حتى الشركات التي تدّعي امتلاكها توجهاً طويل الأمد، تشعر بالقلق حيال ما إذا كان الاستثمار في البحث والتطوير يجدي نفعاً أم لا. تشغل سارة ويليامسون منصب المدير العام التنفيذي لمنظمة إف سي إل تي غلوبال (منظمة توجيه رأس المال نحو المدى البعيد سابقاً)، والتي جرى تأسيسها في العام 2016 من قبل شركات بلاك روك وسي بي بي آي بي (CPPIB)، وداو كيمكال (Dow Chemical)، وماكنزي، وتاتا صنز (Tata Sons)، وذلك لتشجيع التوجه طويل الأجل والاستثمار على المدى البعيد في عالم الأعمال. وبحسب ويليامسون، فإنّ الكثير من المؤسسات الاستثمارية والشركات تمتلك في الوقت الراهن همّاً مشتركاً، ألا وهو أنها لا ترى فائدة مباشرة من استثماراتها طويلة الأجل في مجال البحث والتطوير. وذلك لسببين، الأول، أنّ المعرفة الناتجة عن البحث والتطوير قد تتسرب إلى خارج الشركة التي تنتجها من خلال انتقال الموظفين إلى شركات أخرى أو تأسيس شركاتهم الناشئة الخاصة؛ أما السبب الثاني، فيتمثل في أنّ بوسع الشركات عموماً الاستحواذ على شركات أخرى تمتلك التكنولوجيا المطلوبة. ولكن إذا اتبع الجميع هذا المنطق، فلن يكون هنالك الكثير من الابتكارات لكي تتسرّب إلى الخارج أو يتم استحواذها! ولحسن الحظ، ما من مبرر للقلق بشأن أي من هذين الأمرين؛ فقد أظهرت أبحاثي أنّ قيام الشركات بالاستثمار طويل الأمد في مجال البحث والتطوير إنما يصب في مصلحة الشركات والمستثمرين والاقتصاد الوطني ككل.
نادراً ما تتسرب نتائج البحث والتطوير إلى الخارج
عندما يبتكر أحد الموظفين منتجاً جديداً أو اختراعاً تكنولوجياً عظيماً بعد القيام بأنشطة البحث والتطوير، أفلا يمكن لذلك الموظف أن يترك الشركة إما لتأسيس شركته الخاصة أو للانضمام إلى شركة أخرى؟ في الواقع، هذا غير مرجح: فأولاً، لا تمتلك غالبية القطاعات عدداً كبيراً من الشركات الناشئة. وأشارت دراسة حديثة إلى أنّ معدل تأسيس الشركات الناشئة في أي قطاع اقتصادي لا يتعدى بالمتوسط نسبة 0.06%، الأمر الذي يعني أنه في أي قطاع مؤلف من 100 شركة، لا يمكنك توقع ظهور شركة ناشئة جديدة إلا مرة كل 17 عاماً. كما سلطت دراسة أخرى الضوء على تنقلات الموظفين إلى الشركات الناشئة والقائمة ووجدت نتائج مشابهة. وعلى الرغم من أنّ القطاع المدروس كان قطاع شركات المحاماة، وليس قطاع شركات التكنولوجيا، فإنّ جميع أصول تلك الشركات إنما تتركز في رأس المال البشري. وحتى ضمن الظروف التي لا يتطلب فيها إنشاء شركة جديدة سوى تعليق لوحة باسم تلك الشركة، فقد وجد الباحثون أنّ احتمال ترك الموظفين لعملهم وإنشاء شركة جديدة لا يتعدى 1%. وفضلاً عن ذلك، وجد الباحثون أيضاً أنّ الموظفين الذين ترغب في الحفاظ عليهم في شركتك أكثر من سواهم، هم الأكثر ميلاً إلى البقاء، ويزداد احتمال بقاؤهم مع ارتفاع مستوى تعلمهم وطول مدة شغلهم لوظيفتهم. وعلاوة على ذلك، إذا عاملت أولئك الموظفين معاملة حسنة، فإنّ احتمال بقائهم في شركتك يزداد أيضاً. وفضلاً عن ذلك ينخفض احتمال ترك الموظفين لعملهم مع ارتفاع أجرهم السنوي (إلى أن يصل إلى قيمة 5.2 مليون دولار).
اقرأ أيضاً: دور الحوكمة في جذب المستثمرين.
الشركات الصغيرة ليست أكثر ابتكاراً من سواها
والآن، ماذا عن الادعاء أنّ بمقدور الشركات شراء التكنولوجيا الحديثة والابتكارات الجاهزة عبر الاستحواذ؟ تتمثل أولى مشاكل هذه النظرة في أنها تتجاهل المصدر الأساسي لتلك الابتكارات التكنولوجية. فالنظرة السائدة تقول أنّ الشركات الصغيرة والناشئة هي المصدر الأول للابتكارات والنمو في اقتصادنا. لكن، على الرغم من وجود عدد صغير من الشركات الجديدة التي تتمتع بمستوى ابتكار أكبر من حجمها، إلا أنّ الشركات الكبرى لا تزال تمثل المصدر الأول للابتكارات. فقد أظهر بحث جديد أجريته بتمويل من مؤسسة العلوم الوطنية، ونشرته في كتابي "كيف تُنجز الابتكارات في الواقع" (How Innovation Really Works)، أنّ الشركات الكبيرة تستثمر في البحث والتطوير أكثر من الشركات الصغيرة وتتمتع بقيمة أعلى لما يسمى "حاصل البحث" (الذي يعد مقياساً لعائد الاستثمار في البحث والتطوير). فالشركات التي تشغّل أكثر من 500 موظف، لا تقوم فقط بأعمال البحث والتطوير أكثر بـ5.75 مرة من الشركات الصغيرة، بل إنّ أعمال البحث والتطوير فيها أكثر إنتاجية بنسبة 13% من إنتاجية تلك الأعمال في الشركات الصغيرة – ما يعني أنّ الشركات الكبيرة هي المحرك الحقيقي للابتكار والنمو الاقتصادي.
لكن، لماذا ينظر إلى الشركات الصغيرة بوصفها أكثر ابتكاراً من الشركات الكبيرة، على الرغم من أنّ أعمال البحث والتطوير في الشركات الكبيرة هي الأكثر إنتاجية؟ السبب الأول، هو أنّ ابتكارات الشركات الصغيرة تظهر للعيان بشكل أوضح من ابتكارات الشركات الكبيرة. فالشركات الصغيرة مضطرة لأن تجتهد وتعطي أكثر ما عندها لتضرب ضربتها وتفوز بحصة في السوق من الشركات الكبيرة، وعندما تصيب تحتفي بذلك علناً وعلى مرأى من الجميع. غير أنّ المشكلة في هذا النهج من تركيز كل الجهود على ضربة واحدة هو أنّ احتمال الإصابة ضئيل جداً وهكذا احتمال نجاح الشركات الصغيرة: فاحتمال أن تحقق الشركات الناشئة المدعومة برؤوس أموال استثمارية، عوائد متراكمة تساوي رأس المال المستثمر فيها، لا يتعدى 25% وسطياً. فضلاً عن ذلك، فإنّ الشركات المدعومة برؤوس أموال استثمارية هي جزء صغير من عموم الشركات ولا تشكل سوى 5% منها. وهكذا، فمع أنّ نجاح الشركات الصغيرة في الابتكارات يجلب لها الكثير من الاهتمام والشهرة، إلا أنّ ذلك النجاح هو الاستثناء، لا القاعدة.
والسبب الثاني الذي قد يدفع الناس للاعتقاد بأنّ الشركات الصغيرة أكثر ابتكاراً من الشركات الكبيرة، هو أنهم عندما يقولون "صغيرة"، فإنهم يعنون "فتية". وربما ينشأ الانطباع العام لدينا بأنّ الشركات الصغيرة أكثر ابتكاراً من الشركات الكبيرة من حقيقة أننا نشهد نجاحاً منقطع النظير لعدد من الشركات الناشئة لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة مثل أمازون وجوجل وآبل، فهذه الشركات لا تزال فتية نسبياً بمعايير توصيف الشركات، ولا تزال تحتفظ بمؤسسيها، الأمر الذي يشكل ميزة لها. ومع أننا لا نعلم أسباب أهمية هذا الأمر، إلا أنّ المدراء المؤسسين غالباً ما يمتلكون استراتيجيات عمل أقوى من المدراء غير المؤسسين (وقد يكون هذا سبب نجاحهم)، وحدساً أفضل في ما يخص كيفية تركيب الأجزاء لتشكيل الكل المتناسق الذي يعمل جيداً (لأنهم اختبروا إدارة شركاتهم منذ مراحلها الأولى). ويؤدي كل من هذين العاملين إلى إدارة أفضل للشركة وقيمة أعلى لحاصل البحث فيها. وفضلاً عن ذلك، فإنّ نجاح تلك الشركات يسمح لمدرائها المؤسسين بالاحتفاظ باستراتيجياتهم والدفاع عنها في مواجهة ضغوط المستثمرين لتحقيق الأرباح السريعة، وهكذا فإنهم لا يضطرون إلى اتخاذ قرارات قصيرة الأجل كالمدراء غير المؤسسين.
ليست ابتكارات الشركات الناشئة في الواقع نابعة من صميم تلك الشركات
ربما تقول الآن: ليس هنالك الكثير من الشركات الناشئة الابتكارية. ولكن ألا يتعين على الشركات الكبيرة أن تحاول الاستحواذ على ذلك العدد الصغير من الشركات الناشئة الابتكارية، كبديل عن إجراء أعمال البحث والتطوير داخلياً؟ والجواب هو بالنفي. ولعل السبب في أنّ بعض الشركات الناشئة تبدو أكثر ابتكاراً مما هي عليه في الواقع، هو أنّ ابتكاراتها عادة ما تأتي من خارجها. فمن المعروف أنّ بيل غيتس لم يطور نظام التشغيل دوس في شركته – بل اشتراه من شركة سياتل كمبيوتر لقاء مبلغ 50,000 دولار. وبالمثل طورت شركة ستيف جوبز واجهة مستخدم بيانية بعد أن شهدت مثلها لدى شركة زيروكس بارك (Xerox PARC) وقامت بالتعاقد مع موظفين كانوا قد عملوا في تلك الشركة. وهذه القصص هي القاعدة أكثر من كونها الاستثناء. ففي استطلاع أجري في العام 2003 على شركات إنك 500 (Inc 500)، وجد أنّ 21% فقط من الابتكارات كانت قائمة على أفكار اخترعها مؤسسو تلك الشركات بأنفسهم. أما المصدر الأكثر احتمالاً للأفكار الابتكارية فكان الوظيفة السابقة، حيث كانت نسبة 52% من الأفكار الابتكارية نابعة من الشركة السابقة أو القطاع السابق، و15% أخرى نابعة من شركة بائعة أو موردة لذلك القطاع. هذا لا يعني أنّ مؤسسي الشركات الناشئة قد خرجوا من شركات مشغليهم السابقة وهم يحملون الابتكارات والممتلكات الفكرية المسجلة باسم تلك الشركات، بل المقصود ببساطة هو أنه عندما يكون جميع خبرائك والأشخاص الذين تتصل معهم مرتبطين بقطاع أعمال واحد، من المرجح أن يبتكروا أكثر المشاريع قيمة في ذلك القطاع.
لقد قام الراحل ستيف كليبر بسلسلة من الدراسات القطاعية التي تبحث في كيفية تأثير منشأ مؤسسي الشركات في احتمال أن ينجحوا في مشاريعهم الجديدة. وما توصل إليه الباحث في جميع القطاعات المدروسة هو أنّ أكثر الشركات الناشئة نجاحاً كانت تابعة لمؤسسين عملوا سابقاً في شركات فتية وناجحة في نفس قطاع أعمالهم. فما جلبه أولئك معهم تمثل في الفهم العميق لتفاصيل عمل ذلك القطاع، وامتلاك المقدرة على تحسين المنتج الذي كانت الشركة السابقة تنتجه، وإدراك فرص إنتاج منتجات جديدة لم يكن إنتاجها مجدياً بالنسبة لتلك الشركة. وتتمثل النقطة الأساسية التي نستنتجها من كل ما سبق في أنّ الابتكارات المنسوبة للشركات الصغيرة غالباً ما تكون في الواقع صادرة عن شركات كبيرة. ولذلك، فإنّ أفضل مكان تبحث فيه الشركات الكبيرة عن الابتكارات الجديدة هو في داخل حرمها. وهذا بالضبط ما فعلته شركة زيروكس عندما أسست شركة زيروكس تكنولوجي فينتشرز للمشاريع الجديدة. فبينما عمدت صناديق رؤوس الأموال الاستثمارية التابعة للشركات الأخرى إلى الاستثمار في الشركات الناشئة الخارجية، استثمرت زيروكس في التكنولوجيات المبتكرة في شركة زيروكس بارك. ولقد كانت النتيجة تحقيق عائدات سنوية تساوي أربعة أمثال وسطي عائدات صناديق رؤوس الأموال الاستثمارية العادية.
ماذا يحدث عندما تستحوذ الشركات الكبيرة على شركات التكنولوجيا الناشئة؟
لقد وجدنا أنّ الشركات الكبيرة عندما تتخلى عن تطوير تكنولوجيا محددة داخلياً، من غير المرجح أن تكون قادرة على إيجاد شركة صغيرة تمتلك تلك التكنولوجيا. ولكن لنفترض جدلاً أنّ الشركة الكبيرة وجدت شركة صغيرة تمتلك التكنولوجيا المطلوبة، ولنسأل: ماذا تُبيّن لنا سجلات الاستحواذ على شركات التكنولوجيا؟
لقد نشر يازين أوزكان بيانات حول 2,378 عملية اندماج واستحواذ شركات التكنولوجيا كان قد جمعها لكتابة ورقته العلمية التي بعنوان "الابتكار والاستحواذات". وقد حدد في ورقته أكثر 16 شركة استحواذاً لشركات التكنولوجيا الأخرى (تلك الشركات التي أجرت أكثر من 10 عمليات استحواذ لشركات التكنولوجيا بين العامين 1986 و2007). قمت بمقارنة حاصل البحث لكل من تلك الشركات الـ16 مع معدل ذلك الحاصل في القطاع الذي تنتمي إليه الشركة. ووجدت أنّ 70% من تلك الشركات لديها حاصل بحث أصغر من حاصل البحث في القطاع الذي تنتمي إليه، وأنّ جميع تلك الشركات ما خلا ثلاث منها، لديها حاصل بحث أقل من المتوسط. وهكذا تبدو تلك الشركات وكأنها تعمل وفق مقولة "من استطاع فليفعل؛ ومن لم يستطع فليقم بعملية استحواذ" – وهذه بالضبط الاستراتيجية المتضمنة في الوثيقة التي أشارت إليها سارة ويليامسون: "بدلاً من القيام بأعمال البحث والتطوير، فإننا سنستحوذ على الشركات التي تقوم بذلك". غير أنّ المشكلة في تلك الوثيقة إذا ما طبقت على الشركات المستحوَذة، فأنها تقضي على أعمال البحث والتطوير في هذه الشركات أيضاً – ومن هنا ينشأ حاصل البحث المنخفض للشركة المستحوذة.
إلى جانب الاختبار البسيط للشركات الـ16 الأكثر استحواذاً، قمت بتحليل أكثر منهجية لجميع عمليات الاستحواذ المتاحة. وحددت في هذا التحليل النوعية الابتدائية للشركة المستحوذة ونظرت إلى التغيير الذي طرأ على حاصل بحثها بعد إتمام عمليات الاستحواذ. ولقد وجدت أنّ ازدياد كثافة الاستحواذات على مدار ثلاث سنوات (حاصل قسمة قيمة الاستحواذات على قيمة العائدات) يترافق مع انخفاض ملحوظ في قيمة حاصل بحث الشركة. وبالمتوسط، تشهد الشركة التي تمثل تكلفة استحواذاتها 50% من إيراداتها، انخفاضاً مقداره 9 نقاط في قيمة حاصل بحثها بعد إتمام عمليات الاستحواذ. وأخيراً، في المحصلة تخفق عمليات الاستحواذ في إنقاذ الشركات المضطربة، بل إنها على الأرجح تسهم فعلياً في إلحاق المزيد من الضرر بها.
ما من بديل سهل لأعمال البحث والتطوير في الشركات
ختاماً، من الواضح أنّ الوصول إلى الابتكارات لا يأتي من خلال عمليات الاستحواذ – بل إنّ الطريقة الوحيدة أمام الشركات الكبيرة لكي تحافظ على قدراتها الابتكارية هو الاستثمار في أعمال البحث والتطوير. ولحسن الحظ، أثبتت استراتيجية الاستثمار في أعمال البحث والتطوير نجاحها وفعاليتها. ويمكنك الاطمئنان إلى أنّ ابتكاراتك لن تتسرب إلى خارج شركتك إلا نادراً. كما إنّ إدراكك بأنك لا تستطيع شراء التكنولوجيا الجاهزة بكل بساطة، من شأنه أن يجبرك على أن تستثمر في أعمال البحث والتطوير في شركتك بطريقة أكثر كفاءة وإنتاجية. ولعل الشركات التي تتمتع بإنتاجية أكبر في أعمال البحث والتطوير لديها، ستحقق قيماً أعلى في الأرباح والنمو والقيمة السوقية عن كل دولار يصرف في أعمال البحث والتطوير.
غير أنّ هذه الاستنتاجات إنما تجعل إحجام الشركات الكبيرة عن الاستثمار في البحث والتطوير أمراً مقلقاً. فعندما توقف الشركات الكبيرة، التي تعد المحرك الأساسي للابتكار، أعمال البحث والتطوير لديها على أمل الاستحواذ على الشركات الناشئة التي تقوم بالابتكارات، لا تضر نفسها فحسب. فمع انخفاض أنشطة البحث والتطوير في الشركات الكبرى، سينخفض أيضاً عدد الشركات الناشئة الابتكارية. والأهم من ذلك كله أنّ مستوى نمو الاقتصاد الوطني برمته سينخفض من جراء ذلك.