5 دروس من موسم الحج عن التواصل الفعال مع الحشود

6 دقائق
الاتصال في موسم الحج

يعكس موسم الحج مشهداً اتصالياً فريداً، يجتمع فيه ملايين الأشخاص من مناطق مختلفة حول العالم لتأدية مناسك الحج عبر مراحل متسلسلة ومنتظمة في نطاق زمني ومكاني محدد.

هذا المشهد والذي يمكن أن أسميه "الاتصال الأبيض"، نسبةً للباس الحجاج الأبيض الموحّد، يثير أسئلة حول أُسس الاتصال الفعّال للمناسبات الكبرى التي يجتمع فيها عدد ضخم من الناس، وكيف يمكن لعملية الاتصال أن تكون فعالة، وداعمة للجهود المبذولة، ومساعِدة لخلق تجربة ثرية للزائر، إضافة إلى سؤال عن دور عملية الاتصال في إنجاح الجهود المبذولة على مستوى الدولة والمؤسسات.

قوة الانسجام في الاتصال

من أبجديات عمليات الاتصال وجود 3 عناصر: مرسلٍ ومستقبلٍ ورسالة، وتعدّ الطريقة التي نتواصل بها مع الآخرين أهم عنصر لنجاح الرسائل التي نريد إيصالها إلى بعضنا.

تاريخياً؛ تعد اللغة نتاج تطوّر لأشكال تواصل قديمة مثل الرسومات والإشارات التي توحي بالهيمنة حيناً، وتخليد بعض المشاعر والأحاسيس حيناً آخر، وهي الطريقة نفسها التي لا نزال نمارسها في عملياتنا الاتصالية، وتنسيق العمل فيما بيننا.

ربما يكون التواصل مع الآخرين لثواني معدودة، عبر نظرة أو كلمة أو فعل، وربما تصل الرسالة للمتلقي خلال تلك الثواني على نحو غير صحيح، وهنا يكمن التحدي؛ فكثيراً ما نسمع عن مشكلات في فرق العمل كان سببها عدم وصول الفكرة المطلوبة للمتلقي أو عدم وضوحها أو سوء فهم المتلقي لها. وهنا يجدر بنا أن نشير إلى الفارق الكبير بين ما يقوله الشخص، وما يودّ أن يوصِله.

من ناحية أخرى؛ يؤدي عنصر الانسجام دوراً فعالاً في عملية الاتصال الناجح، فبحسب كتاب "نفتقد بعضنا بعضاً: كيفية تعزيز علاقات ذات مغزى" (Missing Each Other: How to Cultivate Meaningful Connections) للمؤلفين إدوارد برودكن وآشلي بالاثرا، الانسجام ليس مجرد عنصر يساعد على تعزيز علاقتنا مع الآخرين فحسب؛ بل أداة قوية تشكل لدينا تصوراً واضحاً للتواصل معهم،  إذ يُساعد على التناغم مع تقلبات مشاعرك، ومشاعر الآخرين، والوعي بالحالة الذهنية، والجسدية المرافقة لعملية التفاعل، والتواصل في إدارة الصراعات، وإيصال الرسائل بطريقة مفهومة.

أخذ الحالة النفسية والجسدية للحجاج في الاعتبار

تقتضي فريضة الحج بذل جهد عظيم خلال فترة محددة، أياماً معلومات، لا سيما وأن الحاج لبيت الله يكون في معظم الأحيان قد قطع آلاف الكيلومترات، كما في قوله تعالى "وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ"، لذلك التغيّر الحاصل في نمط الحياة والتخلي عن الرفاهية التي يتمتع بها الحجاج في منازلهم تؤثر دون شك في حالتهم الجسدية والنفسية، وهو ما يسميّه خبراء الاقتصاد السلوكي "فجوة التعاطف"، (Empathy Gap)، وهي انحياز سلوكي يُقصد به الميل نحو التقليل من تأثير حالتنا الجسدية والعاطفية في قراراتنا وسلوكياتنا، والمبالغة في الوقت ذاته في تقدير التأثير العقلاني لعملية صنع القرار، أي أنّ الأفراد يتخذون القرار تحت تأثير العوامل الجسدية أو النفسية الآنية مثل حالة الجوع أو الألم أو الفرح أو الحزن، ودون الأخذ بعين الاعتبار تأثير العوامل الجسدية أو النفسية المؤقتة التي ستظهر في المستقبل، وهو ما يؤدي لعدم الاستعداد الكافي لمواجهتها عند ظهورها، فالفرد هنا لا يدرك تماماً ماهية تفضيلاته، ويعتقد أنّ القرارات قصيرة المدى تعكس تفضيلاته على المدى البعيد. وكمثال عن هذه الحالة، نجد الكثير من الحجّاج يحجزون فنادق بعيدة جداً متجاهلين حالة التعب التي ستجتاحهم على الغالب بعد بضعة أيام من أداء الشعائر، وهذه الحالة تتداخل مع انحياز آخر يُسمى انحياز ضبط النفس (Restraint Bias)، ويُقصد به مبالغة الفرد، أثناء عملية اتخاذ القرار، في تقدير قدرته على مقاومة الإغراءات أو الحوافز، وهو السلوك الذي يؤدي بالفرد للتعرض أكثر لهذه العوامل المغرية، وينتج عن ذلك زيادة احتمال استسلامه لها. 

وانطلاقاً من الحالة الفريدة التي يتسم بها موسم الحج والحجّاج، يمكن استخلاص خمسة وصايا اتصالية لتفعيل الاتصال في المناسبات الكبرى:

  1. التكرار كقيمة لتراكم المعارف

بما أن الحج موسم متكرر كل سنة، فهذا يعني تراكم للتجارب البشرية التي يجب استغلالها كمنطقة رصد، ومختبراً للتحليل، وتطوير التجربة، وهذا مبدأ مهم في إدارة المشاريع.

على مدار عقود خلت، شهدت مواسم الحج تحديات مختلفة ومتنوعة، وهذا ما سرّع العمل على مشاريع لتطوير منظومة خدمة الحج والزيارة والعمرة، منها مثلاً تنفيذ مشروع تطوير جسر الجمرات والمنطقة المحيطة به لتكون أساساته قادرة على تحمل 12 طابقاً وخمسة ملايين حاج في المستقبل، وكذلك نجاح اختبار نقل الحجاج عبر مسارات ترددية؛ لضمان سلامتهم.

وفي موسم حج 2022؛ ذكر تقرير "جهود وسط الحشود" أنه لم يتم تسجيل أي حدث يؤثر على سلامة الحجاج، إذ تم استبدال 95% من الخيام في مشعر عرفة بأخرى مقاومة للحرائق، وتجهيز 23 مستشفى و97 مركزاً إسعافياً للتعامل مع الحالات الطارئة فور حدوثها.

هذه العمليات التحسينية الكبرى والمستمرة لتجربة الحج والعمرة، يصاحبها تعلم مستمر في الأداء الاتصالي وفقاً لمبدأ التحسين المستمر؛ لضمان الدلالة الواضحة على الخدمات مثلاً، وسلاسة انتقال المعلومات، كما أن مرور الأعوام، والتجارب، يجعل ما حدث ويحدث، أشبه بمختبر لتجارب اتصالية عدة، وهذا يرتهن لممارستين ضروريتين: الأولى: تدوين التجارب المستمر، والثانية: القدرة على التحرك بذكاء أكثر من الارتهان للقوة في الوصول، إذ الخبرة تثمر تجارب تجعلك تقدم جهداً أقل بنتائج أعلى.

  1. مَعلم ومُعلم

وسّع التطور التكنولوجي نطاق الاتصال إلى أبعد حد، ولكن ثمة صعوبات تعترض التواصل بين الثقافات المختلفة، ناجمة عن اختلاف أساليب المشاركة والتقييم والنقد، الأمر الذي يتطلب طرائق تفكير أكثر مرونة وقدرة على التكيف؛ لإنجاح العمل والتعاون.

ينطبق ذلك على موسم الحج، إذ يتسم ضيوف الرحمن بالتعددية الجغرافية، والثقافية، والاقتصادية، والعُمرية، ويجمعهم إطار زمني ومكاني واحد، ما يُحتّم على القائم بالاتصال التفكير في طريقة مناسبة لإيصال رسائله، ومنتجاته لمنطقة إنصات قريبة منهم ولهم حتى تحقق الأثر المطلوب.

في موسم عام 2022، شكل حجاج الدول الآسيوية عدا الدول العربية 53.8%، وحجاج الدول الإفريقية عدا الدول العربية 13.2%، وحجاج دول أوروبا وأميركا وأستراليا 11.6% من إجمالي حجاج الخارج،  ولضمان إنشاء نقاط اتصال وتواصل صحيحة معهم، عملت السعودية على تقديم 13 دليلاً توعوياً تفصيلياً بـ 14 لغة؛ لشرح المراحل المختلفة لتأدية المناسك، ولم تكتفِ بذلك؛ بل عملت على تأهيل 1,500 فرداً من العاملين في منظومة تفويج الحجاج؛ للتواصل معهم بطريقة سليمة وواضحة.

كان التطوع أيضاً أداة فعالةً لإيصال رسالة مفادها أن "مساعدة الأشخاص، وضمان مستوى خدمة عالٍ يعد أولوية قصوى"، حيث انضم 3000 متطوع ومتطوعة إلى برنامج "كن عوناً"؛ لتقديم خدمات تنوعت بين الترجمة والإرشاد، والسقاية، والخدمات الصحية والإسعافية.

وأثبتت تجربة التطوع القدرة على كسر حاجز اللغة في التواصل مع الحجاج، فبعد تقديم الرعاية اللازمة لحاج أجنبي تعرض لضربة شمس مثلاً؛ يرفع يده ليهمّ بالدعاء للمتطوع الذي ساعده، وترتسم على وجهه ابتسامة توحي بالشكرلمن ساعده واهتم به، والرضا عن هذا الاهتمام.

وفي هذا إشارة إلى أن العمل الاتصالي يتجاوز كونه عملية يشاهدها الحاج من بعيد، عبر شاشة كبرى في اللوحات الإعلانية أو التلفزيونية، أو شاشة صغرى في هاتفه، إلى ممارسات ميدانية ترشد الزائر، وتخدمه.

