في عام 2011، شرعت شركة جنرال إلكتريك الأميركية في محاولة طموحة لإجراء تحول رقمي على عروض منتجاتها وخدماتها. خلقت الشركة قدرات رقمية مثيرة للإعجاب وصنفت نفسها أنها "شركة صناعية رقمية" من خلال تضمين أجهزة استشعار في العديد من المنتجات وإنشاء منصة برمجيات هائلة جديدة من أجل إنترنت الأشياء، وتحويل نماذج الأعمال الخاصة بعروضها الصناعية من أجل التخلص من أسباب فشل التحولات الرقمية البارزة. واتجهت جنرال إلكتريك أيضاً للعمل على تحويل العمليات الداخلية مثل العلاقات بين المبيعات والموردين. بدأت بعض مؤشرات الأداء، بما فيها هوامش الخدمة، في التحسن. ولاقت الشركة الكثير من الإشادات على تحولها الرقمي في الصحافة. (بما في ذلك إشادتنا بها).
لكن يبدو أنّ المستثمرين لم يقروا بهذا التحول، إذ انخفض سعر سهم الشركة لسنوات وغادر جيف إملت -المدير التنفيذي للشركة والذي يعد مؤيداً قوياً لطموحاتها الرقمية- الشركة مؤخراً إثر ضغط من مستثمرين ناشطين. وغادر مسؤولون بارزون آخرون الشركة أيضاً، في حين يركز جون فلانري، المدير التنفيذي الجديد للشركة، على خفض التكاليف في المقام الأول.
فشل التحولات الرقمية في الشركات البارزة
لا تعد جنرال إلكتريك هي الشركة الوحيدة التي تواجه مشكلات الأداء ومغادرة المسؤولين بشكل أسرع مما كان متوقعاً وسط جهود ضخمة لإجراء تحول رقمي، إذ أوقفت شركة ليغو الدانماركية تمويل برنامج البناء الافتراضي "المصمم الرقمي"، وخفضت شركة نايكي الأميركية حجم وحدتها الرقمية إلى النصف عام 2014 من خلال وقف إنتاج سوار نايكي + فيول باند الذي يتتبع النشاط البدني وبعض الاستثمارات الأخرى، في حين أرادت شركة بروكتر آند غامبل الأميركية أن تصبح "أكبر شركة رقمية في العالم" عام 2012، لكنها واجهت تحديات للنمو في اقتصاد معقد. شرعت شركة بيربري البريطانية في أن تكون أفضل علامة تجارية رقمية لمنتجات الأزياء الفاخرة في العالم، لكن أداءها واجه معاناة بعد أن تحسن في بادئ الأمر. استثمرت شركة فورد الأميركية بشكل كبير في المبادرات الرقمية ليواجه سعر سهمها تباطؤاً في الارتفاع بسبب مشكلات في التكلفة والجودة بأقسام أخرى من الشركة. أنفقت هذه الشركات الملايين لتطوير المنتجات الرقمية والبنى التحتية ومتممات العلامة التجارية ونالت اهتماماً واسعاً من وسائل الإعلام والمستثمرين، فقط لتواجه تحديات مهمة في الأداء ومعارضة المساهمين في كثير من الأحيان. ففي شركة بروكتر آند غامبل طُلب من بوب ماكدونالد، المدير التنفيذي للشركة، مغادرتها بقرار من مجلس إدارته، مثلما كان الحال مع مارك فيلدز المدير التنفيذي لشركة فورد. أما في ليغو وبيربري، نُقل مديراها التنفيذيان اللذين كانا يقودا هذا التحول الرقمي إلى مناصب أقل.
ماذا يمكننا أن نتعلم من هذه الأمثلة للأحلام الرقمية المؤجلة؟ وكيف يتخذ هؤلاء المدراء الأذكياء ذوو الخبرة قرارات لا تبدو حكيمة بعد فوات الأوان؟ لقد قاموا بهذه الاستثمارات ونالوا العديد من ردود الأفعال الرائعة من قادتهم في العالم الرقمي ومن الصحافة؛ فزادوا هذه الاستثمارات وتكررت هذه الدورة من جديد. لكن، في حين كانت شركاتهم تملك الكثير من الموارد، لم تؤتِ الرهانات الرقمية ثمارها سريعاً أو بما يكفي لمقاومة استنزاف الموارد الذي تسببه لبقية الأعمال.
اقرأ أيضاً: ما هي معضلة التحول الرقمي؟
نعتقد أنه يوجد شيء هنا أكثر من مجرد الإفراط في التنفيذ أو تباطؤ الأسواق، إذ يحدث هذا النوع من القرارت سيئة الحظ مراراً وتكراراً وفي موجة تلو الأخرى من تقنيات الأعمال التحويلية. حدث هذا النوع من القرارت مع التجارة الإلكترونية، حينما استثمرت شركات مثل ستابلز وول مارت الأميركيتين بشكل كبير في وحدات منفصلة للتجارة الإلكترونية، فقط لتستنزف هذه الوحدات موارد الشركة. وحدثت مع التحليلات والبيانات الكبيرة، حينما استثمرت شركات مثل سيرز (Sears) وزينغا (Zynga) الملايين في إنشاء وحدات للتحليلات لم تعوض الأموال التي استُثمرت فيها قط. والآن تحدث هذه القرارات مع التحول الرقمي.
