أهمية البلوك تشين للاقتصاد التشاركي

5 دقائق
أهمية البلوك تشين

إذا تأملنا في طريقة عمل شركات الإنترنت العملاقة اليوم -مثل جوجل وفيسبوك وتويتر وأوبر وإير بي إن بي- نلاحظ سمة مشتركة بينها: فهي تعتمد على إسهامات المستخدمين كوسيلة لتحقيق قيمة داخل منصاتها. على مدار العشرين سنة الماضية، ابتعد الاقتصاد تدريجياً عن النموذج التقليدي للمؤسسات المركزية، حيث كانت الشركات الكبرى (التي غالباً ما تحتل مركزاً مسيطراً في السوق) مسؤولة عن تقديم الخدمة إلى مجموعة من المستهلكين غير الفعالين. واليوم نتحول إلى نموذج جديد للمؤسسات متزايدة اللامركزية، حيث تكون الشركات الكبرى مسؤولة عن جمع موارد العديد من الأشخاص لتقديم الخدمة إلى مجموعة أكثر تفاعلاً من المستهلكين. تشير هذه النقلة إلى نشأة جيل جديد من المؤسسات "غير المادية" التي لا تقتضي وجود مكاتب أو أصول ملموسة أو حتى موظفين، فماذا عن أهمية البلوك تشين لديها؟

مشكلة هذا النموذج أن في معظم الحالات لا تكون القيمة التي تنتجها الحشود موزعة بالتساوي بين جميع من ساهموا في إنتاج القيمة، فكل الأرباح يقتنصها الوسطاء الكبار الذين يديرون هذه المنصات.

في الآونة الأخيرة، نشأت تقنية جديدة يمكنها إصلاح هذا الاختلال. تسهل تقنية البلوك تشين (سلسلة الكتل) تبادل القيمة بطريقة آمنة وغير مركزية، دون الحاجة إلى وسيط.

ما هي أهمية البلوك تشين وكيف تعمل هذه التقنية؟

توجد خمسة مبادئ أساسية تشكل هذه التقنية.

1- قاعدة البيانات اللامركزية

كل طرف يستخدم البلوك تشين يمكنه الولوج إلى قاعدة البيانات بأكملها وتاريخها الشامل، وما من طرف واحد يتحكم في البيانات أو المعلومات. بوسع كل طرف التحقق من سجلات شركائه في المعاملة بشكل مباشر، دون الحاجة إلى وسطاء.

2- التواصل بين النظراء

يحدث التواصل بشكل مباشر بين النظراء بدلاً من أن يتم عبر عقدة مركزية. تخزن كل عقدة المعلومات وتعيد إرسالها إلى جميع العقد الأخرى.

3- الشفافية مع الهويات المجهولة

تكون كل معاملة وقيمتها المصاحبة مرئية بالنسبة إلى أي شخص له حق الولوج إلى النظام. كل عقدة أو مستخدم في البلوك تشين لديه عنوان فريد يميزه، مكون من أكثر من 30 حرفاً أبجدياً ورقمياً. بوسع المستخدمين إبقاء هوياتهم مجهولة، أو تقديم دليل على هويتهم إلى الآخرين. تتم المعاملات بين عناوين البلوك تشين.

4- ثبات السجلات

بمجرد دخول المعاملة إلى قاعدة البيانات وتحديث الحسابات، لا يمكن تعديل السجلات، لأنها متصلة بسجل كل معاملة تمت قبلها (وهذا سبب تسميتها بالسلسلة). تُستخدم أساليب وخوارزميات حسابية متنوعة لضمان ثبات السجل في قاعدة البيانات، بترتيب زمني، مع إتاحته لجميع المستخدمين على الشبكة.

5- المنطق الحسابي

الطبيعة الرقمية للسجل تعني أن معاملات البلوك تشين يمكن ربطها بالمنطق الحسابي وبرمجتها بصفة أساسية. لذا يستطيع المستخدمون وضع خوارزميات وقواعد تنشئ المعاملات تلقائياً بين العقد.

إلا أن الجانب الأكثر ابتكاراً في تقنية البلوك تشين هو قدرتها على إدارة البرمجيات بطريقة آمنة ولامركزية. بفضل البلوك تشين، لم تعد هناك حاجة إلى تشغيل تطبيقات البرمجيات على خادم مركزي، إذ يمكن إدارتها على شبكة بين النظراء لا يتحكم فيها أي طرف بعينه. يمكن استخدام هذه التطبيقات المعتمدة على تقنية البلوك تشين لتنسيق أنشطة أعداد هائلة من الأفراد، الذين يستطيعون تنظيم أنفسهم دون مساعدة طرف ثالث. فتقنية البلوك تشين في نهاية المطاف هي وسيلة يستخدمها الأفراد لتنسيق أنشطتهم المشتركة، والتفاعل بشكل مباشر بعضهم مع بعض، والسيطرة على أنفسهم بطريقة أكثر أماناً ولامركزية.

يوجد بالفعل عدد لا بأس به من التطبيقات التي اعتمدت على تقنية البلوك تشين. فمثلاً: أكاشا (Akasha) أو ستيم دوت آي أو (Steem.io) أو سينيريو (Synereo) هي شبكات اجتماعية لامركزية تعمل مثل فيسبوك، لكن من دون منصة مركزية. بدلاً من الاعتماد على مؤسسة مركزية لإدارة الشبكة واشتراط نوعية المحتوى المعروض وتوجيهه إلى جمهور محدد (غالباً من خلال خوارزميات محمية لا يُكشف عنها للجمهور)، فإن هذه المنصات تُدار بطريقة لامركزية، فتجمع أعمال مجموعات مختلفة من النظراء، الذين ينظمون أنفسهم بشكل حصري عن طريق مجموعة من القواعد المشفرة المحفوظة في البلوك تشين. يتعين على الأفراد سداد رسوم زهيدة لنشر رسائلهم على الشبكة، وهذه الرسوم تُسدد إلى أولئك الذين يساهمون في صيانة الشبكة وتشغيلها. يمكن أن يسترد المساهمون رسومهم (علاوة على تعويض إضافي) بمجرد انتشار رسائلهم عبر الشبكة وحصولهم على تقييم إيجابي من نظرائهم.

بالمثل، أوبن بازار (OpenBazaar) هو سوق لامركزية، تشبه كثيراً موقعي إيباي وأمازون، لكنها تعمل مستقلة عن أي وسيط. تعتمد المنصة على تقنية البلوك تشين لضمان قدرة المشترين والبائعين على التفاعل بشكل مباشر بعضهم مع بعض، دون تدخل أي وسيط مركزي. يحق لأي شخص تسجيل منتجه على المنصة، بحيث يصبح مرئياً لجميع المستخدمين المتصلين بالشبكة. بمجرد موافقة أحد المشترين على سعر ذلك المنتج، ينشأ حساب ضمان في البلوك تشين عملة البيتكوين ويطالب شخصين من أصل ثلاثة (وهم المشتري والبائع ووسيط محتمل كطرف ثالث) بالموافقة على إصدار المبالغ المالية (فيما يُعرف باسم الحساب متعدد التوقيعات). بمجرد إرسال المشتري المبلغ إلى الحساب، يشحن البائع المنتج، وبعد استلام المنتج يصدر المشتري المبالغ المالية من حساب الضمان. فقط في حالة حدوث مشكلة بين الطرفين، يطالب النظام بتدخل طرف ثالث (كوسيط مختار بشكل عشوائي مثلاً) ليقرر ما إن كان يجب إصدار المبالغ المالية إلى البائع، أو رد المال إلى المشتري.

هناك أيضاً منصات لامركزية لمشاركة السيارات، مثل لازوز (Lazooz) أو أركيد سيتي (ArcadeCity)، التي تعمل بشكل مشابه كثيراً لطريقة عمل أوبر، لكن دون مشغل مركزي. لا تُدار هذه المنصات إلا من خلال الشفرة المستخدمة في البنية الأساسية المعتمدة على تقنية البلوك تشين ، والمصممة للتحكم في التفاعلات الثنائية بين السائقين والمستخدمين. تعتمد هذه المنصات على تقنية البلوك تشين لتكافئ السائقين الذين يساهمون في المنصة بعملات رمزية مصممة خصيصاً بحيث تمثل حصة في تلك المنصة. كلما ساهم سائق في الشبكة، استطاع الاستفادة من نجاح تلك المنصة، وعظم تأثيره في إدارة تلك المؤسسة.

