أعمل مدرباً للتزلج في عطلات نهاية الأسبوع كعمل إضافي في فصل الشتاء على جبل عشقت فيه سباقات التزلج منذ الصغر، ورحت أعلم فيه التزلج على فترات متقطعة لما يقرب من 30 عاماً. توطدت علاقاتي هناك، وهيمن حبي وعشقي للجبل على كل جوانحي.
لذلك اندهشت عندما أوشكت على تقديم استقالتي بسبب محادثة مع المشرف الجديد ستدلنا على مفهوم فن الحوار المثمر، قبل بضعة أسابيع، كان يمكن أن تتغير الأمور إلى الأحسن بتغيير واحد بسيط ولكنه مهم في أسلوبه. وسأقص عليكم هنا ما حدث والشيء البسيط الذي يستطيع أي قائد القيام به من أجل الاستفادة من الحوار مع الآخرين بشكل أكبر، وتحويل التجربة السلبية إلى أخرى إيجابية:
كيف تحول المحادثة السلبية إلى إيجابية؟
بعد أن أنهيت تمريناً لتعليم التزلج استمر لثلاث ساعات، شعرت ببعض الألم في الورك الأيسر، وما هي إلا سويعات حتى زاد الألم لدرجة أنني لم أستطع المشي. توجهت في صباح اليوم التالي إلى غرفة الطوارئ بالجبل وكنت على وشك البكاء من شدة الألم، فعاملني المسعفون هناك معاملة رقيقة ومحترمة، ثم جاء مشرفي بصحبة رئيس قسم الموارد البشرية. لم يأتوا للاطمئنان على حالتي، جاؤوا لأنني قلت لهم "ربما" عندما سُئلت عما إذا كان هذا الألم نتيجة إصابة في العمل، وهو ما يعني أن بإمكاني المطالبة بالتعويض.
أجبتهم "ربما" لأنني لم أكن متأكداً ما إذا كانت الإصابة بسبب العمل، على الرغم من أنني أعلم يقيناً أن الألم قد داهمني في أثنائه. أبديت أعلى درجات التعاون في حديثي معهما وطلبت منهما مساعدتي في معرفة ما إذا كان يحق لي المطالبة بالتعويض، ولكن هذا التعاون تمت مقابلته بالقسوة من جانب مشرفي، حتى أنه اتهمني بالتناقض في أقوالي بداعي أنني كنت أشتكي من ألمي حتى قبل ذهابي إلى العمل ولم أبلغ عنه بعد انتهاء العمل مباشرة. دوّن الكثير من الملاحظات في هذه الأثناء. كل هذا بينما كنت أعاني من الألم المبرح وأجهل حقيقة حالتي وأشعر بالإعياء الشديد.
من وجهة نظري، لم يكن يحاول الاطمئنان عليّ، بل كان يحاول استجوابي. فما كان مني إلا أن توقفت في منتصف المحادثة وأخذت نفساً، وانتقلت من وضعية التعاون إلى الخصومة. تكلمت بلغة رسمية، ورحت أقاطعه لتصحيح افتراضاته الخاطئة، وتمسكت بالمطالبة بالتعويض.
ما أغاظني أنني لم أكن متأكداً حتى اللحظة من أن هذه الإصابة تستحق التعويض، أي أن أسلوبه العدائي دفعني إلى التمسك بموقف لم أكن متأكداً حتى من استحقاقي له، لكني لم أرد أن أضيّع حقي في الاختيار.
ومع ذلك لم يكن كل هذا سبب استقالتي، أو لم يكن السبب المباشر على الأقل.
فالسبب المباشر لتقديم استقالتي أن مشرفي أغلق دفتره أخيراً بعد 20 دقيقة من الشد والجذب، والتفت إليّ قائلاً: "الآن بعد أن انتهينا من التحقيق، أريد أن أسألك كيف حالك؟ هل هناك ما يمكن أن أساعدك به؟".
لا يمكنني الادعاء أن تعاطفه ليس مهماً، بل على العكس من ذلك، فهو ضروري. لكن حينما لا تتجاوز مدة التعاطف 5 ثوان فقط بعد 20 دقيقة من الاستجواب، ستبدو جوفاء ومخادعة ومثيرة للشك، بل وكريهة. وتوحي في الواقع بعدم التعاطف. لم أستطع حتى أن أنظر إليه وغادرت الغرفة بأسرع ما يمكن.
لا أنكر أن مشرفي شخص طيب وصادق يهتم لأمر الآخرين، لكنه لم يعطني هذا الانطباع.
وقد أسعدني الحظ بالحصول على رعاية طبية ممتازة دون تأخير. اتضح أنني مصاب بالتهاب كيسي، ولحسن الحظ لم أشعر بأي ألم وبعد أسبوع من العلاج، لكنني ما زلت أشعر بمرارة تلك المحادثة. إذاً، ما الذي كان يجب أن يفعله مشرفي بصورة مختلفة؟ في الواقع شيء بسيط كما قلت من قبل، تعديل صغير كان سيغير كل شيء.
اقرأ أيضاً: كيف تجري حواراً شائكاً مع شخص من ثقافة مختلفة؟
أظهر تعاطفك أولاً
كان بإمكانه أن يستهل المحادثة قائلاً وهو ينظر في عينيّ نظرة تدل على التعاطف: "من الواضح أنك تعاني من آلام مبرحة. أسفت أشد الأسف لمصابك".
لا يستغرق الأمر وقتاً طويلاً، كما أنه ليس معقداً. ما عليك إلا أن تبدأ بالعلاقة، حتى إذا شعرت بأن علاقتكما ليست وطيدة، لأن إظهار الاهتمام والتعاطف هو ما يوطد العلاقات. ومن أهم مزايا التعاطف أولاً: أنه يؤثر على كلّ من المخاطَب (أنا) والمخاطِب (مشرفي) في الوقت ذاته. فعندما نعبر عن اهتمامنا وتعاطفنا، تزداد احتمالات شعورنا بهما في المقابل.
ثانياً: إذا أخذت المحادثة منحنى صعباً، يمكن حينها التحدث بأسلوب أكثر مرونة
فبمجرد إقرار مشرفي بما أعانيه من آلام وإعرابه عن أسفه، سينشأ بيننا نوع من التفاهم. عند هذه النقطة سيكون من الصعب أن يعاملني كشاهد خصم، لأنه سيشعر حينها بالخيانة، ليس من جانبي فقط، بل ومن جانبه هو أيضاً. وبدلاً من إجراء محادثة تصادمية تفسد الحقيقة، سيكون لدينا محادثة تعاونية تكشف الحقيقة دون إفساد العلاقة.
تنطبق هذه القاعدة على كافة أنواع المحادثات، فبصفتي مدرباً تنفيذياً للرؤساء التنفيذيين وفرق القيادة، فمن واجبي مشاركة الحقائق الصعبة مع الأشخاص الذين لا يسمعونها من أي شخص إلا نادراً. لذا قد يلجؤون إلى الأسلوب الدفاعي في كثير من الأحيان كرد فعل أولي على الملاحظات النقدية. ولكنهم سيرفضون تعليقاتي فوراً وبشكل غريزي وسيرفضونني أنا شخصياً، إذا لم يشعروا أولاً أنني أفهمهم. ولكن إذا بذلت جهداً لفهمهم، وإذا شعروا هم بأنني أفهمهم، فسوف يستمعون ويتعلمون ويتغيرون. وهكذا نصل إلى الأرضية المشتركة للحقيقة.
التعاطف مؤثر، فهو ليس خصلة إنسانية تنم عن الاهتمام فحسب، بل ومنهج عملي أيضاً.
تمثل علاقاتنا أهم أصولنا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ولا أقصد بكلامي هذا المقولة الشهيرة التي تقول إن موظفينا هم أهم أصولنا، والتي تتردد على الألسنة كثيراً، ولا تُطبَّق إلا قليلاً بكل أسف، بل أعني أننا جميعاً نصير أكثر إنتاجية حينما نقيم علاقات ناجحة بعكس ما يحدث في سياق العلاقات المتوترة، وأن جودة حياتنا وقدراتنا القيادية مرهونة بجودة علاقاتنا.
من هذا المنطلق أطلت التفكير في الحديث الذي دار بيني وبين مشرفي لعدة أيام بعد ذلك الموقف، حتى ترك لي في النهاية رسالة دمثة بالبريد صوتي عبّر فيها عن تعاطفه معي. فرددت عليه برسالة بالبريد إلكتروني عبّرت فيها عن امتناني، واقترحت أن نتحادث معاً. عرضت مشاركة تجربتي معه. فكتب رسالة قال فيها: "يسعدني أن نتحادث معاً يا بيتر، بابي مفتوح دائماً". ثم أضاف: "أود أن أشاركك أيضاً دوافع الطرف الآخر، لأن هذه الجزئية تغيب عن بال الكثيرين، وغالباً ما تكون سبباً في نشوب الخلاف في المحادثات".
لقد فاتني هذه النقطة بكل تأكيد عندما استسلمت لغضبي وإحساسي بالظلم، فالتعاطف مسألة متبادلة بين الطرفين، لذلك جلسنا، واتبعت نصيحتي الخاصة: لقد تعاطفت أولاً. طلبت منه مشاركة ما يدور في ذهنه عند تعاملنا معاً. وأجرينا محادثة رائعة ومثمرة تعرّفت فيها على سبب حديثه معي بهذه الطريقة حينما علم بأمر إصابتي، وتتلخص في أنه مسؤول عن الدفاع عن المطالبات ويتعين عليه طرح كل الأسئلة التي ستُطرح عليه. في الواقع، لم تكن قسوته معي إلا حرصاً منه على مساندتي، على الرغم من أن الأمر لم يبد كذلك في الظاهر. عرفت أيضاً كم يكره هذا الجانب من وظيفته. أبدى تقبله في هذه الأثناء للتعرف على تجربتي واستعداده لتغيير طريقة تعامله مع تلك المحادثات الصعبة وغير المريحة و الاستفادة من الحوار مع الآخرين بشكل فعال أكثر.
كيف نبدو في أوقات الشدة والرخاء، كيف نستمع ونتواصل، كيف نقدم الدعم ونتلقاه، وكيف نعبر عن اهتمامنا بالآخرين -هذه ليست مجرد التزامات، بل مهارات أساسية. فالشجاعة والرغبة في فهم الآخرين فهماً حقيقياً، وأن يفهمهم الآخرون على وجه الحقيقة، لا تعوق قيادتنا، إنما هي قيادتنا ذاتها.
ومن هنا يستحق التعاطف أن يأخذ الأولوية من أجل معرفة أصول فن الحوار المثمر والاستفادة من الحوار مع الآخرين.
اقرأ أيضاً: كيف نحول أي نزاع إلى حوار سلمي؟