ملخص: داهمتنا جائحة فيروس كورونا لأكثر من عام ونصف العام لتحرمنا اكتشاف البهجة في العمل التي لطالما شعرنا بها. لقد تكبدنا الكثير من الخسائر، وبالإضافة إلى ذلك فقد عانينا الحاجة المستمرة إلى التظاهر بأننا "على خير ما يرام" خلافاً للحقيقة، واضطررنا كذلك إلى أن نكون دائماً في وضع رد الفعل بدلاً من متابعة العمل الذي نستمتع به كثيراً، وبالتالي فلا عجب أن يغمرنا الشعور بالضيق الذي بات يهيمن على كل جوارحنا. وتستعرض ريبيكا نيوتن، أخصائية علم النفس ومدرِّبة المهارات القيادية، 4 خطوات يجب اتخاذها لإعادة بناء الإحساس بالبهجة في العمل: دمج نقاط قوتك في يومك، والتركيز على نموك المهني، ومشاركة مشاعرك مع زميل محل ثقة، وإعادة بناء العلاقات من خلال العمل نفسه.
قالت سوزان في أسى خلال أول جلسة تدريبية لنا: "أريد أن أستعيد الشعور بالبهجة في العمل. أريد أن أسترد إحساسي بذاتي من جديد. فلطالما شعرتُ بالحيوية والشغف. فأنا أحب عملي، لكنني الآن أشعر بالرتابة في أمسيات يوم الجُمعة وأخشى ما ينتظرني في بداية كل أسبوع جديد".
سوزان ليست وحدها مَنْ يمر بهذه المأساة. فأنا أعمل مع أشخاص من مختلف المناطق الجغرافية يشغلون مناصب مختلفة في كافة القطاعات، وكلهم موظفون ناجحون في مجالاتهم ولطالما أحبوا عملهم، لكنهم يشكون لي رغبتهم في استعادة الشعور بالبهجة في العمل. ولا يمكن اعتبار هذه المشاعر أحاسيس فارغة أو رغبات تافهة لا ضرورة لها، فقد أثبتت الأبحاث أن البهجة هي استجابة عاطفية ومطلَب ضروري لرفاهتنا وأدائنا المعرفي وأدائنا في العمل.
ولاستعادة هذه المشاعر الإيجابية في حياتك العملية، لا بد أن تفهم سبب اختفائها. قد تكون الإجابة البديهية هي "الجائحة"، لكن الأمر يستحق إلقاء نظرة فاحصة على المشكلة الحقيقية والوقوف على أسبابها الجذرية. وبصفتي طبيبة نفسية تدرس كيفية ازدهار المهنيين الطموحين في المؤسسات، فقد لاحظت 4 أسباب جذرية لهذا الشعور بالضيق في الوقت الحالي:
أولاً: لقد أُصبنا جميعاً بالإنهاك بعد أكثر من عام ونصف العام من التوتر والحزن الدائمين. وأدت التغييرات الضرورية إلى زيادة الضغوط الملقاة على كاهلنا، حتى في المؤسسات التي نجحت بتجاوز تداعيات الجائحة. لقد واجهنا حالة من عدم اليقين المتواصل، حتى صرنا نحاول النجاة بأنفسنا في ظل هذا الوضع المتأزم. ورغم أن الجائحة أثرّت فينا بدرجات متفاوتة، فلم ينجُ منها أحد تقريباً دون خسائر أو أحزان.
عانى الكثير منا أيضاً الشعور بخداع النفس في بعض الأحيان على مدار هذه الأشهر لأننا كنا بحاجة إلى الظهور وكأننا على خير ما يرام حتى عندما لم نكن كذلك بالمرة. ويعتبر القادة على وجه الخصوص أكثر من عانى هذا الشعور لأنهم حاولوا إظهار التماسك، مدركين أن مرؤوسيهم يعتمدون عليهم في هذه اللحظة بالذات. ويمكن أن يؤدي الفصل المستمر بين ذواتنا الحقيقية والسلوكات التي نبديها أمام الآخرين إلى تدمير رفاهتنا النفسية.
ووقفنا عاجزين أيضاً عن استغلال نقاط قوتنا في معظم الأحيان؛ فقد تعرضنا لضغوط رهيبة لأداء واجباتنا والمضي قدماً في ظل هذه الظروف بأكبر قدر ممكن من الكفاءة والمنهج العملي. وأدى كل هذا إلى فقداننا لروح البهجة التي لطالما وجدناها في عملنا.
وأخيراً، فقد توصلت الأبحاث إلى أن العزلة الاجتماعية المتصورة قد تسهم في ضعف الأداء المعرفي وتراجع الأداء الإداري والتنفيذي، بما في ذلك انخفاض المرونة الإدراكية والقدرة على التعامل مع مستجدات الأحداث. وقد يؤدي هذا إلى تفاقم الشعور بالسلبية، ويجعلك تشعر بالاستياء حيال تراجع أدائك وانخفاض قدراتك والدخول في دوامة سلبية قد تحرمك الشعور بالبهجة التي لطالما شعرت بها ذات مرة عندما كنت تؤدي العمل ذاته.
كيفية اكتشاف البهجة في العمل
قد يقول البعض إننا لا نزال نعاني الجائحة وآثارها، وقد يبدو أن استعادة الشعور بالبهجة مطلب مستحيل في ظل شعورنا بالألم أو تعرضنا للتحديات، فلماذا نتعب أنفسنا بمحاولة استعادة هذا الشعور الآن؟ لكن الغريب في الأمر أن علماء النفس يلاحظون أن الشعور بالبهجة لا يستوجب غياب المعاناة، بل إن المعاناة قد تكون في الواقع طريقاً نصل من خلاله إلى غايتنا لأنها تدفعنا إلى ملاحظة ما هو مهم في الأوقات الصعبة.
فكيف نبدأ، إذاً، استعادة شعورنا بالبهجة؟ لا بد من الإشارة هنا إلى أن الأمر لا يتعلق بالسعي لتحقيق الكمال. فقد أثبتت الأبحاث (وخبرتي العملية كطبيبة نفسية ومدرِّبة) أن الشعور بالبهجة يتحقق بالاستفادة من نقاط قوتنا والتحلي بالشجاعة والصدق مع النفس وإبداء الامتنان والتواصل مع الآخرين. وإليك فيما يلي 4 طرق أنصح بها لاستعادة شعورك بالبهجة في العمل بدءاً من الآن.
دمج نقاط قوتك في يومك
يفترض بعض المتخصصين في علم النفس الإيجابي أن نقاط قوتنا يمكن أن تسهم كعوامل محفزة تغذي الشعور بالبهجة. إذ تعتبر نقاط القوة هذه عوامل تحفيزية طبيعية، ويمكنها إعطاؤك دفعة كبيرة حينما تدمجها في يوم عملك.
وتتمثل الخطوة الأولى في تحديد نقاط قوتك الشخصية، لأن المحفزات تختلف من شخص الآخر. اسأل نفسك: "ما المواقف التي شعرتُ فيها مؤخراً بالحيوية في العمل؟ وماذا كنت أفعل في هذه المواقف؟".
وبمجرد أن تتضح أمامك الصورة بشأن نقاط قوتك، فكّر في طرق لدمجها ضمن يومك. فعلى سبيل المثال: ربما كان التوصل إلى أفكار جديدة يستثير فيك الشعور بالإثارة والشغف. فكيف يمكنك، إذاً، خلق المزيد من الفرص للتوصل إلى أفكار جديدة؟ وقد تشعر بالحيوية عندما تتمكن من توجيه كل جهودك نحو مهمة محددة وتنهي بعض المشاريع المهمة وتشطبها من قائمتك. فكيف يمكنك اقتطاع وقت في جدول عملك دون مقاطعة أو إزعاج من أحد؟ فاستغلال نقاط قوتك، ولو لنصف ساعة فقط، يمكن أن يصنع فارقاً حقيقياً في بقية يومك.
وقد أدركت إحدى عميلاتي، على سبيل المثال، أن التفكير الاستراتيجي كان إحدى نقاط قوتها الأساسية: فهي تحب التفكير في المستقبل والفرص المتاحة على المدى البعيد. ولكن مع استمرار انتشار الجائحة، خشيت أن تتسبب الضغوط اليومية في تقليل الحيز المتاح لهذا النوع من التفكير، فقد شعرت بأنها مضطرة دائماً إلى معالجة المشكلات الصغيرة والعاجلة التي تظهر هنا وهناك. لذا فقد خصَّصت ساعتين للتخطيط الاستراتيجي في جدول عملها الأسبوعي، بحيث تقضي بعضاً منها بمفردها وبعضها الآخر مع فريقها. وأدت هذه السويعات القليلة إلى استعادتها لحيويتها، وأشارت إلى زيادة شعورها بالبهجة في العمل، ليس فقط خلال جلسات التخطيط الاستراتيجي، لكن على مدار الأسبوع بشكل عام.
التركيز على نموك المهني
بعد موسم شهد بذل الكثير من الجهد لحماية عملك ودعم الآخرين، قد تجد أن أداءك المهني تراجع، ولا تملك الرغبة أو الطاقة الكافيتين لتطويره. لكن أحد أفضل الأشياء التي يمكنك فعلها لقيادة الآخرين على نحو جيد هو تخصيص وقتٍ كافٍ لتطوير نفسك.
وقد أثبتت الأبحاث الإثنوغرافية حول كيفية تعلم الأطفال أن متعة التعلم تنتج من الجهد الذي يبذله الطفل، بدايةً من المثابرة والعمل المتواصل، وصولاً إلى الصعوبات التي تؤدي إلى النجاح في تحقيق أهداف ذات مغزى. وقد لاحظتُ الأثر نفسه لدى البالغين الذين أعمل معهم: فالعمل الجاد نحو تحقيق أهداف مهمة والتغلب بشجاعة على العوائق يمكن أن يغذّي متعة التعلم في سياق تخصصك المهني وإنعاش شغفك بالعمل.
وعندما أسأل عملائي عن اللحظات التي يشعرون فيها بالبهجة في عملهم، يقصُّون عليَّ خبراتهم التعليمية في الدورات التدريبية القصيرة والمكثفة عبر الإنترنت لتحسين المهارات التقنية، أو يحدّثونني عن انضمامهم إلى مجموعات التطوير الإداري التي تتناول مشاركة التحديات والأفكار، أو يحكون لي عن دورات المهارات القيادية الافتراضية التي استمرت لمدة ثلاثة أشهر وتطلبت عملاً جاداً على طريق تحقيق أهداف قيادية ذات مغزى.
مشاركة مشاعرك مع زميل محل ثقة من أجل اكتشاف البهجة في العمل
أثبتت الأبحاث أن المصداقية تشكّل جزءاً لا يتجزأ من الرفاهة النفسية. لكن الحرص على المصداقية في كل شؤون حياتك لا يقتصر على فهم نفسك فحسب، بل يتطلب أيضاً أن تعمل في بيئة تشعر فيها بالقدرة على البوح بما تفكر فيه وتشعر به دون خوف. لكن الكثيرين شعروا على مدار العام ونصف العام الماضيين أن العمل لم يعد هذا المكان الذي ألِفوه من قبل، حيث كنا مطالبين خلال هذه الفترة بأن نبدو أكثر قدرة على التحمل خلافاً للحقيقة.
ولاستعادة بعض من هذا الشعور بالمصداقية، حدد بعضاً من الأشخاص الذين تثق بهم في محيط العمل، بحيث تستطيع أن تبوح لهم بحقيقة مشاعرك. فكر فيما حدث وكيف عايشت الأحداث خلال العام الماضي. وتحدّث عن الصعوبات التي مثّلت لك تحدياً، ولكن تحدّث أيضاً عمّا شعرت نحوه بالامتنان. (تشير بعض الأدلة إلى أن الشعور بالامتنان والبهجة قد يغذّيان بعضهما البعض بالتبادل). تحدّث عن تطلعاتك وآمالك في العام المقبل، مع الإشارة إلى ما سيساعدك على الاقتراب من تحقيق أهداف ذات مغزى.
ويحضرني في هذا السياق موقف أحد عملائي الذي كان متردداً في الانفتاح على زملائه ليخبرهم بمعاناته. لكنه وجد الآن الأشخاص المناسبين ليحدّثهم عما جرى له خلال العام الماضي ويطلب دعمهم فيما ينتظره في المستقبل. وقد ذكر في جلسات التدريب اللاحقة أنه استعاد شعوره بالبهجة من جديد في العمل، كما أنه يشعر أن أسلوبه في القيادة صار أكثر فاعلية وأنه يتلقى تعليقات إيجابية من الآخرين.
إعادة بناء العلاقات من خلال العمل نفسه
لا يمكن اعتبار الشعور بالبهجة مجرد ظاهرة فردية، فهي تعبّر أيضاً عمّا يسميه علماء النفس "الشعور بالانتماء"، ما يعني أن الأمر يتعلق بتعزيز روابطنا مع الآخرين من خلال السلوكات الإيجابية، كأن نتعامل معهم بلطف وود أو نخلق معهم جواً يسوده السلام، حتى إن بعض علماء النفس يعرّفون الشعور بالبهجة بأنه الاستجابة لوجودنا في موقف نشعر أنه سيقربنا من الأشخاص المهمين بالنسبة لنا.
ولمكافحة الشعور بالعزلة عند العودة إلى مقراتنا المكتبية، ابحث عن طرق للتعاون مع الآخرين لتحقيق شيء هادف. جرّب أسلوب "التحدث في أثناء المشي" مع الزملاء لفهم ما يهتمون به حقاً وللتعرّف على الفرص المتاحة أمامهم والتحديات التي تواجههم، بالإضافة إلى التحديات التي تواجهك أنت، واستكشاف المجالات ذات الاهتمام المشترك. لن يؤدي هذا التواصل إلى تعزيز إحساسك بالحيوية فحسب، بل سيؤدي أيضاً إلى تحسين نتائج الفريق بأكمله. فالثقة المبنية على هذا التواصل تعزّز الثقافة التعاونية التي تعزز بدورها قدرة الفريق على الإبداع.
ويمثّل التدريب طريقة أخرى للتواصل مع الآخرين بصورة هادفة. ويرى الباحثون أن كلاً من الشخص الذي يتم تدريبه والمدرِّب نفسه قد يشعران بتغيرات نفسية فسيولوجية إيجابية نتيجة مراعاة التعاطف في التدريب. وقد تخفف هذه التغييرات من حدة الآثار النفسية والفسيولوجية الناجمة عن توترات السلطة المزمنة التي يعانيها القادة.
وقد أخبرتني إحدى عميلاتي بأنها كانت تشارك خلال العام الماضي في مهمات الفريق، لكنها ما زالت تشعر بالعزلة المتزايدة عن زملائها في العمل. وبعد عملنا معاً، شرعت في أخذ جولات مشي أسبوعية للتقرّب من زملاء مختلفين، وقررت تخصيص وقت لتدريب أحد أعضاء الفريق كل أسبوع، واستعانت بموجّه في الشركة تلتقي به شهرياً من أجل الاطلاع على آخر المستجدات. وأعربت منذ ذلك الحين عن ازدياد شعورها بالحيوية في العمل بشكل عام.
لقد مرّت الأشهر الثمانية عشر الماضية صعبة على معظم الناس، على الصعيدين الشخصي والمهني. وقد يكون اكتشاف البهجة في العمل مطلباً بعيد المنال في بعض الأحيان، وذلك لأسباب منطقية. وفي ظل استمرار ظهور التداعيات الاقتصادية والتجارية والمجتمعية والشخصية للجائحة، قد تساعدنا ممارسات بسيطة مثل هذه على استعادة البهجة والحفاظ عليها في الموسم المقبل، أياً كان ما يخبئه لنا المستقبل.