بذلك تتيح أهمية البلوك تشين ظهور أشكال جديدة من المؤسسات ليست غير ملموسة فحسب، ولكنها لامركزية أيضاً. هذه المؤسسات لا يديرها مدير أو رئيس تنفيذي أو أي نوع من الهياكل الإدارية، وإنما تُدار بشكل جمعي من خلال جميع الأفراد الذين يتفاعلون عبر البلوك تشين. وبهذا، فإنه من الضروري ألا نخلط بين هذه المؤسسات وبين النموذج التقليدي القائم على التعهيد الجماعي الذي يساهم فيه الأفراد في المنصة دون أن ينتفعوا من نجاحها. يمكن أن تدعم تقنية البلوك تشين نموذجاً أكثر تعاونية من التعهيد الجماعي، أحياناً يشار إليه بتعاونيات المنصات، حيث يصبح المستخدمون مشاركين ومنتفعين بذات الوقت في المنصات التي يساهمون فيها. وبما أنه لا وجود لمشغل وسيط، يمكن إعادة توزيع القيمة التي تُنتج في هذه المنصات بشكل أكثر عدالة بين أولئك الذين ساهموا في إنتاج القيمة.

مع توفر هذه الفرصة الجديدة لزيادة التعاونيات، سوف نتحول إلى اقتصاد تعاوني أو تشاركي حقيقي؛ اقتصاد لا تتحكم فيه قلة من المؤسسات الوسيطة الكبرى، وإنما يقوده الناس لأجل الناس.

قد تقول لنفسك إنه لا جديد في هذا. ألم نسمع هذه الوعود من قبل؟ ألم يكن من المفترض أن يحقق الاستخدام العام للإنترنت المساواة للأفراد والمشروعات الصغيرة التي تنافس عمالقة المؤسسات؟ ومع هذا، وبمرور الوقت، تبخرت معظم الوعود والأحلام في حقبة الإنترنت الأولى، إذ تشكلت مؤسسات عملاقة سيطرت على ساحتنا الرقمية.

اليوم أمامنا فرصة جديدة لتحقيق هذه الوعود. تتيح تقنية البلوك تشين أن نستبدل بنموذج المؤسسات ذات الإدارة الهرمية نظاماً تعاونياً متشابكاً غير هرمي. هذه النقلة من شأنها أن تغير طريقة توزيع الثروة من الأساس، فتمكِّن الناس من التعاون لتحقيق الصالح العام، بينما تضمن في الوقت نفسه حصول كل شخص على التعويض الذي يستحقه عن مجهوداته وإسهاماته.

ومع ذلك، يجب ألا نعتبر الأمر مفروغاً منه. فمثلما تطورت الإنترنت من بنية أساسية فائقة اللامركزية إلى نظام مركزي بشكل متزايد تحكمه قلة من شركات الإنترنت الكبرى، تظل هناك دائماً مخاطرة بأن تتشكل في نهاية المطاف مؤسسات عملاقة في فضاء أهمية البلوك تشين تحديداً. لقد خسرنا فرصتنا الأولى مع الإنترنت. إذا كانت مجتمعاتنا تُقدر فعلاً مفهوم الاقتصاد التشاركي الحقيقي الذي يحصل الأفراد العاملون فيه على التعويض المنصف لمجهوداتهم، فعلينا جميعاً أن نستخدم هذه التقنية الناشئة ونجربها، لنستكشف الفرص الجديدة التي توفرها لنا، ونوظف التطبيقات المتعددة والناجحة والجمعية التي تمكننا من التصدي لتشكيل عمالقة البلوك تشين.

اقرأ أيضاً:

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي