يُقاس أداؤنا في العمل وفقاً لمقاييس معيارية معينة، أي أن هناك معايير مقبولة يجب علينا تحقيقها. علاوة على ذلك، تستند تقييمات الأداء السنوية إلى قدرتنا على تجاوز متوسط درجة معينة أو عدمها. تحول التركيز نحو استهداف المستوى المتوسط، وهذا أمر مؤسف، لأن الناجحين الذين يتجاوزون هذه المعايير يحققون إنتاجية تفوق إنتاجية الموظف العادي بنسبة 400%.

تخيل لو أصبح المستوى المتوسط هو الحد الأدنى للمعيار الذي يجب تحقيقه، وليس الحد الأقصى.

منذ ما يقرب من عقد من الزمان، وفي سبيل تأليف كتابي “عامل النجاح ” (The Success Factor)، أجريت مقابلات مع العشرات من الناجحين من رواد فضاء وحاصلين على ميداليات ذهبية أولمبية وحتى فائزين بجائزة نوبل. ما اكتشفته هو أن الناجحين، وبغض النظر عن القطاع الذي يعملون به، لديهم 4 سمات مشتركة، والمثير للاهتمام أنه يمكن لأي منا تخصيصها لتناسب نمط حياته، ليس من خلال تقليد عاداتهم بل من خلال محاكاة عقليتهم.

1. استفد من دوافعك الجوهرية

اسأل نفسك؛ لماذا اخترت المهنة التي تعمل بها؟ من المهم للغاية استكشاف الأسباب الكامنة لاختيارك المهني، لأن ذلك يسمح لك بفهم دوافعك الجوهرية وتجنب المشتتات وربما تعديل مسارك الحالي أو إعادة التركيز عليه.

على سبيل المثال، يشعر مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية التابع لمعاهد الصحة الوطنية، أنتوني فاوتشي، بالتحفيز من خلال مساعدة الآخرين. عندما سألته كيف يختار المشكلات التي يجب التركيز عليها، أخبرني إنه يختار المشكلات التي يشعر أنها مهمة وليست مثيرة للاهتمام فقط. تكررت هذه الميول مع العديد ممن تحدثت إليهم؛ يركزون على أداء عمل من شأنه أن يكون له تأثير يتجاوز أثره عليهم. بالنسبة للناجحين، لا يتعلق الدافع بالحصول على الميداليات أو المكافآت أو المكاسب أو الترقيات؛

قلة من الرياضيين الأولمبيين الذين تحدثت إليهم يهتمون باستعراض ميدالياتهم، فمعظمهم يحتفظون بها في الخزانة أو درج المنضدة أو يتركونها ملقاة على أحد الرفوف، أو مثلما يفعل اللاعب الأولمبي الذي فاز بأكبر عدد من الميداليات في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية، أبولو أونو، في كيس ورقي بني في درج الجوارب. قالوا جميعهم لي إنهم يحبون ما يفعلونه ولا يمكنهم تخيل أنهم يفعلون شيئاً آخر، وسوف يفعلونه دون مقابل لو أمكنهم. في الواقع، لم أقابل حتى الآن أي فائز بجائزة نوبل ترك عمله العلمي بعد فوزه بأرقى جائزة في مجاله. قالوا جميعاً إن هذه الجائزة ليست سوى فصل صغير في حياتهم، وليست الرحلة بأكملها.

ما يمكنك فعله:

للاستفادة من دوافعك الجوهرية، اسأل نفسك: ما الذي يغذي فضولي؟ هل يتوافق مع ما يحفزني على العمل؟ إذا كنت تركز فقط على عوامل خارجية، مثل المكافآت، فقد تكون معرضاً لخطر الاحتراق الوظيفي.

أقترح إنشاء مراجعة للشغف تساعدك في التمييز بين مواطن قوتك وضعفك وتحديد المهام التي تستمتع بها مقابل التي تميل إلى المماطلة بتنفيذها. ابحث عن موضوعات مشتركة وفكّر في كيفية دمج بعض المهام التي تثير شغفك في حياتك المهنية، حتى لو كانت تشكل جزءاً صغيراً فقط. أثبتت الأبحاث التي أجرتها مايو كلينك أنه إذا قضى الأطباء 20% فقط من وقتهم في العمل على شيء يثير شغفهم، فسينخفض مستوى الاحتراق الوظيفي الذي يشعرون به انخفاضاً كبيراً.

2. تقبّل الفشل

كانت عالمة الكيمياء الحيوية التي تعمل مع وكالة ناسا، الدكتورة بيغي ويتسون، تحلم دائماً بأن تصبح رائدة فضاء، لكنها واجهت عقبات متكررة. إذ تقدمت على مدى عقد كامل بعدة طلبات لتصبح رائدة فضاء، لكن طلبها قُوبل بالرفض في كل مرة. لم تستسلم بعد تلقي الرفض الأول أو الثاني أو حتى الثالث، وفي كل مرة تواجه فيها عقبة، تسأل نفسها: “ما الاستراتيجية التي لم أفكر فيها بعد؟” استفادت مما تعلمته من العمل في وكالة ناسا لتعزيز قدرتها التنافسية في برنامج رواد الفضاء.

من حسن حظ الدكتورة ويتسون أنها لم تدع الرفض يثبط حافزها لأنها أصبحت في النهاية أول امرأة تقود محطة الفضاء الدولية (وهو الدور الذي شغلته مرتين) وقضت مدة في الفضاء أطول من أي رائد فضاء أميركي آخر، وأصبحت في النهاية رائدة الفضاء الرئيسية في وكالة ناسا.

يخشى البعض الفشل، بينما يخشى البعض الآخر النجاح، لكن الناجحين يخشون “عدم المحاولة” أكثر مما يخشون الفشل. بالنسبة لهم، لا يشكون بقدرتهم على التغلب على التحديات، فتركيزهم منصب دائماً على كيفية تحقيق ذلك؛ يضعون في اعتبارهم استراتيجيات بديلة ويعملون بجد للسيطرة على ما يمكنهم السيطرة عليه ويتجاهلون المشتتات بوعي.

على عكس ما هو شائع، لا يستيقظ الناجحون جميعهم الساعة 5 صباحاً لأداء هذا العمل أيضاً، خاصة إذا لم يكونوا من الأشخاص الذين ينشطون في الصباح، فقد تعلّم من تحدثت إليهم كيفية تحديد ساعات الأداء الأقصى واستخدامها بفعالية.

ما يمكنك فعله:

لتحقيق مستوى تركيز مماثل، ضع في اعتبارك هذا النهج المكون من خطوتين. أولاً، تعلم كيفية الاستفادة من ساعات الذروة الإدراكية، أي الساعات التي تكون فيها أكثر قدرة على التركيز، وقضائها في عملك الذي يتطلب تركيزاً عميقاً لا المهام السلبية مثل الرد على رسائل البريد الإلكتروني أو جدولة الاجتماعات الافتراضية التي يمكنك إنجازها في الأوقات التي تشعر فيها بالكسل.

ثانياً، ضع في اعتبارك تحسين إنتاجيتك باستخدام طريقة بومودورو، وهي طريقة لإدارة الوقت تتضمن العمل وأخذ فترات راحة مجدولة في دورة زمنية محددة. إذا كانت المهمة التي تؤديها خلال هذا الوقت لا تقربك من هدفك أو لا تساعدك في تحقيق النتائج التي تتطلع إليها، فلا تستسلم أو تفقد التركيز، بل استغل الوقت لإجراء عصف ذهني وفكّر في نهج مختلف.

3. عزز مهاراتك الأساسية

تعج وسائل التواصل الاجتماعي خلال الأسبوع الذي تُعلن فيه جوائز نوبل بصور ومقاطع فيديو تظهر الفائزين بالجوائز الجديدة وهم يمارسون روتينهم المعتاد في التدريس أو كتابة طلبات المنح بين المقابلات الصحفية. لا يكتفي الناجحون بإنجازاتهم مهما كانت عظيمة، ويسعون للتطور دوماً، فتراهم يواصلون العمل على صقل مهاراتهم الأساسية المهمة لنجاحهم الآن وفي المستقبل حتى لو اضطُروا لتنفيذ مهمة أو روتين ما مراراً وتكراراً. لهذا السبب كنا نرى بطل الدوري الأميركي للمحترفين، كوبي براينت، يمارس نفس إجراءات الإحماء التي نراها في أي صالة ألعاب رياضية بالمدرسة الإعدادية.

إليكم مثالاً آخر؛ الأكاديمي ومحامي الشركات الشهير نيل كاتيال؛ دافع كاتيال عن 48 قضية أمام المحكمة العليا في الولايات المتحدة، وعلى الرغم من نجاحه الكبير، قال لي إنه لا يزال يعد ملفاً يتضمن إجابات لكل سؤال محتمل قد يُطرح عليه ويقيم عدة محاكم صورية ويصوغ حججه الافتتاحية بإيجاز شديد بحيث يمكن حتى لأطفاله فهمها.

في الجيش، يُنصح المجندون بالتدرب بجد في وقت الرخاء كي يسهل عليهم القتال في المعارك الحقيقية. وهي استراتيجية يستخدمها مشتركو سباق الماراثون أيضاً، حيث يتدربون في ظروف صعبة جداً كي يسهل عليهم الجري في الظروف العادية.

ما يمكنك فعله:

فكر في المهارات الأساسية المطلوبة في مهنتك وتصور كيف يمكنك تحسينها أو تعلم البناء عليها؛ لا تهملها فتضعف، بل فكر فيما تحتاج إليه كي تصبح راسخة وسهلة جداً ويمكنك استخدامها دون جهد حتى تحت الضغط. فكر فيما إذا كان يتعين عليك ممارستها أكثر؟ أو التدرب عليها في ظروف صعبة؟ ستعمل أي من الاستراتيجيتين على شحذ قدراتك.

4. استمر في التعلم مدى الحياة

الناجحون الذين تحدثت إليهم منفتحون باستمرار على تعلم أشياء جديدة، لكن ذلك لا يتم غالباً في القاعات الدراسية التقليدية، بل يتعلمون ويوسعون معارفهم بطرق مختلفة، من خلال التحدث إلى الموجهين والزملاء والأقران والمتعلمين، إلى جانب القراءة ومراقبة الآخرين ومشاهدة مقاطع الفيديو والاستماع إلى المدونات الصوتية.

على سبيل المثال، كان كريستوفر وادل متزلجاً قوي البنية إلى أن تعرض لحادث في أحد الأيام ولم يعد قادراً على استخدام الجزء السفلي من جسده، كان يرغب بشدة بالعودة إلى التزلج على المنحدرات، لكنه لم يكن يدرك أن بمقدوره فعل ذلك إلى أن شاهد أحد الناجين من مرض السرطان فقد إحدى ساقيه وهو يتزلج على لوح أحادي (مونوسكي) قبل عدة سنوات، علق هذا المشهد بذاكرته ودفعه أخيراً إلى تعلم التزلج بهذه الطريقة الجديدة. أصبح كريستوفر وادل اليوم بطلاً بارالمبياً مشهوراً يحمل العديد من الأوسمة، حيث فاز بـ 13 ميدالية، 5 منها ذهبية.

كشف العديد من الفائزين بجائزة نوبل الذين قابلتهم أن إلهامهم جاء نتيجة انفتاحهم وحبهم للاستطلاع، إذ قال العديد منهم إن أفكارهم غير المسبوقة أتت من خلال الدردشة مع الزملاء في المقاهي وفي غرف غسيل الملابس.. على عكس التصور الشائع، فإن محاضرات المؤتمرات واستراحات القهوة والولائم الجماعية ليست مجرد فرص للتواصل وبناء العلاقات فحسب، بل هي مكان تولد فيه الأفكار الجديدة وتتطور.

ما يمكنك فعله:

لتوسيع قاعدتك المعرفية التي يمكن أن تؤدي إلى إقامة روابط محتملة لا يراها الآخرون بعد، تفاعل مع أشخاص مميزين وكن منفتحاً على الأفكار الجديدة. أحط نفسك بفريق من الموجهين الذين يمكنهم أن يقدموا لك التحديات والدعم لمساعدتك في تجربة أشياء جديدة. اطلع على الأفكار الجديدة بأي طريقة أو على أي منصة تختارها، ربما من خلال قراءة الكتب والمقالات أو مشاهدة الحلقات الدراسية عبر الإنترنت أو حضور الدورات التعليمية التي تُجرى على موقع لينكد إن أو حتى الاستماع إلى المحادثات والمقابلات المثيرة للاهتمام.

لدى الموظفين رغبة في النجاح، ولكن هناك فجوة في فهم كيفية تحقيقه وندرة في النقاشات التي تدور حوله، والأهم من ذلك، كيفية الحفاظ على ما يحفزهم للسعي إليه. من خلال تعلم الدروس من أنجح شخصيات جيلنا، يمكننا أن نغير منظورنا ونعد المستوى المتوسط بداية فقط وليس هدفنا النهائي.