الامتثال الماكر: حقٌّ أُريدَ به باطل 

3 دقيقة
الامتثال الماكر
shutterstock.com/Pictrider

"حاضر، سأنفّذ المطلوب بحذافيره"، عبارة قد تبدو للوهلة الأولى أنها تصدر عن شخص محترف يحب عمله ويتقنه ويتفانى فيه، لكن الحقيقة تؤكد أن هذا غير صحيح، فقد نشرنا في قسم المفاهيم الإدارية مفهوماً لافتاً أطلق عليه الخبراء اسم "الامتثال الماكر"؛ ويعني الامتثال للأوامر في بيئة العمل وتطبيقها بحذافيرها على الرغم من التيقن من أن نتائجها ستكون سلبية وتضر أكثر مما تنفع. والدافع من وراء ذلك غالباً هو الانتقام من المسؤول الذي أصدر الأمر وإظهاره بمظهر الشخص الذي يفتقر إلى الذكاء والخبرة المهنية. هذا المفهوم الذي يعتمد على إظهار عكس ما هو خفي، وهو التعريف اللغوي لكلمة المكر، له مظاهر كثيرة في مختلف الميادين، كما كان شائعاً في بيئة العمل بالاتحاد السوفيتي الذي اتبع سياسة "الاقتصاد المخطط مركزياً"، وهي البيئة التي تصدر فيها القرارات من "الرفيق المسؤول" ولا يحق لمَن هم أدنى منه في السلم الوظيفي نقدها أو التشكيك فيها، فيلجؤون إلى الامتثال الماكر أو السلبي ليكون نوعاً من الرفض المبطن لتقييد حرية التعبير.

تمثّل حالة الاتحاد السوفيتي المستوى الكلي (Macro) لانتشار سلوك الامتثال الماكر نظراً لأنه كان شائعاً بين موظفي مؤسسات الدولة. أمّا على المستوى الجزئي (Micro)، فقد يظهر أيضاً ولكن بأوجه مختلفة، واستراتيجية حصان طروادة هي أفضل مثال على ذلك، حيث تدخل بعض الشركات في اتفاقات تعاون مع شركات أخرى على أساس تحقيق أهداف معلنة، مثل الوصول إلى اقتصاديات الحجم وتعزيز الإبداع المشترك، في حين يتم إخفاء نيّات أخرى أو أهداف غير معلنة تحت غطاء التعاون، مثل الاستحواذ على قاعدة عملاء الشركاء أو سرقة التكنولوجيا منهم وإضعافهم عمداً، فالظاهر أن القواعد الناظمة لهذه الاتفاقات محترمة ويجري تطبيقها على نحو سليم، في حين أن النتائج ستكون كارثية لأحد أطراف الاتفاق. وخلال ثمانينيات القرن الماضي، أتقنت الشركات اليابانية هذه "الحيلة" واستخدمتها لاختراق الأسواق الأميركية، مستغلة رغبة الأميركيين في الظهور بمظهر "المُعلم" كما أكد غاري هامل في مقاله الشهير "الغاية الاستراتيجية". على سبيل المثال، استخدمت شركة تويوتا شبكة توزيع حلفائها (مثل فورد وجنرال موتورز)، ليس لتوزيع سياراتها كما نص عليه الاتفاق ظاهرياً، بل لاكتساب معرفة قيّمة عن هذه السوق، بما في ذلك تفضيلات المستهلكين، لتستخدمها فيما بعد لإنشاء مصانعها الخاصة في أميركا، وتصبح منافساً شرساً للمصنّعين الأميركيين شركاء الأمس.

إذا ضيّقنا المستوى أكثر، ليشمل العلاقات بين الزملاء، فيمكننا تصنيف "الامتثال الماكر" ضمن السلوكيات السامة في بيئة العمل، إذ يضر هذا السلوك بثقافة المؤسسة وسمعتها ومعنويات الزملاء. يمكن لبعض الممارسات البسيطة أن تساعد في الحد من ظاهرة الامتثال الماكر، إذ يؤكد الأستاذ بكلية مارشال لإدارة الأعمال ناثانيل فاست ذلك بقوله: "وجدنا في دراستنا أنه إذا أظهر الموظف امتنانه لمديره أو زميله في العمل، فسيقضي على عدائيته". وحتى بادرة صغيرة، مثل إنهاء رسالة بريد إلكتروني بعبارة "شكراً جزيلاً على مساعدتك لي"، أو الثناء على شخصٍ بشأن شيء يعجبك حقاً، يمكن أن يكون أمراً مفيداً. لخص أبراهام لينكولن هذه البوادر بقوله: "عليك أن تمحق عداء عدوك بجعله صديقاً".

إن الحلول الناجعة للامتثال الماكر أعمق بكثير من مجرد الثناء على زملائك، إذ تبدأ بفتح قنوات الحوار الشفافة وتنتهي بتفادي الإدارة التفصيلية. وقد صاغت الأستاذة بجامعة فيلانوفا بأميركا، مانويلا بريسموث، نهجاً متكاملاً للقضاء على السلوكيات السلبية، بما فيها الامتثال الماكر، ولخصته في 3 مراحل:

أولاً، ينبغي للشركات زيادة وعي المدراء وتثقيفهم بشأن جميع التكاليف المتصلة بانتهاج السلوك المسيء. فعندما يجري التشديد على العواقب الوخيمة للسلوك المسيء في بداية الحياة المهنية في أثناء مرحلة تعريف الموظف بالشركة، وأيضاً من خلال برامج التدريب المستمرة، فسيفهم المدراء أن الأفعال السلبية لا تضر بالآخرين فحسب، بل تضر بهم أيضاً. وبناءً على ذلك، قد يحجم الكثير من المدراء عن الانخراط في أفعال مسيئة حرصاً على مصلحتهم الشخصية.

ثانياً، يمكن للشركات دمج أو تعزيز قنوات سرية لإبداء الملاحظات والآراء التي يستطيع الموظفون من خلالها التعبير عن مخاوفهم والإبلاغ عن تجارب إساءة المعاملة دون خوف من التعرض للانتقام. ويمكن للقادة أو الرؤساء أو موظفي الموارد البشرية إيصال التعليقات ذات الصلة إلى المدراء، ما يوضح أن المؤسسة لا تتسامح مع هذا النوع من السلوكيات. فمعرفة أن الآخرين لا يوافقون على هذا السلوك، أو حتى الأسوأ من ذلك، أنهم لا يحترمون أو يقدّرون المشرفين الذين يفعلون ذلك، قد تجعل مرتكب الفعل المسيء يصحح سلوكه المسيء بنفسه.

ثالثاً، تحتاج المؤسسات إلى التمسك بالقواعد المنصفة والأخلاقية وتطبيقها في جميع أنحاء الشركة، لأن الموظفين يفكرون في هذه القيم قبل أن يقرروا إن كانوا سيتصدون للإساءة أم لا. فإذا شعر الموظفون بأن المعاملة التي تتسم بالإنصاف والاحترام تحظى بالتقدير والدعم على مستوى الشركة، فسيصبحون أكثر ثقة في مواجهة الشخص المسيء وحماية الشخص الذي  يتعرض للإساءة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي