هكذا يعرقل المحاسب الابتكار في المؤسسات

6 دقيقة
النظام المحاسبي
freepik.com/jannoon028

أذكر قبل سنوات عندما عملت في مؤسسة للتدريب ودعم التحقيقات الاستقصائية الصحفية، كان الصحفيون العرب الذي يتولون تغطية هذه القضايا من الدول العربية قد وجدوا أنفسهم أمام شروط محاسب هذه المؤسسة، والتي تتطلب فاتورة مختومة وموقعة لكل مصروف تم صرفه خلال عمل التحقيق الصحفي. وهذا معناه أن على الصحفيين الذين كانوا يغطون الحروب والخطف في سوريا والعراق وليبيا وقضايا تهريب اللاجئين عبر لبنان ومصر والسودان وليبيا أن يأتوا بفواتير مع صورة عن الهوية الشخصية لسائق التاكسي الذي نقلهم من نقطة إلى نقطة لتتبع المهربين أو الخاطفين.

وكذلك كان المطلوب منهم جلب فواتير الطعام الذي تناولوه والمياه التي شربوها، أو فاتورة من محطة الوقود التي ملؤوا منها سياراتهم الخاصة خلال العمل على هذا التحقيق، هذا فضلاً عن ضرورة فصل فواتير الاتصالات واستخدام الإنترنت لأسباب شخصية عن استخدامها بما يخص هذا التحقيق الصحفي. وكما تتوقعون، كانت هذه الشروط المحاسبية كافية لتوقف العديد من الصحفيين عن القيام بتحقيقات صحفية كان يمكن أن تنقذ حياة الناس أو تُحسّن أحوالهم نحو الأفضل.

وكثيراً ما كنت أسمع من الزملاء الصحفيين آنذاك قصصاً عن ردة فعل سائق التاكسي أو موظف محطة الوقود أو المطعم عندما تُطلب منهم فاتورة وصورة عن الهوية الشخصية. وعلى الرغم من ذلك لم يتغير المحاسب أو متطلباته. بالنسبة للمحاسب، فإن متطلبات التدقيق المحاسبي تتطلب معايير موحدة للفوترة يطبقها في مناطق الحروب والأزمات وفي الدول التي لا يوجد لديها مفهوم الفوترة أصلاً كما يطبقها في وول ستريت. لا توجد مرونة ولا يوجد تفكير في تحديث هذه الأنظمة وفقاً لطبيعة المجتمعات أو الأزمات أو تطورات العصر.

تذكرت كيف كان المحاسب والنظام المحاسبي يعرقلان تحسين حياة الناس وإنقاذ أرواحهم عندما قرأت مؤخراً عن البحث الجديد الذي نشره الأستاذ في كلية وارتون بيتر كابيلي، والذي كشف فيه أن النظام المحاسبي المعمول به في معظم الشركات والمؤسسات العالمية يعرقل التدريب والتأهيل للموظفين، وقد أدى فعلاً لتراجع استثمار الشركات العالمية في تدريب موظفيها، حيث تنظر الطريقة الحالية في المحاسبة إلى تدريب الموظفين بطريقة تختلف عن الشعارات التي تطلقها الشركات، والتي يفترض أنها "استثمار في رأس المال البشري"، لكنها محاسبياً مصاريف تسجل ضمن النفقات الجارية باعتبارها تكلفة ثابتة مثل تكلفة فرش المكتب تماماً.

وينطبق الأمر ذاته عـلى تكاليف التوظيف الأخرى، مثل الأجور والرواتب المدفوعة لجميع الوظائف الإدارية. وهذا، حسب الباحث، قد أدى لخفض برامج التدريب في المؤسسات، وزاد من اعتماد الشركات على التعاقد الخارجي، حيث بيّن أن 70% من الشركات الأميركية تعتمد اليوم على ملء الشواغر بموظفين خارجيين متعاقدين بدلاً من تعيين موظفين ثابتين لهذا السبب بشكل رئيسي. مبيناً أن التعاقد الخارجي ينعكس سلباً على إنتاجية وثقافة الشركة، بينما يعدّ الاستثمار في الموظفين الدائمين منهجاً مربحاً على المدى الطويل للمؤسسات، لكنه منهج معطل بسبب أنظمة المحاسبة السائدة (سيُنشر هذا البحث قريباً في هارفارد بزنس ريفيو العربية). ووفقاً لهذا البحث فإن المحاسب والنظام المحاسبي يعرقلان اليوم الاستثمار في رأس المال البشري وتطوير المواهب في الشركات والمؤسسات.

ينظر النظام المحاسبي في العالم بشكل عام إلى المدى القصير لتحقيق العوائد، ولا يؤمن بالمدى البعيد للاستثمار في البشر والمشاريع، ويذكر أصحاب هذا المبدأ دوماً بأن رسائل جيف بيزوس إلى المساهمين كانت دائماً ما تذكّرهم بأن الأرباح تتحقق علي المدى الطويل، وهذا فعلاً ما بنت عليه أمازون استراتيجيتها، فلم تبدأ بتحقيق الأرباح الصافية إلا بعد عشر سنوات، بينما قتل النظام المحاسبي الذي يركز على الأرباح قصيرة المدى شركات مثل نوكيا وكوداك وبلاك بيري وبلاك بستر.

ويبدو أن الخلاف بين نظرة المحاسب ذي الرؤية قصيرة المدى ونظرة الاقتصادي بعيدة المدى للأنشطة الاقتصادية باتت تتضح كل يوم لتفرض الحاجة إلى تغييرات في أنظمة المحاسبة السائدة في العالم. فالمحاسب أو النظام المحاسبي ينظر إلى الأرقام بشكل شكلي مجرد، بينما ينظر الاقتصادي إلى التكاليف غير المباشرة والتي أصبح قياسها اليوم ممكناً. وقد ظهرت في السنوات الأخيرة دعوات من اقتصاديين وقادة دول لإعادة النظر بالنظام المحاسبي العالمي، والذي يَعتبر، على سبيل المثال، "الناتج المحلي الإجمالي" قياسَ ما ينتج في كل بلد وفقاً لمعايير شكلية لا تحتسب الفرص البديلة والقيم المضافة الحقيقية، فمنذ أن ظهر مفهوم الناتج المحلي الإجمالي في ثلاثينيات القرن الماضي، تمسك بقياس القيمة النقدية لإجمالي السلع النهائية التي يتم إنتاجها في اقتصاد معين. إلا أن أحد الاقتصاديين الذين ابتكروا هذا المنهج، وهو سيمون كوزنتيس، حذر منذ ذلك التاريخ بأن "رفاهية الأمم لا يمكن الاستدلال عليها من مقياس الناتج المحلي".

وقد بدأت بعض دول العالم، ومنها اسكتلندا ونيوزلندا وآيسلندا، التمرد على هذا النظام المحاسبي التقليدي منتصف العام 2019، وبدأت تعتمد موازنات وطرقاً محاسبة تقيس رفاهية شعوبها دون الاكتفاء بالأرقام الشكلية. فقد بدأت هذه الدول تعتمد التوجه الجديد لعلماء الاقتصاد الذين ينظرون إلى الفرص البديلة التي تتحقق من أي نشاط اقتصادي، فبالنسبة لهم لا يقاس إسهام مصنع السيارات في الاقتصاد إلا بعد خصم الأضرار البيئية التي يسببها للمجتمع والأمراض التي قد تنجم عن ملوثاته، وكذلك فإن مصانع المشروبات التي تسبب السمنة وداء السكري، لا تعتبر أرقاماً ربحية مساهمة في الناتج المحلي إلا بعد خصم أضرارها الصحية المتوقعة على البشر وإنتاجيتهم.

هناك أبحاث تجعلكم تكتشفون كيف أن النظام المحاسبي العالمي المعمول به الآن لم يعد يواكب العصر الرقمي وقدراته التكنولوجية؛ فقد قام باحثان من معهد ماساتشوستس متخصصان بالاقتصاد الرقمي بإجراء تتبع على مدى عشرين عاماً لمدى إسهام الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي الإجمالي للدول، فوجدا أنه وحتى عام 2018 لم يسهم سوى بـ 5.5% كحد أقصى. وهذه طبعاً نسبة غير واقعية، إذ إن الاقتصاد الرقمي يسهم واقعياً بأكثر من ذلك بكثير في حياتنا، لكن الطرق المحاسبية المعمول بها في كل دول العالم لا تستطيع احتساب فوائد الاقتصاد الرقمي.

هنا يعود الباحثان للكشف عن بعض الأمثلة التي أسهم فيها الاقتصاد الرقمي بتحويل حياتنا رأساً على عقب، لكن النظام المحاسبي لايستطيع فهمها أو التعامل معها، ولذلك فهي ما تزال خارج الحسابات. ويطرح الباحثان هذا المثال؛ لنفترض أننا قدمنا لك عرضاً طلبنا منك فيه أن تتوقف عن استخدام محرك البحث جوجل لمدة شهر واحد، وفي المقابل سندفع لك 10 دولارات، ما رأيك بـ 100 دولار؟ 1,000؟ وكم نحتاج أن ندفع لك كي تمتنع عن الدخول إلى موقع ويكيبيديا؟ يمكن أن تساعدنا إجابتك في فهم قيمة الاقتصاد الرقمي. وكذلك، كم سندفع لك لتتوقف عن استخدام إنستاغرام أو فيسبوك لمدة شهر؟ وفقاً لهذا البحث فقد وافق نحو 20% من مستخدمي موقع فيسبوك على التوقف عن استخدام الخدمة مقابل مبلغ زهيد لا يتعدى دولاراً واحداً، بينما رفضت نسبة مماثلة التوقف عن استخدامه بأقل من 1,000 دولار. لماذا؟ هنا تأتي تكلفة الفرصة البديلة التي لا تستطيع الأنظمة المحاسبية استيعابها.

فكّر في الفارق بين مجلدات الموسوعة البريطانية الورقية، والتي كانت تشتريها آلاف المؤسسات سنوياً في العالم بالمقارنة مع موقع ويكيبيديا. اعتادت الموسوعة البريطانية أن تكلف مشتريها بضعة آلاف من الدولارات، ما يعني أن عملاءها كانوا يرون أنها تستحق هذا المبلغ على الأقل. لكن هذه المؤسسات توقفت عن شراء الموسوعة وبدأت تعتمد على موقع ويكيبيديا الموسوعي المجاني، والذي يحتوي على مقالات أكثر بكثير مما احتوت عليه الموسوعة البريطانية وبجودة مماثلة.

إذاً، على الرغم من الفوائد الكبيرة التي نحققها من الإنترنت لعملنا ولحياتنا، والتي نحصل من خلالها مجاناً على فوائد مادية لم نكن نحصل عليها خارج الإنترنت، فإن السلع والخدمات الرقمية لا تُحتسب في أغلب الأحيان في إجمالي الناتج المحلي. لأن مقياس الناتج المحلي يعتمد على ما يدفعه المستهلكون مقابل السلع والخدمات. فإذا كان سعر شيء ما يساوي صفراً، إذاً فإسهامه في إجمالي الناتج المحلي يساوي صفراً.

ويورد الاقتصادي ألفريد ميل في كتابه "مبادئ الاقتصاد" فصلاً بعنوان "الفرق بين المحاسب والاقتصادي"، ويضرب على ذلك مثلاً يبين الفرق بين النظرة العميقة للاقتصاد من قبل الاقتصاديين وبين نظرة المحاسب التي لا تقيس ما يسمى "تكلفة الفرصة البديلة"، ففي الاقتصاد هنالك تكاليف مكتسبة أو ضائعة قد لا تظهر مباشرة ضمن أرقام البيانات المالية التقليدية وتحتاج لحساب الفرصة البديلة.

ويضرب ميل على ذلك مثالاً من قصة افتراضية لمدرس ترك مهنته التي تدر عليه راتباً شهرياً مقداره 5,000 دولار، وقرر البيع على عربة متنقلة. وبنتيجة عمله على هذه العربة، ظهرت التكاليف والإيرادات كما يلي: تكاليف الإنتاج 2,000 دولار شهرياً، وعوائده 6,000 دولار. فهل ربح المدرس السابق من وظيفته الجديدة بعد أن ترك التدريس أم خسر؟ يرى المحاسب أن هذا المدرس يربح: 4,000 آلاف دولار شهرياً، لأن المحاسب يرى العملية بشكل منفصل عن أي سياق آخر، فهي بالنسبة له تعني خصم التكاليف من الإيرادات وما يتبقى يعتبر ربحاً، بينما يرى الاقتصادي الذي يحتسب تكلفة الفرصة البديلة، والتي هي راتب الـ 5 آلاف دولار التي كان يتقاضاها، بأن الحسبة تصبح كما يلي: 6,000 - (2,000+5,000)= -1,000 أي أن المدرس السابق يخسر ألف دولار كل شهر مقارنة بوظيفته السابقة.

ما يحصل عملياً هو أن الأنظمة المحاسبية العالمية التي يُعمل بها الآن وتعود لأكثر من قرن من الزمان باتت بحاجة للتطوير الجذري، لكن المشكلة الأخرى برأيي هي أن عقلية المحاسبين أو مدراء المالية يتم توظيفها وتأهليها وفقاً لهذه المعايير الصارمة التي لا تسمح بالتفكير والاجتهاد خوفاً من أي تدقيق محاسبي لا يتفهم هذا الاجتهاد. وهكذا يضيع الابتكار ومصلحة المجتمع في هذه الثغرة بين نظام محاسبي عفا عليه الزمن ومحاسب مقولب لا يستطيع الاجتهاد أو تفسير النص، وبين نظام تدقيق محاسبي مكبل بالشكليات.

في دراسة لمعهد إنسياد لإدارة الأعمال توصل البحث إلى أن عقلية المحاسبين الإبداعية تكون في بعض الحالات صفراً، وأنه كلما زاد "تحفظ" المحاسب قل الابتكار وبراءات الاختراع في هذه المؤسسات. ومن يعمل في شركة خاصة أو حكومية، يعلم أن كثيراً من متطلبات الابتكار التي تفرضها ديناميات العصر الحالي، إنما تعطلها في كثير من الأحيان الأنظمة المحاسبية. فعند طرح فكرة الاختبارات، أو مشاريع جانبية وارد فشلها في الشركة، أو التدريب والتأهيل فكلها مصاريف لا تتفق فيها رؤية الإدارة الحديثة المبتكرة مع رؤية المحاسب.

الاختبارات أو التجريب ليس لها مكان في المحاسبة التقليدية، ولايمكنك محاسبياً البدء بمشروع خسارته متوقعة، كما لا يمكن تسجيل خسارته وقبولها على أنها عمل إيجابي، بل هي عمل سلبي من الناحية المحاسبية. وكذلك إرسال موظف في ورشة تدريبية، يعتبر مصاريف وليس استثماراً. يدعو البروفيسور بيتر كابيلي من كلية وارتون لإدارة الأعمال للتعامل مع الموظفين محاسبياً كما تتعامل فرق كرة القدم مع اللاعبين. فهناك في كرة القدم تم تعديل الأنظمة المحاسبية في معظم الأندية لتتعامل مع اللاعبين باعتبارهم أصولاً لها قيمة تتجاوز آلاف الدولارات أو الملايين، وليس باعتبارهم مصاريف وخصوماً في الميزانيات.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي