على الرغم من الانخفاض التاريخي في معدل البطالة اليوم إلى نسبة 4% فقط، إلا أنّ الاقتصاديين لا يزالون يصارعون في محاولة فهم سبب ارتفاع هذه النسبة لدرجة مؤلمة بعد فترة الركود العظيم، ولماذا احتاجت خمس سنوات لتعود إلى مستويات ما قبل الركود. يشير بحثنا إلى سبب واحد محتمل: رفع أرباب العمل متطلبات المهارات خلال فترة الركود، وعلى الرغم من توفر الكثير من الموظفين ذوي المهارات العالية إلا أنه كان من الصعب ملء هذه الوظائف في الوقت الذي بدأ فيه سوق العمالة بالتعافي. ولكن منذ ذلك الوقت، بدأ بعض أرباب العمل بتخفيض متطلبات الشهادات والخبرات في محاولة لملء الوظائف الشاغرة المتراكمة.
أولاً، سنقدم بعض الحقائق. هناك مقايضة ثابتة بين معدل البطالة ومعدل الوظائف الشاغرة (ما يعرف باسم "منحنى بيفريدج"). خلال فترة الركود، يتراجع معدل الوظائف الشاغرة مع ارتفاع معدل البطالة، ويحدث العكس خلال فترة التعافي. ولكن بعد عام 2009 وعلى الرغم من وجود العديد من الوظائف الشاغرة لدى أرباب العمل إلا أنّ معدل البطالة لم يتزحزح، ما أدى إلى توجه منحنى بيفريدج نحو الخارج، واستمر ذلك حتى نهاية عام 2017.
اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: تعريف علم الاقتصاد الجزئي
أصبح الاقتصاديون مؤخراً يشكون بأنّ سبب هذا التغيّر هو انخفاض ما يسمى "كثافة التوظيف"، وهو مصطلح مختصر يصف كل ما يمكن لأرباب العمل فعله من أجل التأثير في احتمالات ملء الوظائف الشاغرة، كتغيير في مصاريف الإعلانات وطرق المراقبة ومعايير التوظيف والتعويضات. تتسبب كثافة التوظيف المنخفضة بزيادة الوقت الذي يحتاجه ملء الوظيفة الشاغرة، ما يعني زيادة الوظائف الشاغرة ومعدل وظائف شاغرة أعلى. وهذا التغيير في كثافة التوظيف يزيد المقايضات بين معدل البطالة ومعدل الوظائف الشاغرة ما يؤدي إلى إزاحة منحنى بيفريدج نحو الخارج.
قمنا في بحثنا بالتحقيق في أحد أهم أبعاد كثافة التوظيف، وهي متطلبات المهارات التي يستعين بها أرباب العمل من أجل غربلة المرشحين لملء وظيفة شاغرة جديدة. أشارت تقارير الإعلام خلال فترة الركود إلى أنّ متطلبات أرباب العمل كانت ترتفع بشدة وكانت العناوين الرئيسة الشائعة في الصحف هي: "تضخم الشهادات: الوظائف التي أصبحت تحتاج شهادات بكالوريوس مؤخراً". ووفقاً لاستطلاع رأي أجراه موقع "كرير بيلدر" (CareerBuilder) عام 2013، قال ثلث أرباب العمل تقريباً إنّ الشهادات المطلوبة لعملية التوظيف ازدادت مؤخراً، وبالأخص أنهم كانوا يقومون بتعيين المزيد من خريجي الجامعات في مناصب كان يشغلها خريجي المدرسة الثانوية سابقاً.
وقد وجدنا دليلاً قوياً على عملية رفع المهارات هذه عن طريق استخدام قاعدة بيانات شركة بيرننغ غلاس تكنولوجيز (Burning Glass Technologies) التي تحتوي على 83 مليون عرض عمل على الإنترنت بين عامي 2007 و2014 في جميع القطاعات في الولايات المتحدة، حيث رفع أرباب العمل متطلبات الشهادات والخبرات، ضمن المناصب وحتى المسميات الوظيفية بالشركات، أثناء الركود العظيم عندما توفر عدد كبير من الموظفين. ولكن ربما كان الأمر المفاجئ أكثر هو أنّ أرباب العمل خفضوا هذه المتطلبات فيما بعد خلال فترة التعافي عندما انخفض عدد الموظفين كثيراً.
يوضح الجدول العلوي أنّ نسبة عروض العمل التي تتطلب شهادة بكالوريوس أو أعلى ارتفعت بنسبة تزيد عن 10 نقاط مئوية أثناء فترة الركود (من 2007 حتى 2010) ثم تراجعت مع تعافي أسواق العمل (من 2010 حتى 2014). وكذلك، يوضح الجدول الأوسط أنّ نسبة عروض العمل التي تتطلب 5 سنوات خبرة على الأقل ارتفعت بما يقارب 7 نقاط مئوية أثناء فترة الركود ثم تراجعت مع تعافي سوق العمالة. وفي حين أنّ المتطلبات لم تتراجع كلياً إلى مستويات ما قبل فترة الركود، لكن الأرقام تشير إلى أنّ جزءاً كبيراً من الارتفاع في متطلبات المهارات كانت انتهازية فعلياً كرد فعل لتوافر الموظفين ذوي المهارات أثناء فترة الركود العظيم.
بالطبع، قد تكون هذه الاتجاهات المجمعة في البلاد مضلّة، لذلك نستعين بغزارة بيانات عروض العمل من أجل تحليل العلاقة على مستوى الولايات والدولة. وبيّنا أنّ زيادة متطلبات المهارات كانت أكبر في المناطق التي شهدت زيادة كبيرة في معدل البطالة، وكان انخفاض المتطلبات أكبر في المناطق التي انخفض معدل البطالة فيها بسرعة أكبر أثناء فترة التعافي.
ما مدى قدرتنا على تحديد حجم علاقة رفع المهارات بزيادة النسبة المئوية للبطالة؟ على سبيل المثال، بالنسبة للوظائف، تترافق زيادة بنسبة 1% في معدل البطالة في الولاية مع زيادة بنسبة 0.6% في شريحة أرباب العمل الذين يطلبون الحاصلين على شهادة البكالوريوس، وزيادة بنسبة 0.8% في شريحة أرباب العمل الذين يطلبون ما لا يقل عن أربع سنوات خبرة. وهذا الأمر مسؤول عن ثلث الزيادة الإجمالية في متطلبات المهارات التي تمت ملاحظتها أثناء فترة الركود العظيم.
هذه الآثار قوية جداً وتظهر نتائجها على مناصب ومسميات وظيفية محددة. مثلاً، 15% فقط من وظائف مساعد طبيب كانت تتطلب شهادة بكالوريوس على الأقل في 2007. ازدادت هذه النسبة في 2010 إلى 35% ثم تراجعت إلى 12% فقط في عام 2017.
أضف إلى ذلك أنّ رفع متطلبات المهارات يتعدى الشهادات والخبرة إلى المطالبة بمهارات أساسية (كإدارة المشاريع) والمهارات الاختصاصية (كحماية المعلومات) ومهارات البرامج (كبرنامج أدوبي دريمويفر) أيضاً. والمثير للاهتمام هو أنّ المهارات الأساسية التي يمكن اكتسابها عادة في العمل، كانت أكثر انخفاضاً أثناء فترة التعافي مقارنة بالمهارات المتخصصة أو مهارات البرامج التي تتطلب عادة دراسة أو تدريباً بصورة رسمية.
تفسير رفع متطلبات المهارات وخفضها
لماذا يرفع أرباب العمل متطلبات المهارات أثناء فترة الركود ثم يخفضونها أثناء فترة التعافي؟ عادة، يتقاضى الموظفون من خريجي الجامعات أجوراً تقارب 60% مقارنة بالموظفين ذوي مستوى التعليم الأقل، ومع ذلك تنهار أجور الموظفين الجدد من ذوي الشهادات الجامعية في فترة الركود. فتوقعنا أنّ يكون رد فعل أرباب العمل على الأجور المتناقصة للموظفين ذوي المهارات وتوفرهم المتزايد سيكون انتهازياً من خلال رفع متطلباتهم لتعيين الموظفين الجدد.
بمعنى أنه عندما يزداد عدد الباحثين عن عمل يرفع أرباب العمل متطلباتهم، والسبب في ذلك بحسب قول أحد الرؤساء التنفيذيين: "الركود فرصة رائعة لاجتذاب أفضل المواهب". بالطبع، تتنبأ هذه النظرية بوجوب تناقص متطلبات المهارات عندما يزداد ضيق سوق العمالة. وكما قال أحد أرباب العمل الذين تحدثنا إليهم: "يجب أن يكون المدراء أكثر مرونة الآن عما كانوا عليه أثناء فترة الركود لأن عدد المواهب المتوفرة أصبح أقل".
على الرغم من أنّ هذا التفسير مباشر وواضح، إلا أنه ليس التفسير الوحيد الممكن. فقد اختلف مدراء آخرون بالقول بأنّ ارتفاع متطلبات المهارات أثناء هذه الفترة كان مدفوعاً بالتغيرات في التقنيات أو الموارد الخارجية. قد يؤدي هذا النوع من التغيرات الهيكلية، التي يمكن أن يكون الركود قد سرعها، إلى تغييرات ثابتة ودائمة في المهارات المطلوبة.
من أجل التمييز بين هاتين الروايتين كان علينا إيجاد حالة غير مرتبطة بالركود، بوجود تغيرات مفاجئة في عدد الباحثين عن الوظائف بصورة مستقلة عن أي تغيير هيكلي أساسي تم التخطيط له مثل زيادة التشغيل الآلي. لقد قمنا بذلك باستخدام التغييرات التي حدثت خلال "تجربتين طبيعيتين" لتوفر الموظفين الذين لم يكونوا مرتبطين بدائرة الأعمال.
كان التغيير الأول هو انسحاب القوات من العراق وأفغانستان الذي أدى إلى انضمام 200,000 إلى 300,000 من المحاربين القدماء إلى قوى العمل المحلية في الولايات المتحدة سنوياً بين عامي 2009 و2012. وبالتوافق مع نظرية رفع المهارات وجدنا أنّ الولايات التي استقبلت أعداداً أكبر من المحاربين العائدين شهدت ارتفاعاً أكبر في متطلبات المهارات للمناصب المخصصة لهم، كقوى حفظ الأمن وفرق الطوارئ وميكانيكيي الطائرات واللوجستيين.
أما التغيير الثاني فقد كان ازدهار تقنيات التصديع المائي في استخراج الغاز الطبيعي، حيث رفع اكتشاف مخازن ضخمة من الغاز الصخري الإنتاج بنسبة 27% بين عامي 2007 و2011. وأدت هذه القفزة المفاجئة في الإنتاج إلى زيادة التوظيف والأجور في قطاع التصديع، ما أبعد الكثير من العاملين والموظفين عن القطاعات الأخرى، كالزراعة والأخشاب واستخراج المعادن والتصنيع، التي شهدت شحاً مفاجئاً في الموظفين. وبالتوافق مع نظريتنا بشأن رفع المهارات وخفضها وجدنا أنّ المناصب في هذه القطاعات التي أصبحت تتنافس في إيجاد الموظفين قلّصت متطلباتها فيما يخصّ الشهادات والخبرات كرد فعل على سوق العمالة الضيق.
تساعدنا هذه النتيجة، التي تقول إنّ متطلبات أرباب العمل فيما يخص المهارات يحركها توفر العمالة المعروضة بصورة جزئية، في فهم كيفية عمل سوق العمالة. كما أنها تؤثر في سياسة القوى العاملة. وتشير نتائجنا إلى أنّ طلب الموظفين أصحاب المهارات هو أمر دينامي يتماشى مع أوضاع السوق، إذ يتحرك أرباب العمل بصورة استراتيجية لملء الوظائف الشاغرة بموظفين ذوي مهارات أعلى عند توفرهم بصورة أكبر.
وكنتيجة، يجب أن تؤخذ هذه التقلبات الدورية بالحسبان عند تصميم التعليم وبرامج التدريب. وكذلك الأمر بالنسبة للشركات، إذ يجب عليها تطوير القدرة على التأقلم مع حدوث تغييرات في مجموعة مهارات العاملين مع تغير ظروف سوق العمالة من الطلب إلى العرض. يمكن لطرفي سوق العمالة الاستفادة من بيانات السوق الواقعية ليتمكنوا من الاستجابة بسرعة أكبر للتغيير، ما يؤدي إلى الحد من عواقب الدورات الاقتصادية المستقبلية.