم على ثلاثة ركائز هي: "الحماية"، أي ضمان عودة الموظفين الذين يغادرون وظائفهم للعمل ضمن فريق للتدخل في أحد المشاريع إلى تلك الوظائف إذا فشلت المبادرة؛ و"الاستقلال"، أي أن أعضاء فريق التدخل لديهم مواردهم الذاتية ويستطيعون اتخاذ قراراتهم بأنفسهم؛ و"التشجيع"، أي أنه إذا نجح فريق التدخل في مهمته، فإن عمله سيحظى باحتفاء كبير داخل الشركة.
فشل عملية التحول الرقمي
بطبيعة الحال، يجب أن يكون مقبولاً أيضاً أن تخفق فرق التدخل هذه في مهمتها. ولا يجب لحالات الفشل، حتى تلك التي تحصل في وقت متأخر نسبياً، أن تكون سبباً لتهديد المسيرة المهنية لأي فرد. وكما يفسّر الرئيس التنفيذي لبنك "آي إن جي" (ING) الأمر قائلاً: "يجب أن نكون صريحين بشأن حالات الفشل وبخصوص كل ما تعلمناه أثناء العملية وأن نقر أن استعمالنا لمقاربة مختلفة قد سمح لنا أن نتعلم هذه الدروس ضمن جزء يسير من الوقت الذي يحتاجه منافسونا ".
هناك جانب له علاقة بطريقة صياغة الأمر أيضاً. فأثناء تطبيق عملاقة الاتصالات النرويجية "تيلينور" (Telenor) (التي قدّم لها ناتان بعض المشورة) لعملية التحول الرقمي فيها، أجرت تجارب تشمل تغيير تعريفات الوظائف. فعوضاً عن توصيف الأفراد كمالكي منتجات – وهم الموظفون الذي يشرفون على الوظائف وعلى الأرباح والخسائر – باتت الآن تسميهم مدراء مشاريع، وهم مسؤولون عن تصميم رحلة الزبون. هذا التحول يشجّعهم على العمل وكأنهم نسخ مصغّرة من الرؤساء التنفيذيين، بحيث يركّزون خارجياً على مشكلة الزبون، ويكونون قادرين على العمل بسرعة عبر الحدود الداخلية لتوفير الحل.
أخيراً، من المهم الإدراك أن الانتقال إلى فرق التدخل هذه يمكن أن يكون عملية مؤلمة. وفي مثال جذري على عملية إعادة التنظيم هذه، تخلّص بنك "آي إن جي" من الأقسام والوظائف وتبنى عوضاً عن ذلك هيكلية تنظيمية وفق منهجية "أجايل"، بحيث أوكل إلى فرق التدخل مسؤولية تحسين رحلات الزبائن. وعندما أنجزت عملية إعادة التنظيم، خلال إحدى عطلات نهاية الأسبوع، طُرِد جميع الموظفين من أشغالهم واضطروا إلى التقدم بطلب جديد للعودة إلى وظائفهم، عبر عدسة احتياجات الزبون التي يقدمون حلولاً لها. يعتزم بنك "آي إن جي"، وبمساعدة هذه المبادرات وأشباهها، تقليل أعداد موظفيه في هولندا وبلجيكا بنسبة 30% إلى 40% على مدار خمس سنوات. لن تكون كل عمليات التحول بهذا القدر من الدراماتيكية، ولكن في معظم الحالات بعض الخيال سيكون حتمياً عندما تعاد صياغة الوظائف.
قد يستدعي التحول الرقمي في نهاية المطاف إدخال تعديل جذري على أنظمة الدعم المكتبي الخلفي الموروثة، لكن البدء بتغيير تكنولوجي كاسح هو أمر محفوف بالكثير من المخاطر. والشركات الذكية تعثر على طريقة لتطور بسرعة تطبيقات تربط بين الخطوط الأمامية وأنظمة الدعم المكتبي الخلفي مع الاستبدال البطيء للأنظمة الموروثة بطريقة الأجايل وبالتدريج. ويمكن تحقيق ذلك من خلال بناء برمجية وسيطة للربط بين الخطوط الأمامية وأنظمة الدعم المكتبي الخلفي، أو من خلال السماح للوحدات التجارية بتبنّي الحلول المطلوبة اليوم، في حين يعمل قسم المعلوماتية على إدخال التحولات على أنظمة الدعم المكتبي الخلفي بطريقة تسمح للاثنين بالعمل بطريقة متكاملة طوال الوقت. ومع مرور الوقت، يمكن التخلص من أجزاء النظام الموروث، لكن ليس بالضرورة أن يضطر التقدم في تلبية احتياجات الزبائن إلى الانتظار حتى ذلك الوقت.
فعلى سبيل المثال، عندما شرعت شركة "تي يو آي" برحلة التحول الرقمي لديها، واجهت تحدياً صعباً: فعملياتها التجارية في مجال خدمة الأفراد والهاتف والإنترنت كانت منفصلة جغرافياً ومن حيث التشغيل، في حين أن أنظمة الحجز الموجودة في مكاتب الدعم الخلفي في المملكة المتحدة كان عمرها 35 عاماً. كانت التكنولوجيا عنصراً حاسماً بالنسبة للشركة في ذلك الوقت: فصعود أكسبيديا وغيرها من الأقنية العاملة على الإنترنت كان يهدد بإحداث زعزعة كاملة في قطاع وكالات السفريات. ضمن هذا السياق، كان من المغري جداً لشركة "تي يو آي" أن تبدأ رحلتها الرقمية بإجراء إصلاح تكنولوجي كاسح. لكن الخبرة تدل على أن محاولات استبدال الأنظمة المعقدة التي تعتبر حاسمة لأداء المهام كلها دفعة واحدة تنتهي في معظم الحالات تقريباً بكارثة. عوضاً عن ذلك، وكما قال جاكي سيموندز شخصياً، والذي كان جزءاً من فريق القيادة: "تمثل المفتاح الأساسي في تصوّر رحلة الزبون المثالية ومن ثم رؤية كيف يمكن التعامل معها بطريقة منطقية تجارياً عبر النظر إليها بالمنظار الرقمي".
وعوضاً عن أن تشرع "تي يو آي" في رحلة إصلاح كاملة، وضعت خطة ممتدة على مدار ثلاث سنوات لاستبدال تكنولوجيتها، حيث استعملت في بادئ الأمر حلولاً خاصة بها للتركيز على تحسين تجربة الزبائن. واستفادت الشركة من هذا الوقت لتعرف من الزبائن ما الذي يريدونه من العالم الرقمي. ثم ربطت التطبيق الذي يصل بين الخطوط الأمامية والخلفية بنظام المكاتب الخلفية الموروث عبر برمجية وسيطة. في المرحلة التالية، قسمت أنظمة مكاتب الدعم الخلفي إلى أنظمة فرعية استبدلتها تدريجياً، مضيفة وظيفة تربط بين الخطوط الأمامية والخلفية مع كل خطوة. في كل مرة كانت الشركة تحدّث أحد مكونات الخطوط الأمامية أو أنظمة المكاتب الخلفية، كانت تبدأ بها في إحدى الأسواق، ومن ثم تكرر النموذج لتحسينه قبل العمل مع الوحدات التجارية الأخرى.
رغم أن "تي يو آي" قررت عدم توسيع نطاق نظام حجوزاتها، نظراً لتنوّع أسواقها، إلا أن وجود استراتيجية رقمية متناغمة سمح للأسواق أن تعمل معاً، الأمر الذي حقق أقصى فائدة ممكنة من التكنولوجيا. وقد تمتعت الشركة بعقد كامل من النمو المضطرد طيلة عملية رقمنة تجربة الزبون.
تدل الخبرة على أن محاولات استبدال الأنظمة المعقدة التي تعتبر حاسمة لأداء المهام كلها دفعة واحدة تنتهي في معظم الحالات تقريباً بكارثة.
يظهر الدور التجسيري للبرمجيات الوسيطة جلياً بصفة خاصة في قطاع الخدمات المالية. ففي 2015، تبنى البرلمان الأوروبي توجيهاً جديداً خاصاً بخدمات الدفع يسمّى (PSD2). كان أحد أهداف التشريع هو تمكين المطورين من الأطراف الثالثة من بناء تطبيقات وخدمات مرتبطة بمؤسسة مالية معينة. فإذا كان أحد الأفراد غير سعيد برسوم تحويل الأموال التي يتقاضها المصرف، فإن التوجيه الخاص بخدمات الدفع يسهّل على ذلك الشخص استعمال خدمات بديلة يوفرها طرف ثالث. وعوضاً عن الانتظار لتغيير البنية التحتية الموروثة لمواجهة التحدي الذي يفرضه هذا التشريع، عمدت مؤسسات مثل دويتشه بنك وشركة "أو تي بي" (OTP) ومقرها هنغاريا إلى التركيز على بناء واجهات برمجة تطبيقات (APIs) تسمح لها بربط مزودين خارجيين، مثل "ترانسفير وايز" (TransferWise)، والشركة الاستشارية لاستثمار الثروات والتي تعتمد على الذكاء الاصطناعي "ويلثيفاي" (Wealthify)، ببنيتها التحتية الموروثة.
اقرأ أيضاً: ماذا تحتاج المؤسسات العربية لتجاوز التردد في التحول الرقمي؟
نحن لا نلمح إلى أن الشركات الكبيرة بوسعها تجاهل الحاجة إلى تحديث أنظمتها الموروثة إلى الأبد. لكن تأجيل التحول الرقمي حتى يكون بوسعكم تحديثها بالكامل أو دفعة واحدة هي عملية خطرة. فإذا ما جزأتم المشكلة إلى وحدات أصغر حجماً، وأنشأتم برمجية وسيطة، بوسعكم المحافظة على استقرار العمليات الأساسية في المؤسسة مع التجريب في الوقت ذاته في كيفية تلبية احتياجات الزبائن.
بالنسبة لمعظم الشركات، بما فيها تلك المعرضة حقاً لتهديد الزعزعة، لا يعني التحول الرقمي عادة إعادة تعريف عملية تقديم القيمة المضافة أو النموذج التجاري من الألف إلى الياء وإنما إدخال التحول على الأنشطة الأساسية باستعمال الأدوات الرقمية واستكشاف الفرص الجديدة التي تتيحها التكنولوجيا واغتنامها. كانت كل شركة وصفناها في هذا المقال قد أدخلت عناصر رقمية مختلفة على نموذجها التجاري، ولم تكن كل التغييرات مزعزعة أو معرقلة للعمل أثناء قيادة التحول الرقمي الناجح، وتمثلت المفاتيح الأساسية للنجاح في التركيز على احتياجات الزبائن، والمرونة المؤسسية، واحترام التغيير التدريجي المتزايد، وإدراك أن المهارات والتكنولوجيات الجديدة لا يجب أن يُستحوذ عليها فقط وإنما يجب أن تُحمى أيضاً – وهو شيء لطالما برعت أفضل الشركات التقليدية في فعله.
اقرأ أيضاً: أهم سببين لفشل التحول الرقمي