هل تعرف شخصاً يشبه دان شنايدر؟
سواء في الشركة التي تعمل بها أو الحي الذي تسكنه أو حتى أسرتك، لا بد أنك صادفت أو تصادف يومياً هذا الشخص المزعج والذي يتدخل فيما "لا يعنيه".
هل يبدو لك هذا الشخص مألوفاً؟
في هذه المقالة نعرفك أكثر على هذا الشخص الذي يتحول يوماً بعد يوم من شخص منبوذ ومتهم بالجنون في مختلف المجتمعات ومطرود من الشركات، بل ومحكوم عليه بالسجن إلى شخص تتجه قوانين العالم اليوم نحو مكافأته، وإلزام الشركات بحمايته وإتاحة المنابر له لكي "يصرخ"، بل وباتت البيانات والأرقام تبين أن الاهتمام بتوظيف من يتدخل فيما لا يعنيه هو أمر مفيد للمؤسسات بمختلف أنواعها. وسنشرح ذلك.
من هو دان شنايدر؟
تابعت مؤخراً المسلسل الوثائقي الذي عرضته "نتفليكس" بعنوان "الصيدلي"، والذي يروي حكاية حقيقية على لسان أشخاصها الحقيقيين، وهم الصيدلي الأميركي "دان شنايدر" والذي اكتشف خلل النظام المطبق في منطقته بعد مقتل ابنه المراهق خلال محاولته شراء المخدرات في أحد الشوارع. فلم تتمكن الشرطة من اكتشاف القاتل، واعتبرتها واحدة من جرائم المخدرات التي يصعب كشفها والتي ينال فيها من ذهب لشراء المخدرات جزاءه العادل. لكن شنايدر كان مصراً على كشف القاتل، قائلاً: "إذا لم يفعلوا ذلك سأقوم بالمهمة بنفسي". وبالفعل تابع خيوط التحقيق وجمع الوثائق والتسجيلات وقابل الشهود إلى أن توصل للقاتل وجلبه للمحكمة. ثم اكتشف بعد ذلك الآلاف من المراهقين والناس الآخرين يسيرون على طريق ولده عبر صرف الأدوية المهدئة التي تؤدي إلى الإدمان والانتقال للمخدرات في منطقته؛ تلك المنطقة التي كانت في مرحلة التسعينيات من القرن الماضي بلا رقابة كافية من السلطات، بحيث انتشر الأطباء الذين يتاجرون بالوصفات الطبية التي تسمح للمدمنين بشراء هذه الأدوية المخدرة بطريقة قانونية والانتقال منها للمخدرات الحقيقية.
وفي هذه المرة يحاول شنايدر أيضاً تنبيه السلطات، لكن، لا أحد يستجيب له، بل يتهمه بعضهم بالجنون. وهنا يقول مجدداً "إذا لم يفعلوا سأفعل أنا"، وحمل القضية على عاتقه، وبات يوثق عيادات الأطباء، ويسجل ويصور بالكاميرا والفيديو، ما يحصل من شهادات للمرضى الذين يراجعونه لوصف الأدوية في الصيدلية التي يعمل بها. كما راقب الطبيبة الأشهر التي تصف هذه الأدوية، وكان يزود السلطات بوثائقه وتسجيلاته، إلى أن انتبهوا لضخامة الكارثة بعد فوات الأوان، عندما اكتشفوا وجود نحو 400 ألف شخص قد أصبحوا مدمنين خلال السنوات العشر التي كان فيها شنايدر يصرخ وينبه دون جدوى.
في هذا الوثائقي يتحدث مسؤولو "هيئة الغذاء والدواء" وسلطات الشرطة و"مكتب التحقيقات الفيدرالي"، ويعترفون بأسف بأن شنايدر كان يسبقهم بخطوات، وأنه كان يمثل ضمير الأمة الذي أنقذ الآلاف، وكان يمكن أن يتم إنقاذ مئات الآلاف لو أنصتوا له جيداً.
جون دو
والآن هل تتذكرون شخصاً مثل شنايدر؟ شخصاً من هؤلاء الذين نطلق عليهم تسميات مختلفة، مثل "مثيري المشاكل"، "كثيري الشكوى"، "المتدخلين فيما لا يعنيهم"، وهذه التسميات السلبية - هي بالمناسبة - تكاد تكون موحدة عالمياً، وليست مقتصرة على الثقافة العربية، إذ إن غالبية الناس تفضل البقاء في منطقة راحتها، ولا تفضل اكتشاف الوجه السيئ للحياة، ولا تفضل من يحاول أن يصرخ ويوقظها من نومها، ويلحّ طلب إحقاق الحق. كما يسخّر مرتكبو الأخطاء والفاسدون كل أدواتهم لتشويه صورة هؤلاء المتدخلين والمتمردين على الأنظمة الخاطئة.
تتغير ثقافة العالم اليوم تدريجياً نحو تغيير هذه التسميات السلبية واستبدالها بالاسم الذي يليق بكل شخص يشبه شنايدر والذي هو "مطلق الصفارة" (Whistleblower)، وهو التعبير الذي يعني مطلق صفارة الإنذار.
والسؤال الآن؛ أين يمكن أن تجد مطلقي الصفارة في كل يوم تقريباً؟ إنهم على أبواب المدراء ورؤساء البلديات والوزراء ومقرات الشرطة والمؤسسات الرقابية، يقدمون شكوى وراء شكوى عن الفساد والمخالفات والخلل في القوانين ومرتكبي المخالفات الذين يظنون أنفسهم فوق القانون.
يمضون في ذلك عمراً. لا تستغربوا أن شنايدر قضى ما يزيد على عشرة أعوام مجنداً نفسه لهذه المهمة على الرغم من معارضة كل من حوله بدءاً من أهله وصولاً إلى السلطات الرسمية. لقد عايشت بنفسي خلال عملي في التحقيقات الصحفية، أشخاصاً تولوا مهمة متابعة بعض الشكاوى المزمنة عن حي أو مصنع أو بلدة معينة لسنوات طويلة، حتى باتوا وجوهاً معروفة لدى مؤسسات الرقابة وأقسام الشرطة ومكاتب المسؤولين.
يتابع "مطلقو الصفارة" شكاواهم ولا ينتابهم اليأس، ويزدادون إصراراً كل يوم على الرغم من أن شكاواهم تهمل كالعادة كل يوم. ثم إلى من يلجؤون بعد يأسهم من السلطات الرسمية؟ نعم، إلى الصحافة. ولذلك فإنك غالباً ما تسمع عن الاسم الحركي "جون دو" والذي يستخدم الآن كبديل عن "المصدر السري" أو "مطلق الصفارة" الذي لا يكشف عن هويته في مختلف عمليات التسريب التي لجأ فيها أشخاص من ذوي الضمير لكشف حالات فساد أو تعاملات غير مشروعة عبر تسريبها للإعلام، والتي كان منها ما عُرف بوثائق بنما وسويس ليكس ولوكس ليكس وغيرها.
جون دو يشبه دان شنايدر، لقد ساعد السلطات في العشرات من دول العالم من خلال تسريباته للصحافة على فتح تحقيقات للفساد واستعادة الأموال المنهوبة. انظر هنا لتتعرف على حجم التأثير الذي أحدثته صحوة ضمير هذا الموظف.
حماية مطلقي الصفارة
الأمر ليس سهلاً، بل يتطلب مواصفات معينة من الناس الذين يجدون أنفسهم مسؤولين عن الإبلاغ عن الخطأ، ويشعرون بأن لديهم مهمة إنسانية وأخلاقية للقيام بذلك، حتى لو تعرضوا للخطر والمضايقة وربما الاتهام بالجنون والارتياب أوالتجريم. وهذا ما حصل مع أنطوان دتلر وهو موظف فرنسي سابق في شركة "برايس ووتر هاوس كوبرز" "بي دبليو سي" (PwC). لم يستطع ضميره التعايش مع دور شركته في مساعدات مئات الشركات للتهرب والتجنب الضريبي، فقرر اللجوء إلى الصحافة وسرّب 28 ألف وثيقة لوسائل الإعلام، حيث تلقفها حوالي 80 صحفياً حول العالم عام 2014، ونشروا تحقيقات أدت لكشف العشرات من حالات الفساد والتهرب الضريبي، لكن دتلر اتهم رغم ذلك بسرقة المعلومات التي سربها، وتلقى حكماً من "محكمة لوكسمبورغ" بالسجن لمدة عام غير أن المحكمة قررت وقف الحكم لاحقاً لأنها رجحت فوائد هذا التسريب مقارنة بمضارّه.
والجديد اليوم، هو أن "الاتحاد الأوروبي" أصدر قراراً جديداً في أواخر عام 2019، سيغير نظرة العالم وتعامله مع مطلقي الصفارة. إنه القرار الذي أُطلق عليه "حماية مطلقي الصفارة"، ليس ذلك وحسب، بل ألزم القرار جميع الشركات العاملة في "الاتحاد الأوروبي" ممن يزيد عدد عامليها على 50 موظفاً، باتخاذ كافة الإجراءات لبدء التطبيق عام 2021، بحيث تضمن كل شركة أو مؤسسة عامة أو خاصة، جميع الطرق التي يستطيع فيها أي موظف حالي أو سابق أو متدرب أو متقدم للوظيفة تقديم شكوى لكشف مخالفات التهرب الضريبي والفساد والمخالفات الأخرى، بحيث يستطيع هذا الموظف أن يختار الشكوى للشركة أو للسلطات الرسمية، أو أن يقرر اللجوء للإعلام إذا يئس من الوصول إلى نتيجة. وعلى السلطات الرسمية وأنظمة الشركة أن تحميه من الانتقام، وأن تضمن الرد على شكواه خلال مدة سبعة أيام.
هل تتساءلون لماذا؟ وسبب هذا التحول من معاداة مطلقي الصفارة إلى تشجيعهم وحمايتهم؟ الجواب هو ببساطة ما توصلت إليه دراسة للاتحاد الأوروبي جرت عام 2017، وخلصت إلى نتيجة مفادها أن الخسارة السنوية التي يتكبدها "الاتحاد الأوروبي" بسبب نقص الحماية لمطلقي الصفارة تبلغ بين (5.8 و9.6) مليار يورو كل عام في القطاع الحكومي وتعاقداته لوحدها.
وبالطبع فالجميع يعلم أن "الاتحاد الأوروبي" عادة ما يكون قاطرة لتغيير قوانين العالم عندما يصدر قرارات متعلقة بالشركات، كما حصل مع قانون حماية الخصوصية المعروف بـ "GDPR". وعلى الرغم من أن نطاق تطبيق هذا القانون كان حدود أوروبا فقط، لكن مفاعيله امتدت إلى معظم أرجاء العالم بسبب الشركات متعددة الجنسيات والتي أرادت ضمان انصياعها للقوانين الأوروبية خارج حدود أوروبا خوفاً من أي مسؤولية قانونية. إذاً العالم مقبل على تحول كبير في مجال شفافية الشركات وكشف أخطائها بقوة القانون. وإذا كانت قوانين بعض دول العالم قد شجعت مسبقاً الموظفين الذين يساعدون السلطات في كشف التهرب الضريبي ومكافأتهم وفقاً للقوانين الضريبية لبعض الدول، إلاّ أن تلك القوانين، لم تكن تمتلك الأسنان والآلية الكاملة للتطبيق كما سيحدث مع هذا القرار التاريخي. وفي مقال نشرته "هارفارد بزنس ريفيو" بعنوان "ماذا تعرف عن مطلقي الصفارة" نكتشف أن الناس مستعدون للإقبال بكثرة على الإبلاغ عن المخالفات عندما يتاح لهم ذلك، كما حدث مع تجربة حملة الإبلاغ عن التحرش الجنسي في حملة "#أنا أيضاً"، حيث بدأت تسمع الأصوات التي تجاهر بكشف المتحرشين يميناً وشمالاً. وهذا ما نتوقعه في حملة تشجيع وحماية مطلقي الصفارة.
ستبقى بلا شك الثقافة السائدة في المجتمع وفي الشركات عائقاً أمام الإبلاغ عن المخالفات، إذ إن نسبة تصل إلى 30% من الموظفين -وفقاً لدراسة أجرتها الأستاذة في كلية هارفارد للأعمال يوجين سولتس- يخافون من رد الفعل الانتقامي إذا ما أبلغوا عن المخالفات. وتقترح الباحثة أن يكون التقييم الدوري للموظفين، متضمناً أسئلة من قبيل: خلال الربع الأول، هل لاحظت أي.. سرقة أو تضارب مصالح أو رشاوى أو مخالفات محاسبية أو سلوكيات غير أخلاقية؟ لكن بحسب شركة "غارتنر" للأبحاث فإن دراساتها تؤكد أن وسطي الإبلاغ لا يتجاوز 50%.
لم يعد خافياً أن بعض دول العالم ومنها دول عربية حدثت قوانينها الضريبية والجمركية بما يشجع "مطلقي الصفارة" من الموظفين على الوشاية بمدرائهم إن كانوا يتهربون من الضرائب ووعدوهم بنسبة قانونية من التحصيل الضريبي الذي سينتج عن التحقيق في هذه القضايا. وهذه الخطوة وإن كانت تبدو غير مقبولة في بعض الثقافات أو ربما يحاول المرتكبون تصويرها بهذا الشكل، لكنها جوهر النجاة والنجاح للشركات، فقد أثبتت دراسة نشرتها "هارفارد بزنس ريفيو" أنه كلما ازدادت الخطوط الساخنة التي تتيحها الشركات للإبلاغ عن المخالفات واستقبال الشكاوى، كانت الشركة أكثر ربحية وأقل عرضة للدعاوى القضائية. هذه النتيجة التي تشبه ما توصل إليه "الاتحاد الأوروبي" في دراسته التي أكدت أن عدم حماية مطلقي الصفارة يتسبب سنوياً بخسارة المليارات من قبل دول الاتحاد. وهذا برأيي ما سيجعل أحد أهم مؤهلات العامل أو الموظف هو مؤشر "الضمير" وجرأة العامل على عدم السكوت عن الخطأ، وهي ميزة يجب ألا تقل أهمية عن اختبار مستوى الذكاء الفردي أو (IQ) أو الذكاء العاطفي للمرشح للوظيفة.
وفي الأيام القادمة، ومع تولي الروبوتات أدوراً متزايدة في العمل، فإنني أعتقد أن ميزة الضمير ستكون من أهم ميزات الإنسان حينما يشارك الآلة في العمل جنباً إلى جنب، حيث نتوقع أن تكون الآلة وحتى إشعار آخر خاضعة لبرمجة الخير والشر والتحيز المسبق، ولن تستطيع تفعيل عامل الضمير والأخلاق الذي يمتاز به البشر، ولهذا السبب فإنني أعتقد أنه يجب على الشركات أن تزيد من توظيف ذوي الضمير مطلقي الصفارة، لأنهم متطوعون باستمرار لجعل معايير الحوكمة على المحك.
اقرأ أيضاً: أفضل أنواع الشركات