يتزايد استخدام الشركات للتقنيات الرقمية من أجل مراوغة الموزعين والدخول في علاقة مباشرة مع المستهلكين. حيث يمكن لهذه العلاقات إنشاء قنوات بيع جديدة فعالة وآليات تقييم قوية وأن تفتح نماذج عمل جديدة كلياً. ولكن الشركات أيضاً تخاطر بإقصاء الشركاء الذين تعتمد على أعمالهم الجوهرية منذ أمد بعيد. فماذا عن بناء استراتيجية التعامل مع المستهلك بشكل صحيح؟
إنّ صناعة السيارات هي خير مثال على ذلك، إذ يسمح برنامج بورش باسبورت (Porsche’s Passport program) للمستهلكين بالتسجيل عن طريق تطبيق على الهاتف الذكي لاستعمال مجموعة من السيارات مقابل رسم شهري ثابت. وتستلم سيارتك المختارة من بورش حتى باب منزلك مع توفر مزايا التأمين والصيانة وإمكانية السير بها لعدد غير محدود من الأميال، مع توفر وإمكاني تبديل الطراز في أي وقت أيضاً. ولكن إن كنت تتاجر بسيارات بورش، ماذا سيكون رأيك بهذه الفكرة؟ والآن، تخيل أن تقوم شركات أخرى مثل فولفو ولينكولن وبي إم دبليو ومرسيدس وغيرها بتقديم خدمة مماثلة.
بناء استراتيجية التعامل مع المستهلك
تهدد هذه العروض المباشرة من الشركات للمستهلكين مصادر رزق الوكلاء الذين كانوا تاريخياً هم أصحاب العلاقة مع المستهلك. ويحاول العديد منهم منع هذه العروض، إذ تمارس رابطة وكلاء السيارات الجديدة في كاليفورنيا الضغط من أجل وضع قانون يفرض تقديم عروض التسجيل تلك عن طريق الوكلاء. وأثار برنامج شركة فولفو انتقادات كثيرة لدرجة أنّ الوكلاء دفعوا السلطة التشريعية في ولاية إنديانا للاستنفار من أجل تجريم نموذج العمل هذا.
اقرأ أيضاً: استراتيجية المحيط الأزرق
إنّ المعضلة التي يواجهها المصنعون وشركات الخدمة عند إنشاء قنوات توزيع جديدة ما هي إلا مثال للمعضلات الرقمية. وتكون النتيجة أن تجد العديد من مؤسسات التبادل التجاري بين الشركات نفسها في مأزق. نوه الأستاذ في كلية بوسطن، جيرالد كين، في مقالة لمجلة سلون مانجمنت ريفيو (Sloan Management Review) إلى أنّ 87% من المدراء الذين استجابوا لاستبانة حول ذلك قالوا أنّ التقنيات الرقمية ستتسبب بخلل في أعمال شركاتهم بدرجة كبيرة أو متوسطة، ولكن أقل من النصف كانوا يشعرون أن شركاتهم تقوم بما يكفي لمعالجة هذا الخلل.
وكثيراً ما نجد أنّ فرق الإدارة تدرك إمكانات استراتيجية التوزيع المتجدد، إلا أنّ طريقة الاستمرار بها ما زالت غامضة. وفي حين أنّ الفرصة مقنعة، إلا أن إمكانية إزعاج شركاء التوزيع الحاليين وبالتالي إلحاق الضرر بأعمالهم الجوهرية أمر لا بد منه، حيث يمكن أن ينتقم شركاء التوزيع الساخطون بطرق عدة، كالانتقال للتعامل مع أحد المنافسين أو تفضيل المنتجات المنافسة أو حتى تشكيل مجموعات ضغط من أجل استحداث سبل إنصاف تشريعية.
كيف يمكن للشركات العمل لمستقبلها دون تعريض أعمالها الحالية للخطر؟ فيما يلي ثلاث استراتيجيات لتطوير قنوات توزيع رقمية يمكنها تقليل المخاطر:
اعمل بهدوء
في السابق، كان بإمكان الشركات التي تسعى لاختبار نماذج عمل جديدة الدخول خلسة إلى منطقة جغرافية دون الخضوع لعقود التوزيع الصارمة التي تحد من قدرتهم على التعامل المباشر في مناطق عملهم التقليدية. ولكن الآن أصبح ذلك صعب التنفيذ في عصرنا الرقمي هذا، حيث يمكن للزبائن والشركاء في أي مكان رؤية ما تفعله على الإنترنت بسهولة.
ولكن بدلاً عن ذلك، يمكن للشركة العمل بهدوء عن طريق استهداف شرائح الزبائن التي لا تتلقى خدمة جيدة أو يتجاهلها الموزعون التقليديون.
منذ وقت قريب، قامت شركة فيرايزون (Verizon) بإطلاق شركة ناشئة تدعى "فيزيبل" (Visible) بشكل سري،وتقدم خدمة اشتراك هاتف نقال دون عقد مقابل رسوم شاملة تبلغ 40 دولار أميركي، وهي متوفرة فقط من خلال تطبيق ذكي. يتنافس هذا النموذج بصورة عامة مع مزودي الحد الأدنى ذوي العلامات التجارية الأصغر، وقد لا يعتبر تهديداً مباشراً لشبكة التوزيع الهائلة لشركة فيريزون والتي تتألف من قنوات التوزيع التابعة للشركة والشركاء ومتاجر البيع المرخصة التي تبيع الخدمات ذات الهوامش الأعلى.
يتمكن منتج جديد أحياناً من تقديم نقطة الدخول المناسبة. فبدءاً من عام 2011، اختارت شركة مرسيدس تطوير إمكانات توزيع مباشرة لبيع الدراجات الكهربائية ضمن العلامة التجارية التابعة لها "سمارت" (Smart).
وتحتفظ استراتيجية شركة مرسيدس بشبكة التوزيع التقليدية لخطوط سياراتها الكبرى، في الوقت الذي تمكن فيه الشركة من بناء الإمكانات والبنية التحتية اللازمين لدعم استراتيجية التوزيع المتجدد، والذي يتمثل ببيع المنتج للزبائن مباشرة بدلاً من بيعه من خلال قنوات التوزيع التقليدية.
حاول إنشاء ارتباطات ملزمة
يمكن أن تحد الشركات من رغبة شركاء التوزيع بالانتقام إذا تمكنت من إنشاء ارتباطات ملزمة تخضعهم وتخفض من قوتهم في التفاوض. وهناك طرق عديدة لبناء الارتباطات الملزمة بما فيها تجميع المنتجات واحتكار فئة معينة منها أو تطوير ميزات تعتبر أساسية لدى مجموعة فرعية معينة من الزبائن.
خذ مثلاً شركة كري (Cree Inc.) التي أحدثت ضجة عندما قدمت مصابيح إضاءة من نوع "إل إي دي" (LED) ذات سعر مقبول للمستهلك في عام 2010 والأعوام التي تلته. وكانت الشركة على مدى عدة أعوام رائدة ضمن هذه الفئة من ناحيتي الكلفة ومميزات المنتج. وهذا ما مكن شركة كري من احتلال مساحة كبيرة على رفوف متاجر هوم ديبوت (Home Depot)، وفي الوقت ذاته بناء عمل مباشر مع الزبائن. وأثناء هذه الفترة، كانت شركة هوم ديبوت ملزمة ببيع منتجات كري ضمن متاجرها. لقد أدت استراتيجية التوزيع الثنائية هذه إلى أثر إيجابي لدى كل من المستهلك والمستثمر، حيث وصل سعر سهم شركة كري إلى ثلاثة أضعاف بين عامي 2011 و2013.
اقرأ أيضاً: استخدام بطاقة قياس الأداء المتوازن كنظام للإدارة الاستراتيجية
كما بدأت شركة مايكروسوفت عند إطلاق خط إنتاج "سرفيس" (Surface) في عام 2012 بالتنافس بصورة مباشرة مع المصنعين ومصنعي الأدوات الأصلية الذين كانوا شركاءها في التوزيع لعدة عقود من الزمن. وكانت شركة مايكروسوفت قادرة على العمل بنجاح وعلى نطاق واسع نظراً لاحتكارها لسوق نظام تشغيل الكمبيوتر المكتبي. وكان شركاؤها، مثل آيسر ولينوفو وآتش بي وديل، مرتبطين فعلاً بنظامها ويندوز ولم يكن لديهم أي خيار سوى أن يقبلوا باستراتيجية مايكروسوفت المباشرة مع الزبائن.
وفي الحقيقة، كان العديد من شركاء مايكروسوفت يدعمون مشروعها "سرفيس"، على الأقل علناً. وفي عام 2012 أشار مؤسس شركة آيسر، ستان ستين إلى إيمانه بأن "سرفيس" أنشئ بغرض تحفيز الطلب في السوق فقط وقال: "بمجرد تحقيق هذا الغرض ستقدم مايكروسوفت المزيد من النماذج". واليوم يتمتع خط إنتاج "سرفيس" بحصص أكبر من حصص آيسر في سوق أجهزة الكمبيوتر الشخصية في الولايات المتحدة.
خفّض الألم
يمكن لدعم أعمال شركاء التوزيع أيضاً تخفيض خطورة انتقامهم.
خذ مثلاً شركة تصنيع المعدات الثقيلة الكبرى كاتربيلر (Caterpillar)، التي قدمت منصة إدارة مركبات تقدم للزبائن تقييمات ورؤى عن استخدامات المركبات وصحتها ومواقعها. وتم بيع المنصة بصورة مباشرة إلى الزبائن وإزالة شركاء المرحلة النهائية من عملية البيع بصورة متكررة. ولكن في نهاية المطاف، قدمت الشركة فائدة للشركاء لأنها تنبه زبائنها إلى ضرورة العودة إلى هؤلاء الشركاء في حال الحاجة للصيانة التي تعتبر مصدر عائدات أساسي لموزعي كاتربيلر.
اقرأ أيضاً: بيئات العمل المتكاملة تغيّر قواعد الاستراتيجية
ولدينا أيضاً إحدى شركات التأمين الصحي في الولايات المتحدة، وهي شركة يونايتد هيلث غروب (UnitedHealth Group) التي توشك أن تصبح أكبر موظف للأطباء، حيث قامت ضمن إطار شركتها الفرعية أوبتم (Optum) بتفعيل استراتيجية اندماج واستحواذ جريئة من أجل بناء إمكانات البيع المباشر للزبائن لديها مع الحرص على عدم إثارة استياء مزودي الرعاية الصحية التقليديين. مثلاً، استمرت أوبتم بقبول أكثر من 80 نوعاً من التأمينات الصحية عبر منشآتها وتجنبت تقييد زبائن شركة يونايتد للتأمين بالتعامل مع المزودين التابعين لأوبتم. صحيح أنّ استراتيجية أوبتم المتعمدة قد لفتت انتباه القطاع، ولكنها حتى اليوم تجنبت الإجراءات الانتقامية من طرف مزودي الرعاية الصحية الفاعلين.
لا تمثل التقنيات الرقمية فرصة هائلة فقط بالنسبة للعديد من شركات التعامل التجاري المتبادل بين الشركات من أجل بناء استراتيجية التعامل مع المستهلك بشكل صحيح، وإنما تمثل خطورة عليهم أيضاً. إذ سيمكن العجز عن اغتنامها من قبل المنافسين والقادمين الجدد، وفي الوقت ذاته، سيولد اغتنامها فعلاً خطورة انتقام الشركاء الحاليين. ومن أجل التخلص من هذا المأزق، يجب أن توائم بين التأكيد على ضرورة العمل عليها والاعتراف بخطورة الأمر والتعرف على الاستراتيجية المناسبة للمضي به قدماً. وسيقف شركاؤك على المدى الطويل بجانبك على الأرجح إذا رأوا أنّ تحركك تجاه الزبائن مباشرة ليس عملاً عدائياً وإنما هو خطة للنمو.
اقرأ أيضاً: تنفيذ الاستراتيجية هو وظيفة الرؤساء التنفيذيين وليست وظيفة شخص آخر