إدارة الوقت هو موضوع إحدى أولى المحاضرات التي ألقيها كل عام على طلاب شهادة ماجستير إدارة الأعمال "إم بي أيه" (MBA). إذ بعد مضي يومين فقط على بداية الفصل الدراسي الخريفي، يحضرون إلى محاضرتي الأولى لأرى أن بعضهم غير قادر على تدبر أمره بالفعل.
أنا أعتبر هذه المحاضرة اختباراً عملياً ونافذة لتنفس بعض الهواء الطلق، وعلى الرغم من أنهم لن يتمكنوا قط من إنجاز كل شيء، لا أنهم سيقدرون على إنجاز أهم الأمور. ويبدو أن مجرد منحهم صلاحية التحكم بأولوياتهم، عن طريق التركيز على القسم المتعلق "بالإدارة" من إدارة الوقت، قادر على تخليصهم من بعض الضغط الذي يرافقهم إلى غرفة الصف.
يمارس البريد الإلكتروني على وجه الخصوص دوراً كبيراً في شعور الموظف بالضغط أو الارتباك، وذلك وفقاً لبحث أجري عام 2011. إذ توصل مؤلفو هذا البحث إلى أن صندوق وارد البريد الإلكتروني نفسه أصبح رمزاً للضغط وعبء العمل الزائد. أضف ذلك إلى نتائج تقرير ماكنزي لعام 2012، الذي وجد أن الموظف يمضي قرابة 28% من وقته في المكتب في الإجابة عن الرسائل الإلكترونية أو قراءتها أو كتابتها. يتفقد الشخص العادي بريده الإلكتروني قرابة سبعين مرة في اليوم، وقد يصل إلى الحد الأقصى الذي يقدر بنحو 350 مرة في اليوم! يجب على الشركات الانتباه، فالموظف الذي يشعر بأنه أكثر قدرة على التحكم بوقته في العمل يشعر بسعادة أكبر عموماً، وطبيعي أن تكون مستويات الضغط المرتفعة مترابطة بالأداء الضعيف، سواء كانت ملحوظة أم لا.
يبدو جلياً أنه يجب علينا معرفة الطريقة لجعل البريد الإلكتروني يعمل في خدمتنا، وأن نعيده إلى إطار الأدوات التي نستعين بها في تنفيذ أولوياتنا. ولكن، تكمن الخطوة الأولى لتحقيق ذلك في وجود أولويات واضحة.
اقرأ أيضاً: نصائح طبية للتعامل مع البريد الإلكتروني.
ما هي أولوياتك؟
أول ما يجب عليك فعله هو إجراء جرد تفصيلي لجميع المهام التي تشكل يوم العمل ووضعها في قائمة، بدءاً من الإجابة عن الاتصالات الهاتفية وصولاً إلى العمل على ذاك المشروع الضخم. ثم عليك تفكيك الأمور الكبيرة إلى أمور أصغر. مثلاً، إذا وجب عليك كتابة تقرير لمديرك حول طريقة توظيف عدد أكبر من النساء في مجلس إدارة الشركة، يمكنك البدء بتفكيك هذه المهمة إلى أجزاء صغيرة، فتبدأ بجمع أبحاث عن عدد النساء اللاتي يعملن حالياً في مجالس إدارة الشركات، والبحث عن مسؤولين عن التوظيف مختصين بالعثور على أفضل النساء لاستلام مقاعد مجلس الإدارة وعن أفضل النساء في قطاع شركتك. ثم يمكنك الشروع بكتابة التقرير أو العرض التقديمي وتنقيحه باستخدام المعلومات التي جمعتها قبل موعد اجتماعك التالي مع مديرك.
وما أن تنتهي من قائمة الجرد هذه، يمكنك البدء بتصنيف الأعمال التي وردت فيها. ويعتبر مقياس كوفي (Covey) لإدارة الوقت أداة جيدة لهذا الغرض، وهو يضع المهمات في أربعة أقسام:
- الربع الأول: الأعمال العاجلة والهامة. وقد تتضمن الاستجابة للأزمات أو المواعيد النهائية الصارمة.
- الربع الثاني: الأعمال المهمة ولكن ليست عاجلة. كبناء العلاقات والتخطيط والتحضير.
- الربع الثالث: الأعمال العاجلة ولكن ليست مهمة. وهنا نجد قسماً كبيراً من رسائلنا الإلكترونية بالإضافة إلى المقاطعات وبعض الاجتماعات.
- الربع الأخير: الأعمال غير العاجلة وغير المهمة.
يستنزف الربعان الأول والثالث (الذي يضم البريد الإلكتروني) القسم الأكبر من وقتنا، وإذا كنت تمضي وقتًا كبيراً في الربع الرابع فتلك مشكلة كبيرة، ويجب عليك التخلص من أكبر قدر ممكن من أعمال هذا الربع. أما الربع الثاني فهو لا يحظى بالانتباه الكافي، وتتطلب الأعمال التي يتضمنها منحها ما تحتاج من الوقت كي تفكر بهدوء وتخطط لخطواتك التالية. وإلى جانب فوائد الاستعداد الجلية، هناك فائدة حقيقية للابتعاد والانغماس في عمل يشكل تحدياً معنوياً أو التفكير في مراحل وخطوات مستقبلية.
بلورة أولوياتك
تتمثل فائدة إنشاء قائمة الجرد هذه وتصنيفها في أنها تعدّك لإنشاء قوائم هادفة للأعمال التي يجب عليك القيام بها، وللإجابة بصورة أفضل عن السؤال التالي: "ما هي أفضل طريقة أقضي بها وقتي الآن؟".
كما أنها تجعل محادثاتك مع زملائك بشأن حجم العمل أكثر فعالية بكثير. فما أن تعرف ما هي أولوياتك يمكنك الاستفادة من آراء الآخرين من أجل بلورتها. وفي حين تبدو جملة "ليس لدي الوقت حالياً" رافضة، يمكن أن تؤدي الإجابة عن طلبات الآخرين باستخدام صيغة تتمحور حول أولوياتك إلى بدء محادثة. وفي حال طُلب من فريقك استلام مشروع آخر، سيكون أكثر فعالية إذا عرف كل من أفراده أولويات الآخرين. ومع تزايد انتشار المشاريع متعددة المجالات القائمة على عمل الفريق يوماً بعد يوم، يمكن لهذا النوع من المحادثات الصريحة أن تساعد في تقليل المشاكل في العمل.
كما يمكن لفهم أولوياتك أن يساعدك في النقاشات التي تدور حول أدائك. إذا اختلفت مع رئيسك حول أولوياتك، فمن الأفضل أن تعالج هذه المشكلة بصراحة وبصورة متكررة. لا تنتظر موعد مراجعتك السنوية، بل يمكنك إجراء هذه المحادثة عن طريق رسالة إلكترونية أسبوعية تشرح فيها ببساطة ما تعمل عليه وكيف تقضي وقتك. وهذا ما يعيدنا إلى الحديث عن البريد الإلكتروني.
اقرأ أيضا: كيفية حماية البريد الإلكتروني من الاختراق.
اتباع استراتيجية للتواصل من أجل تنفيذ أولوياتك
والآن وقد وضحت أولوياتك وأهدافك وصقلت قائمة الأعمال التي يجب عليك القيام بها وأصبح لديك شعور بأنك مسيطر على جدول أعمالك نوعاً ما، حان الوقت للعودة إلى صندوق الوارد. قبل التحدث عن طريقة لجعل بريدك الإلكتروني يعمل في خدمتك، هناك بضعة أمور بديهية بشأن البريد الإلكتروني ستزودك بمعلومات ضرورية من أجل خطواتك التالية.
يكون القسم الأكبر من القوة في يد المرسل، والرسالة غير المرسلة لا تستوجب الرد، والرسالة المرسلة تطلق سلسلة من الأمور التي يقوم بها المتلقي أو لا يقوم بها (يمكن القول إنه قرار نشط تماماً). ومن الواضح أنه يجب علينا إعادة تعريف الرسالة الإلكترونية. مثلاً، هي ليست مثل إجراء محادثة وجهاً لوجه، نظراً لطبيعة التفاعلات غير المتزامنة. كما أنها ليست شكلاً من أشكال التواصل المطول، وإنما نظام لتوصيل المعلومات. وأخيراً، من المؤكد أن الرسالة الإلكترونية ليست أفضل خيار لإجراء جميع اتصالاتك اليومية، على الرغم من أن معظمنا يتعامل معها على أنها كذلك. بل هي قبل كل شيء أداة اتصال تستخدم في تنفيذ الاستراتيجيات، والتواصل على نحو استراتيجي هو أمر ضروري لتنفيذ النواحي الأكثر اتساعاً من هذه الاستراتيجيات.
خذ التصور التالي على سبيل المثال: أريد أن أتواصل مع ابنتي التي تجاوزت الثلاثين من عمرها لأطرح عليها سؤالاً. هل أرسل لها رسالة إلكترونية تضم مذكرة من بضع نقاط وأسئلة مرقمة في النهاية؟ بالتأكيد لا، وخصوصاً إذا كنت أرغب في الحصول على استجابة من أي نوع. بل يكون خياري الأفضل هو إرسال رسالة نصية سريعة ومتابعة الأمر عبر الهاتف إذا لم أتلق رداً منها.
وعندما ترسل رسالة إلكترونية تتعلق بالعمل، يجب أن تخوض عملية تفكير مماثلة من حيث استراتيجية التواصل: من هو المتلقي، وما هي الرسالة التي يجب عليّ إيصالها، وما هو الرد الذي أرغب بتلقيه، وما هي الوسيلة الأفضل للتواصل مع هذا المتلقي؟ يجب التفكير بهذه الأمور الضمنية جميعها، وكل منها تمدنا بالمعلومات اللازمة للأخرى. فإذا أرسلت الرسالة المناسبة عبر وسيلة غير مناسبة لن تعود لك بالجواب الذي تحتاج إليه، والرسالة غير المناسبة للشخص المناسب هي ببساطة هدر للوقت. فلنناقش كل واحدة من هذه العناصر، المتلقي والرسالة والإجابة والوسيلة، وكيف يمكن لتغيير عاداتك في استخدام البريد الإلكتروني فيما يتعلق بكل منها أن يحسن إدارتك للوقت.
المتلقي. قبل التفكير بأي شيء آخر، فكر بمن تنوي التواصل معهم. يجب أن تضع قائمة المتلقين بدقة وحكمة. هل تقوم بإرسال معلومات يجب أن يدركها هؤلاء الأشخاص؟ هل أنت واثق أنك تتوجه بسؤالك للشخص المناسب؟
ومن أجل تنفيذ فكرة إرسال عدد أقل من الرسائل الإلكترونية سعياً لتقليل عدد الرسائل الإلكترونية التي تتلقاها، يجب أن تفكر ملياً بشأن من يرد اسمه في قائمة المتلقين. وإنشاء قواعد ضمن مؤسستك فيما يخص خانتي "إلى" (to) و"إرسال نسخة إلى" (cc) هو أمر يستحق إجراء محادثة لأجله. وضّح أن وضع أسماء أشخاص في خانة "cc" يكون بهدف إبلاغهم معلومات معينة دون أن يكون من الواجب عليهم المشاركة في المناقشات التالية (أو بالأحرى يُطلب منهم عدم المشاركة). وهذا يقلل تدفق الرسائل الإلكترونية الواردة ويخفف الضغط على الأشخاص الذين وردت أسماؤهم في خانة "cc" للرد.
الرسالة. هناك قاعدة ذهبية في البريد الإلكتروني: اكتب رسالتك الإلكترونية بنفس الأسلوب الذي تفضله في رسائلك الواردة، فلا أحد يحب الرد على رسالة طويلة جداً. أما بالنسبة لمن يتلقى رسائلك، كن دقيقاً في رسالتك وخصوصاً في خانة موضوع الرسالة. خذ تصميم الوثيقة مثلاً، ضع الرسالة والأسئلة المهمة في البداية، حيث تضمن أن يقرأها المتلقي على الأقل عندما يلقي نظرة سريعة على الرسالة.
الوسيلة. كانت الرسائل الإلكترونية فيما مضى أمراً مثيراً للاهتمام. فقد كانت عالماً جديداً وطريقة جديدة للتواصل، وكان صندوق الوارد فكرة جديدة، وكانت جملة "لديك بريد وارد" تثير الحماسة والبهجة.
ولكن تغيرت الأحوال اليوم. وحين تفكر بما يجب عليك كتابته في رسالتك الإلكترونية فكر أيضاً بمن سترسلها له. تتمثل إحدى مشاكل البريد الإلكتروني في أن شعور الرضا الذي يثيره الضغط على زر الإرسال هو شعور من طرف واحد، ويعفى المرسل من أي شعور بالذنب المترافق مع وجود عمل معلق ضمن قائمة الأعمال التي يجب عليه القيام بها، ويصبح بعد إرسال الرسالة قادراً على الانتقال إلى مجموعة الربع الثاني من الأعمال. في حين تشكل الرسالة مقاطعة للمتلقي، إذ يجد نفسه فجأة مضطراً للقيام بأحد أعمال الربع الأول أو الثالث. وكما قلنا آنفاً، يمكن أن تؤدي عدم السيطرة من جانب المتلقي إلى شعوره بعدم القدرة على السيطرة وبالتالي شعوره بالضغط.
أليس من الممكن أن يكون إرسال رسالة نصية أو إجراء اتصال هاتفي سريع أو الذهاب لطرح السؤال وجهاً لوجه أكثر فعالية؟ تذكر أن هذا النقاش ليس بشأن تحسين رسائلك الإلكترونية، بل هو بشأن إدارة وقتك وأولوياتك. وإذا كان التواصل عن طريق وسيلة أخرى يعني زيادة كفاءتك، فلربما أصبح الوقت مناسباً لتعيد التفكير بالضغط على زر الإرسال.
الإجابة. وأخيراً، كن محدداً فيما ترغب بتلقيه كإجابة عن رسالتك. من خلال معرفتك لما يجب فعله فيما يخص المتلقي والرسالة التي تود إرسالها، كيف ترغب أن يجيبك كل من يتلقى الرسالة؟
اقرأ أيضاً: تعرف على نظام شديد الفعالية للتعامل مع البريد الإلكتروني.
ومع إبقاء ما تحدثنا عنه أعلاه في حسبانك، خصوصاً إذا كنت مديراً، يجب أن تكون متنبهاً لمخاوف مرؤوسيك المباشرين وأولوياتهم. مثلاً، قد ترسل رسالة إلكترونية سريعة لأحد مرؤوسيك صباح عطلة نهاية الأسبوع، معتبراً أنها مجرد تذكير لما يجب عليه فعله صباح أول أيام العمل بعدها، ولكن عندما يراها الموظف يظنّ أنك تريد منه معالجة موضوعها على الفور. وبذلك تكون قد دمرت عطلته من دون قصد، وتسببت باستياء يشوب العلاقة بينكما، وجعلت أسبوع العمل التالي يبدأ على نحو سيئ بالفعل. وكل ذلك لأنك فكرت بعمل يجب إنجازه وأنت تتناول قهوتك صباح يوم العطلة.
وهذا ما يدفعنا للعودة إلى المتلقي، ومن ثم إلى الرسالة والوسيلة والجواب. سيساعدك التفكير على نحو استراتيجي بشأن تواصلك مع الآخرين في البقاء مسيطراً على وقتك وأولوياتك. وبعد التفكير بكل هذه الأمور أقترح عليك بعض النصائح الهامة:
- تفهّم: يحاول زملاؤك إدارة أوقاتهم وتحديد أولوياتهم مثلك تماماً. فكر بهذا الأمر قبل إرسال رسالة إلكترونية مساء آخر يوم عمل في الأسبوع.
- تأنّ: حدد أولوياتك وفكر بطريقة تجعل أفعالك تتماشى مع تحقيقها.
- احم نفسك: افهم النقاط التي تتسبب لك بالتوتر والضغط والتشتت، وافعل ما يمكن لحماية نفسك منها. أوقف برنامج بريدك الإلكتروني عندما تكون مستغرقاً بالعمل، وتواصل مع فريقك ليعرفوا أنك لن تتفقد بريدك في هذا الوقت والتزم بذلك.
على اعتبار أننا أخصائيين نتقاضى أجراً ساعياً لقاء خبراتنا وقدرتنا على تحديد المشاكل وصياغة الحلول. ومع ذلك، تصيبنا الحيرة حين نواجه مشكلة أساسية في طريقة إدارة أيامنا.
في عصر مكاتب العمل السريع والإشباع الفوري والوصول الدائم، يكون أحد أهم الأمور التي يجب علينا القيام بها على الصعيدين الشخصي والمهني هو الابتعاد قليلاً والاستراحة. فتخصيص بعض الوقت للتفكير ملياً بشأن أفعالنا وردود أفعالنا قد يتيح لنا في نهاية المطاف مزيداً من الوقت والمساحة لإنجاز أعمالنا على نحو جيد، وللشعور بالسعادة أكثر خارج العمل أيضاً.