الدروس المستفادة من فشل عمليات التحول الرفمي
تبرز دروس مهمة عديدة عندما تواجه الالتزامات الكبيرة لتطوير القدرات الرقمية مشكلات أساسية في الأداء المالي. وأحد هذه الدروس الواضحة هو أنّ هناك العديد من العوامل، مثل الاقتصاد أو الرغبة في منتجاتك، التي يمكنها التأثير على نجاح أي شركة بالقدر ذاته أو أكثر من قدراتها الرقمية. وبالتالي لا ينبغي للمدراء أن يعتبروا التحول الرقمي -أو أي ابتكار تقني هائل آخر- هو خلاصهم المؤكد.
الدرس الثاني هو أنّ التحول الرقمي ليس مجرد شيء يمكنك شراءه ودمجه بالمؤسسة، بل إنه متعدد الأوجه وسريع الانتشار ولا ينطوي فقط على التقنية. التحول الرقمي هو عملية مستمرة من تغيير الطريقة التي تمارس بها الأعمال، ويتطلب استثمارات تأسيسية في المهارات والمشروعات والبنية التحتية وتنظيف نظم تقنية المعلومات في كثير من الأحيان. يتطلب التحول الرقمي مزج الأشخاص والآلات وعمليات الأعمال مع كل الفوضى التي تنطوي عليها، ويتطلب أيضاً المراقبة والتدخل باستمرار من الإدارة العليا للتأكد من اتخاذ المدراء المعنيين وغير المعنيين بالقدرات الرقمية للشركة قرارات صائبة بخصوص جهودهم المبذولة لإجراء هذا التحول.
الدرس الثالث هو أنه من المهم معايرة استثماراتك الرقمية مع استعداد صناعتك لها -بالنسبة لكل من الزبائن والمنافسين. على سبيل المثال، حينما كانت شركة بروكتر آند غامبل تجري تحولها الرقمي عامي 2012 و2013، كانت بالفعل متفوقة على معظم الشركات المنافسة لها -وربما جميعها- في صناعة المنتجات الاستهلاكية. تقييمنا هو أنه ربما لا تزال بروكتر آند غامبل متفوقة على منافسيها، على الرغم من تباطؤ التحول الرقمي عندما غادر ماكدونالد الشركة. ربما كان يمكن أن تخسر بروكتر آند غامبل أرضية أقل لصالح المنافسين في حال كانت قد استثمرت في التحول الرقمي بطريقة أكثر استهدافاً. اليوم هي تفعل ذلك، إذ لا تُنفذ أي مبادرة رقمية في بروكتر آند غامبل إذا كانت لا تتناسب مع استراتيجية الشركة وإذا لم تكن مرتبطة بالقيمة. يعد نظام التحكم الرقمي فكرة ممتازة بالنظر إلى أنّ الشركة تتعرض لهجوم الآن من مستثمر رأسمالي مختلف يريد الاستحواذ على أصولها.
أخيراً، وعندما لا تسير الأمور على ما يرام في الأعمال القائمة، يمكن للدعوة إلى تطبيق نموذج عمل جديد أن تصبح أكثر قوة مما ينبغي لها؛ فعلى سبيل المثال، يسمح العديد من الأشخاص لإثارة بدء علاقة جديدة أن تدمر حياتهم الزوجية المستقرة والأقل إثارة.
وبالمثل، تُعد إمكانية إطلاق عمل مثير قائم على التقنية أمراً محيراً. يمكن لإغراء إجراء التحول الرقمي أن يستنزف الوقت والجهد ويدفع المدراء للتركيز كثيراً في كل ما هو جديد وعدم التركيز بما يكفي في كل ما هو قديم. لم تكن استثمارات شركة سيرز في التحليلات فكرة سيئة، لكن مرافق الشركة وخدماتها احتاجت إلى استثمارات أكثر. ورغم السخرية التي طالت الفريق التنفيذي لشركة نايكي بعد تقليص وحدتها الرقمية عام 2014، سمحت هذه الخطوة لهم بالتركيز على استثماراتهم الرقمية المستمرة في الأنشطة ذات القيمة الأعلى. ويبدو أنّ قرار الشركة الأخير لخفض التوظيف وتنوع المنتجات في أعمالها الحالية، مع الاستمرار في تحسين قنوات البيع الرقمية، بمثابة جهد لتحسين أداء كلا القطاعين.
اقرأ أيضاً: ماذا تحتاج المؤسسات العربية لتجاوز التردد في التحول الرقمي؟
هناك شيء مختلف بخصوص التغيير التقني الذي يدفع كبار المدراء في الشركات والمؤسسات الكبيرة للتصرف بشكل مختلف عما قد يفعلون. وعند الاستثمار في تغيير استراتيجي نموذجي، يكون المدراء عادة واضحين للغاية بشأن ما يريدون تحقيقه وما سوف يتطلبه ذلك. هناك الكثير من العمل لوضع الأمور في نصابها، لكنهم يعلمون أين يذهبون وكيف يقيسون التقدم. وإذا كانت المؤشرات تسير في الاتجاه الخاطئ، يمكنهم اتخاذ إجراءات تعيدها إلى المسار الصحيح، أو يمكنهم اختيار خفض الاستثمار.
ومع تقنيات المعلومات المبتكرة، يفقد المدراء أحياناً أساليبهم في اتخاذ قرارات منطقية. من الطبيعي أن يكون التفكير مكثفاً في أوقات التغيير التقني الجذري، ويجب على المدراء أن يدركوا ما يمكن للتقنيات الحديثة فعله، وأن يدركوا تأثيرها على الأسواق والمنتجات والخدمات وقنوات التوزيع. تتأثر هذه القرارات حتماً بالضجيج الذي يحدثه الباعة ووسائل الإعلام، ويعرض المستشارون باهظو الثمن رؤي "قيادة الفكر" والعديد من التجارب البارزة وقليل من قصص النجاح المثيرة التي تدفع الناس إلى الرغبة في المزيد. ربما يجعل مدير الشؤون الرقمية الذي يتمتع بجاذبية ساحرة الأمر أكثر صعوبة ليصبح هادئاً ومعقولاً في تلك الأوقات العصيبة.
ووسط هذه الإثارة والشك المحيط بعصر تقني جديد، قد يكون من الصعب للغاية أن تميز بين الاستثمارات التي تحتاج إليها قبل دخولك السوق والاستثمارات التي يجب أن تكون متزامنة مع استعداد السوق. وكمدير تنفيذي للشركة، قد يكون من المغري لك أن تفكر في المراحل الأولى للتغيير التقني الجذري كفرصة للسيطرة على سوق جديد بدلاً من التعرف على السوق الحالي. يكون الاستثمار وفقاً للمنحنى منطقياً عندما نعلم ما هو المنحنى، لكن مع التحول الرقمي يكون هناك الكثير من الاستكشاف والفهم قبل أن يبدأ المنحنى في أخذ شكله.
وعندما لا تؤتي الاستثمارات الرقمية ثمارها سريعاً، يمكن للمدراء التنفيذيين أن يشعروا أنّ المشكلة التي يواجهونها تكمن في عدم الإنفاق الكافي، بدلاً من عدم معرفة الشركة (أو السوق) بما يبدو عليه الوضع النهائي حقاً. ويمكنهم الخوف من أن تقليل الالتزام العام بالأعمال الجديد قد يُرى كفشل بدلاً من كونه عملية اتخاذ قرار ذكي. ربما يضاعفون رهانهم على استراتيجيتهم المختارة بدلاً من التمحور حول نهج مربح، أملاً في إرهاب السوق بدلاً من التعرف عليه.
وفي الوقت ذاته، تتعلم الأسواق المزيد عما تريده، ويتعلم المنتجون كيفية تحقيق ذلك، ويصبح الطريق إلى الأمام أكثر وضوحاً مما كان عليه من قبل. وفي هذه المرحلة، يكون من الأسهل كثيراً اتخاذ قرارات واضحة بشأن التحول الرقمي، لكن تمويل "استراتيجية رقمية كبيرة" في أثناء عملية الاكتشاف يمكن أن يتطلب صبراً أطول مما يملك المستثمرون.
بالطبع، لا تتخذ كل الشركات التي تعاني من صعوبة استيعاب التحول الرقمي على المدى القصير قرارات سيئة. فالتجارة الإلكترونية، التي بدأت منذ 20 عاماً كابتكار جذري وتحولت فيما بعد إلى عامل مدمر جذري للقيمة السوقية- أصبحت الآن ممارسة أساسية في كل صناعة. وكانت الشركات الرائدة، حتى تلك التي قامت باستثمارات كبيرة غير مربحة في وقت مبكر من المرحلة الانتقالية، قادرة على التمحور حول استراتيجيات أكثر ربحاً للتجارة الإلكترونية.
وفي العالم الرقمي، ومع ابتكارات مستقبلية مثل إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي والتجارة التحادثية، سيكون من الحكمة أن يصبح المدراء حذرين بشأن الدعوة إلى تطبيق ابتكارات تقنية جديدة. وبدلاً من تكثيف الاستثمار سريعاً وبدلاً من أن يتقلص حجم الأعمال بشكل مؤلم، سيكون من الأفضل كثيراً إذا استطاعت الشركات تحقيق تقدم ثابت نحو الحالة النهائية الصحيحة دون ارتكاب مثل هذه الأخطاء المكلفة التي تعد من أسباب فشل التحولات الرقمية البارزة.
اقرأ أيضاً: