إنه لعالم غريب نعيش فيه حينما تتمكن الشركات العملاقة مثل "إكسبيريان" (Experian)، و"إكويفاكس" (Equifax)، و"ترانس يونيون" (TransUnion) من تخزين كميات هائلة من بياناتنا الشخصية بحيث تستفيد منها هذه الشركات أكثر مما نستفيد نحن منها في جميع الأحوال. وعندما تفقد تلك الشركات بياناتنا الشخصية، وتتسبب في تعرضنا لسرقة هوياتنا، لا يوجد شيء يمكننا فعله حيال ذلك. وكانت شركة "إكويفاكس" قد فقدت بيانات أكثر من 140 مليون شخص، ولا يرتقب المتضررون الحصول على تعويضات منها عن ذلك. وفي الوقت نفسه، ربما يتقاعد الرئيس التنفيذي ويحصل على مكافأة قدرها 18 مليون دولار. فمن الواضح أن النظام به خلل واضح، وحان الوقت للتوقف ونسأل أنفسنا لماذا نحن مستمرون في الاعتماد على نظام لا يتصدى للتحديات التي نواجهها في مجتمع رقمي، فماذا عن التحكم في البيانات الشخصية التي لدينا؟
اقرأ أيضاً: البلوك تشين تؤثر في المنظومة المالية كما أثرت الإنترنت في وسائل الإعلام
تستفيد وكالات الائتمان المرجعية بدرجة كبيرة من بياناتنا، ولكن هناك العديد من قراصنة البيانات الآخرين - من مواقع التسوق عبر الإنترنت إلى تجار التجزئة إلى الشركات الإعلامية - الذين يفعلون الشيء نفسه، بما في ذلك حكوماتنا. جرى إنشاء أرقام الضمان الاجتماعي في الولايات المتحدة، أو أرقام التأمين الوطني في المملكة المتحدة لتتبُّع تاريخ مكاسب العمال من برامج الاستحقاقات والتعويضات. حيث تحولت كل من أرقام الضمان الاجتماعي وأرقام الأمان الوطني منذ ذلك الحين إلى أرقام مهمة حُدِّدت عند الولادة، ويمكن استخدامها من قِبَل الوكالات الحكومية ليس فقط لجمع الضرائب، ولكن للتعرف على الأفراد. كما تستخدم أيضاً من القطاع الخاص لتتبُّع سجلاتنا المالية والتجارية.
تملك العديد من الدول نظاماً مثل نظام الهوية الوطنية. ومع تزويد كل من حكومتي الصين والهند مواطنيها بهوية وطنية ("هوكو" (Huko) في الصين و"آدهار" (Aadhaar) في الهند)، فمن الجائز أن نقول إن أكثر من ثلث العالم يستخدمون الهويات الوطنية الصادرة عن جهات حكومية. من بين الطرق المختلفة لإثبات الهوية، تتفرّد الولايات المتحدة بسبب تعقيداتها، حيث تعتمد على مزيج من أجهزة الدولة المختلفة - على سبيل المثال الاستخدام الواسع النطاق لتراخيص قيادة السيارات في الولاية، إلى جانب أرقام الضمان الاجتماعي. منذ عقد من الزمان، حاولت المملكة المتحدة إنشاء نظام هوية وطني، ذلك الذي أُلغي في نهاية المطاف لأسباب عديدة، منها التجاوز السياسي، وانعدام الأمن، وارتفاع التكاليف. ولم يثبت أي من أنظمة هذا البلد أنه أسلوب عملي وموثوق فيه لحماية هوياتنا والتأكيد عليها.
ومع ذلك، فإن العديد من الدول الأصغر مثل سنغافورة، تبحث أنظمة الهوية الوطنية التي تشمل كلاً من القطاع الحكومي والقطاع الخاص. كما تعد دولة إستونيا، من خلال بطاقات الهوية الخاصة بها، واحدة من أكثر القصص الناجحة للحكومات التي تنشئ نظام الهوية. ورداً على الهجمات السيبرانية ضد دولة إستونيا، أكّدت الحكومة الإستونية أنها في حاجة إلى أن تصبح أكثر رقمية وكذلك أكثر أمناً. فقررت استخدام تقنية السجل اللامركزي لبناء نظامها، بدلاً من قاعدة البيانات المركزية التقليدية. حيث تستخدم السجلات اللامركزية في الحالات التي تحتاج فيها أطراف متعددة إلى مشاركة معلومات موثوقة بعضها مع بعض دون وجود طرف ثالث مركزي، مثل التقييمات التحليلية لتسجيل البيانات أو تخزين البيانات من المعاملات التجارية. هذه هي قواعد البيانات متعددة المؤسسات مع طريقة التدقيق الفائقة. ونتيجة لذلك، يوفر النظام الإستوني لمواطنيه تجربة حكومية رقمية بالكامل، وخفض البيروقراطية بشكل واضح، ورضا المواطن بشكل كبير عن التعاملات الحكومية.
كيف تعمل تقنية "بلوك تشين" (سلسلة الكتل)؟ وماذا عن التحكم في البيانات الشخصية بشكل صحيح؟
زادت العملات المشفرة مثل "بيتكوين" من المعرفة بالسجل اللامركزي باستخدامها لنوع معين من سجل "بلوك تشين" للاحتفاظ بتفاصيل الحسابات النقدية بين ملايين المستخدمين. من المؤكد أن العملات المشفرة واجهت مشاكلها الخاصة مع مَحافظها ومبادلاتها- حتى أن بطاقات تعريف الهوية لا تخلو من مشاكلها الفنية- ولكن تقنية السجلات اللامركزية تحتفظ بقوتها في إستونيا والعملات المشفرة. تعمل هذه التقنيات في بيئات معادية الآن منذ ما يقرب من عقد من الزمان.
المشكلة في قاعدة البيانات المركزية، مثل تلك المستخدمة في تخزين أرقام الضمان الاجتماعي أو تقارير الائتمان، هي أنه بمجرد تعرضها للخطر، فإن أي لص يكون لديه القدرة على نسخ جميع المعلومات المخزنة فيها. ومن هنا جاءت الأعداد الهائلة من الأشخاص الذين يمكن أن يتأثروا بذلك - أكثر من 140 مليون شخص في اختراق "إكويفاكس"، وأكثر من 50 مليون شخص في "هوم ديبوت" (Home depot) - وربما تستحوذ شركة "ياهو" على النصيب الأكبر في هذا الأمر مع زعم اختراق أكثر من 3 مليارات من حسابات العملاء. وبالطبع إذا تمكنتَ من أن تجد سجلاً لامركزياً عبر الإنترنت، فيمكنك نسخه أيضاً. وعلى الرغم من أن السجل اللامركزي متاح للجميع، فإنه ربما يكون غير قابل للقراءة إذا شُفّرت محتوياته. ذلك أن "البلوك تشين" الخاصة بالعملة الافتراضية "بيتكوين" متاحة للجميع بحيث يمكنهم قراءتها، رغم إمكانية تشفير بعض الأجزاء في التعليقات. كما تُشفَّر معظم السجلات اللامركزية خارج العملات المشفرة كلياً أو جزئياً. والنتيجة هي أنه بالرغم من إمكانية حصولك على نسخة من قاعدة البيانات، فلا يمكنك قراءتها بالفعل.
هذه الخاصية المميزة للسجلات اللامركزية المشفرة لها تأثيرات كبيرة في أنظمة الهوية. حيث يمكنك الاحتفاظ بنسخ مصدّقة من وثائق الهوية، ونتائج اختبارات الاستدلال على الصفات البيولوجية، والبيانات الصحية، أو الشهادات الأكاديمية والتدريب عبر الإنترنت، وتكون متاحة في جميع الأوقات، ومع ذلك فهي آمنة ما لم تتخلّ عن مفتاح الولوج الخاص بك. كما تُعد قاعدة البيانات آمنة جداً على مستوى النظام بأكمله. حيث سيتطلب العثور على عملية واحدة من مليارات عمليات الإدخال للسجل تكلفة كبيرة في الوقت والحوسبة، ومن ثم "تُعطل" بشكل فردي، ما يجعل قاعدة البيانات ككل آمنة.
تبدو السجلات اللامركزية مثالية لأنظمة الهوية اللامركزية الخاصة، وتعمل العديد من المؤسسات على توفير مثل هذه الأنظمة لمساعدة الأشخاص في إدارة كمية هائلة من الأعمال الورقية التي يتطلبها المجتمع الحديث لفتح حسابات أو التحقق من هويتك أو إجراء المدفوعات. بعد خطوة صغيرة إلى الأمام، في وسع هذه الأنظمة الاحتفاظ بالسجلات الصحية أو المؤهلات ذات الصلة لتكون متاحة لك. باستخدام السجلات "الذكية"، يمكنك إعادة إرسال المستندات الخاصة بك إلى الأشخاص الذين يحتاجون إلى الاطلاع عليها، مع الحفاظ على التحكم في الولوج، بما في ذلك ما إذا كان يمكن لطرف آخر إعادة إرسال المعلومات. يمكنك حتى إلغاء ولوج شخص ما إلى معلوماتك في المستقبل.
اقرأ أيضاً: كيف تساعد "بلوك تشين" الأسواق الناشئة في تحقيق قفزة نوعية مستقبلية
تعمل العديد من المؤسسات على إعادة قيمة بياناتك إليك، مثل الإصدار التجريبي لولاية إلينوي لاختبار نظام تسجيل/ هوية الميلاد، من خلال تقنية "بلوك تشين". لنتقدم بهذه الفكرة خطوة أخرى إلى الأمام، فعندما تكون المالك الوحيد لبياناتك الشخصية على المعاملات أو سجل التصفح عبر الإنترنت أو بيانات الهاتف المحمول، يمكنك أيضاً اختيار ما إذا كنتَ تريد "بيع" بياناتك الخاصة أم لا، مع الحقوق والقيود التي تستخدم السجلات الذكية. وربما يؤدي ذلك إلى تحويل قوة إدارة البيانات (والأرباح الناجمة عنها) من الشركات الكبيرة والمؤسسات إلى المستخدمين الأفراد. هذا من شأنه أيضاً أن يحوِّل المسؤولية. إذا فقدت "مفاتيحك" المشفرة، فستخسر بالفعل كثيراً، وسيكون عليك إنشاء الهوية الخاصة بك مرة أخرى.
وفي نهاية الحديث عن موضوع التحكم في البيانات الشخصية الخاصة بنا، لقد أظهرت "إكويفاكس" وغيرها من الشركات مدى قصور أن تكون قواعد البيانات المركزية في ملكية شركة واحدة. في حين تمتلك أنظمة السجلات اللامركزية المتبادَلة القدرة على تزويدنا بهوية وإدارة النشاط، حتى تسمح لنا بعمل سوق لبيع معلومات عن أنفسنا، وتولي زمام الأمور فيها وكذلك الاسترداد النقدي من شركات مثل "إكويفاكس" و"ياهو". سيكون هناك بالتأكيد أخطاء مع مرور الوقت، ولكن كيف يمكن أن نعترض حقاً على استعادة السيطرة على أكثر ممتلكاتنا خصوصية - بياناتنا الشخصية؟
اقرأ أيضاً: تقنية البلوك تشين يمكنها مساعدة الفنانين على تحقيق مكاسب أكثر من أعمالهم