  1. التعميم والتخصيص في الرسائل الاتصالية

التعددية والتنوع مع محدودية الوقت المخصص لتأدية فريضة الحج تجعلنا أمام ضرورة تحديد الرسائل العامة الخاصة وطبيعة كل منهما لضمان فاعلية العملية الاتصالية.

لا يعد التخصيص اتجاهاً جديداً في الاتصال، فلطالما سعى المسوقون ومتخصصو الاتصال، ووسائل الإعلام لاكتشاف طرائق تعزز فعالية رسائلهم، وساهمت التقنية الرقمية عالية الاتصال، وتطور أساليب تحليل البيانات الكبيرة في الوقت الفعلي في تمكين التخصيص على نطاق واسع، فالبصمة الرقمية الناتجة عن مشاركة الأشخاص المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي، وتصفحهم لمواقع الانترنت، والتفاعل مع مساعد صوتي وما إلى ذلك، يمكن استخدامها لتخصيص الرسائل حول الخدمات، والمنتجات المقدمة للحجاج، واستثمارها بفعالية.

في تجربة اتصالية، خصصت مثلاً وزارة الصحة السعودية في الحج مركزاً للاتصال والدعم الاستشاري الصحي عن بعد بسبع لغات، وفي مثل هذه الجهود الاتصالية، يمكن تصور الأثر الفعلي للزائر.

  1. إشكالية الخلط بين الإرشادات التوعوية والرسائل الإعلامية

تعد الرسالة التوعوية محايدة وتستهدف الصالح العام، فيما قد تكون الرسالة الإعلامية منحازة وموجهة لفئات معينة، والخلط بينهما في رسالة واحدة قد يؤدي إلى فقدان جزء كبير من القيمة الاتصالية.

فعلى سبيل المثال؛ تقوم الرسائل الإرشادية والتوعوية على مبدأ: "خير الكلام ما قل ودل"، وبالتالي؛ يجب أن تكون عباراتها واضحة، ومفرداتها مفهومة، وصياغتها سهلة تصل للمتلقي بشكل سليم، وتؤثّر فيه، وتدفعه إلى القيام بالسلوك المنشود، والابتعاد عن ضده، لكن نشر هذه الإرشادات في وسيلة إعلامية بتوقيت غير مناسب أو عرضها بشكل غير واضح للعيان، أو بأسلوب معقّد وصياغة ركيكة تتطلب من المتلقي جهداً كبيراً لفهمها؛ سيُفقدها قيمتها الحقيقية، والأثر المطلوب.

في الحج مثلاً، تساعد الشاشات التلفزيونية العملاقة على إيصال المعلومات التوعوية والإرشادية بطريقة صحيحة، وبحسب دراسة بعنوان "اعتماد الحجاج والمعتمرين على الوسائل التكنولوجية الحديثة كمصدر للحصول على المعلومات الإرشادية والتوعوية خلال الأزمات"، فإن نحو 44% من المشاركين يعدون شاشات العرض العملاقة أسرع الوسائل وأفضلها لمعرفة معلومات عن الحج.

يعتقد جون كوتر الذي نشر مقال في هارفارد بزنس ريفيو "لماذا تفشل جهود التحول" بأهمية أن يقترن التواصل بتعليم السلوك الجديد؛ للتأكد من فهم الناس للرؤية والاستراتيجية الجديدة، وبالتالي يجب أن تبتعد رسائل التوعية والإرشاد عن الخطاب الروتيني، ولا بدلها من إجراء اختبار لمعرفة أي رسالة هي الأمثل والأكثر تأثيراً، ومقدار الفرق الذي تُحدثه؟.

  1. في الاتصال الجماهيري؛ لا تنسَ الفريق الداخلي

لا توجد وصفة محددة لهذا المتطلب، ولكن ما يستحسن استحضاره، والتنبه له، عدم حرق الفريق بتطلعات مبالغ فيها، أو تجميدهم بمتطلبات لا تستخرج أجمل ما فيهم، وما يعين على ذلك؛ وجود أدوات قياس حقيقية.

إن الالتفات للفريق، وتأمل ما يستطيع فعله جيداً، وما يمكنه القيام به، ثم النظر للمهام المناطة به، يجعلك في منطقة منطقية مع فريقك، وما يُنتظر منه، وربما يجعل فريقك قادراً على تقديم أكثر مما تتوقع.

تلجأ بعض التجارب بالإضافة لما سبق، لتفعيل بعض الأنشطة الإيجابية، والتي تعبر عن امتنان تجاه من عمل، واجتهد، كما في تجربة قطر في بطولة كأس العالم لكرة القدم عندما نظمت مباراة بين 24 عاملاً وبعض أساطير اللعبة، للتعبير عن امتنان لفريق عمل كثيرا للحظة مهمة.

إن إنجاز أي شيء يتطلب جهد فريق كامل، وباتباع هذه الوصايا الخمسة يمكن خلق حالة اتصالية فريدة وناجحة كتلك التي نشهدها في موسم الحج.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي