الإنجاز أم الإتقان: المفاضلة الصعبة في حياة القادة

4 دقيقة
الإنجاز أم الإتقان
shutterstock.com/Natalya Kosarevich

يقع القادة تحت ضغط المفاضلة بين إخراج المنتجات والمشاريع والمبادرات بصورة مثالية وبين سرعة الإنجاز والتنفيذ دون الالتفات كثيراً إلى الجودة. ما يضعهم أمام سؤال مهم: "هل أركز على الإنجاز أم الإتقان؟" قد ينحرف المسؤولون التنفيذيون عن مسارهم بسبب عادة طلب الكمال، لدرجة أنهم يتأخرون في إطلاق المبادرات والتوجيهات لأنهم لا يعتبرونها متقنة بالقدر الكافي. وفي المقابل، إذا مضوا قدماً في المبادرات دون دراسة واختبار كافيين فيمكن أن يؤدي ذلك إلى نتائج محرجة.

يتوجه بعض النقد لفكرة السعي نحو الكمال؛ بأنها تضر بفعالية القيادة، فقد تؤدي إلى إرهاق القائد، كما أنها تعوق عملية صنع القرار، وبدلاً من تعزيز الثقة والتعاون، يمكن أن تولد الاستياء والخوف من الفشل.

وأظهرت دراسة حديثة من مجلة علم النفس التنظيمي شملت 89 قائداً و343 مرؤوساً، أن القادة الباحثين عن الكمال قد يحفزون الموظفين الذين يتمتعون بفعالية ذاتية عالية، لكنهم قد يزيدون الضغط على أداء الموظفين ذوي الفعالية الذاتية المنخفضة. كما أظهرت دراسة أخرى من المجلة نفسها أن الكمالية تزيد من سلوكيات المراقبة لدى القادة وتقلل من الثقة والتسامح، ما قد يضر بالعلاقات الشخصية ويحد من فعالية القيادة التحويلية، وهما أمران حاسمان لاتخاذ قرارات فعالة وتماسك الفريق. ومن جهة أخرى، أثبتت دراسات من جامعة ليدز البريطانية أن الكمالية المفرطة تقلل من انخراط الموظفين، إذ يشعرون بالتهديد بدلاً من التحفيز.

فما هو الحل إذاً؟ يكمن الحل في الرضا بالإتقان النسبي وقبول هامش الخطأ، حيث تشرح محللة السلوكيات المهنية كيري غويته في مقال لها منشور في هارفارد بزنس ريفيو، أن الحل يكمن في إشراك الآخرين والتماس ملاحظاتهم وآرائهم بخصوص النتائج والتكاليف والأطر الزمنية المتوقعة بدلاً من تبني معايير مبالغ فيها جداً.

تكامل الإنجاز والإتقان

في بودكاست طريقتي، أبدى الرئيس التنفيذي لشركة سيسكو، خالد سليماني، تأييده لفكرة طلب الكمال، موضحاً أن الالتزام بالجودة ينعكس انعكاساً مباشراً على العلامة التجارية للشركة وسمعتها، إذ يعد الكمال، ولا سيما في الاتصالات الرسمية وجودة المنتجات، أمراً ضرورياً للحفاظ على سمعة الشركات، خاصة بالنسبة للشركات العامة. فحتى الأخطاء البسيطة، مثل الأخطاء المطبعية في الخطابات الرسمية الموجهة للمستثمرين أو العملاء، غير مقبولة لأنها تخلق صورة سلبية لا شعورياً.

لكن في المقابل، حذر المؤسس والرئيس التنفيذي لـ بيت.كوم، ربيع عطايا، من النزعة الكمالية التي تسبب الشلل. وبدلاً من ذلك، دعا إلى إطلاق المنتجات أو القرارات في الوقت المناسب، ثم العمل على تحسينها وتطويرها لاحقاً. تتماشى هذه المرونة القيادية مع المنهجيات الرشيقة الحديثة التي تعطي الأولوية للسرعة والتعلم من الإخفاقات على انتظار الحل المثالي.

يعكس هذان الرأيان المفاضلة الصعبة في حياة القادة بين الإنجاز والإتقان، لكن من الخطأ أن نفترض وجود تعارض دائم بينهما، فكلاهما يكمل الآخر في بيئات العمل الطبيعية؛ فالإنجاز يعني التقدم الفعلي وتحقيق النتائج، بينما الإتقان والجودة العالية ضروريان في جميع الأحوال، وحين نربط بينهما ربطاً متوازناً نصل إلى أداء فعال ومستدام.

الإنجاز بلا إتقان يؤدي إلى نتائج مؤقتة ربما غير مستدامة، ويتسبب في فقد الثقة مع مرور الوقت، بينما السعي للكمال والإتقان التام دون إنجاز يؤدي إلى الجمود والتأخر. لذا، لا بد من عقلية تراعي التوقيت والسياق والظروف والأحوال، فهناك مواقف تتطلب سرعة الإنجاز، وأخرى لا تحتمل الخطأ وتحتاج إلى أقصى درجات الإتقان.

وفي عالم الشركات الناشئة، على سبيل المثال، الإنجاز بسرعة هو مفتاح البقاء على المدى القريب والجودة مفتاح البقاء على المدى البعيد، فنحتاج إلى الإنجاز والإتقان، مع مراعاة مبدأ المنتج السريع التطور الذي دعا له إريك ريس في كتابه الشهير "الشركات الناشئة الرشيقة"، ومبدأ الجودة الذي يتوقعه جميع المستفيدين وأصحاب المصلحة.

التأجيل يشعر صاحبه براحة مؤقتة، لكنه في كثير من الأحيان لا يضيف قيمة حقيقية، بل يراكم المهام ويزيد الضغط الذهني. إن تأجيل القرار أو تأجيل التنفيذ لا يعني بالضرورة تحسين النتيجة، خصوصاً إذا لم يكن التأجيل مبنياً على سبب واضح مثل جمع معلومات أو انتظار بيانات أو موافقات ضرورية. في الواقع، ثمة مهام كثيرة لا تتحسن بمجرد التأجيل، بل تفقد جدواها وتصبح أكثر تعقيداً.

كما أن التأجيل المتكرر يعكس ضعفاً في الحسم أو خوفاً من الفشل ونقصاً في مهارة صناعة القرار التي يحتاج إليها أي قائد ومدير، ما يعوق التعلم والتطور. إن القيادات الناجحة والأفراد الفاعلين يتعاملون مع المهام بقاعدة: "أنجز أفضل ما يمكن الآن، وطوره لاحقاً"؛ لأن التنفيذ يخلق التقدم، وتأجيل الخطوة الأولى غالباً ما يكون عائقاً نفسياً أكثر منه ضرورة عملية. والنتيجة: ضياع فرص أو تراكم تحديات يمكن معالجتها بسهولة في وقتها أو في الطريق نحو التنفيذ.

دائماً هناك "خط رجعة"

يتوهم البعض أن كل قرار يتخذونه هو خطوة "لا رجعة فيها" ما يدفعهم للتردد أو الجمود خوفاً من الفشل، لكن الحقيقة أن غالبية الأمور في العمل قابلة للتصحيح أو التعديل. فالخطأ ليس نهاية الطريق، بل هو جزء من مشوار التعلم، وغالباً ما يكون هناك "خط رجعة"، سواء بتغيير الاستراتيجية، أو بمراجعة القرار، أو بإعادة التوجيه. تولد عقلية "اللارجعة" قلقاً دائماً وتضخم عواقب الأمور، بينما يرى التفكير المرن أن التجربة لا تعني التزاماً أبدياً، بل اختباراً يمكن مراجعته وتعديله.

في غالب التعاملات والخدمات والمنتجات لا نحتاج إلى إتقان 100%، ويشمل ذلك مشاريع الابتكار والتسويق الإبداعي وتطوير المنتجات ونحوها؛ لأنها مشاريع مستمرة التحسين تعتمد على التقييم ومراقبة تطورات السوق، وربما استندت إلى منهجيات مثل أجايل وكايزن، التي لا تفترض الثبات ولا الكمال، بل التركيز على التحسين المستمر وامتلاك المرونة العالية للتكيف مع التغيرات، فالتحسين المستمر أفضل من الكمال المؤجل.

في مجال الطيران على سبيل المثال، تعد السلامة أولوية قصوى، والدقة في التصنيع والتجميع ضرورية لضمانها. وتشير الدراسات إلى أن أي انحراف في المواصفات قد يؤدي إلى فشل في الأداء أو حتى حوادث مميتة. لذلك، تطبق معايير صارمة مثل أيه إس 9100 لضمان الجودة والدقة في كل جزء من أجزاء الطائرة، لأن نسبة الخطأ هنا غير واردة؛ فـ 1% تعني احتراق 200 أو 300 إنسان داخل الطائرة، ما يوضح أن الإتقان بنسبة 100% هو الأساس وهو الطبيعي في هذا النوع من الصناعات.

إن تطبيق معايير صارمة مثل معايير الفضاء الجوي، وإجراء تدريب مستمر ودقيق، والمتابعة البشرية لا الآلية، والتوثيق الدقيق للأخطاء السابقة وإجراءات الصيانة، وتكرار الفحص من أكثر من فريق متخصص، هي إجراءات طبيعية لضمان الإتقان. ولا تستغرب إذا سمعت بتعدد أنواع الفحص للطائرات، مثل فحص - أيه، وفحص - بي ، وفحص - سي، وإذا اكتشف خلل فني ولو صغيراً، يمنع الإقلاع فوراً، ويوثق العطل رسمياً، وتفحص القطعة من قبل مهندس معتمد، وترسل للتقييم الفني أو الاستبدال، ويعاد فحص المنطقة بالكامل قبل الإقلاع، ويوقع مهندس معتمد على شهادة صلاحية الطائرة (سي آر إس). بالتأكيد لا تتبع الشركات جميعها هذه الإجراءات، ولكنها تعكس طبيعة هذه الصناعة وحقيقة أن الإتقان بنسبة 100% فيها هو الخيار الوحيد، وليس مجرد الإنجاز والرضا بهامش خطأ معقول.

إن 75% أو 95% ليست رقماً سحرياً، بل نقطة انطلاق للمستوى المرضي المقبول، ولا نقصد مستوى الإتقان الذي يصل إلى الكمال؛ لأن الكمال ليس هدفاً لا في بداية الطريق ولا في نهايته بل السعي للإتقان والتحسين المستمر هما الهدف، وكل ذلك يعتمد على طبيعة العمل والنتائج المتوقعة. الإنجاز مطلوب، والإتقان غالباً مثالي إلا في بعض الصناعات، والتوازن الذكي بينهما هو ما يميز القادة وصناع القرار.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي