بيئات العمل المتكاملة تغيّر قواعد الاستراتيجية

6 دقائق
قواعد الاستراتيجية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لماذا أصحبت الشركات ذات بيئات العمل المتكاملة موضوعاً مثيراً للاهتمام فجأة؟ على الرغم من أن فكرتها ليست جديدة. يُستخدم مصطلح “بيئة العمل المتكاملة” في مجال الأعمال منذ 20 عاماً عند الحديث عن قواعد الاستراتيجية لديها. كما أن شركات عديدة، من بينها “فولكس فاجن” و”تويوتا”، تؤدي دور المنسق بين شبكات كبيرة من الموردين والموزعين منذ أكثر من 50 عاماً. وتعد هيئة “لويدز أوف لندن” (Lloyd’s of London)، سوق التأمين المعروفة، بيئة عمل متكاملة كلاسيكية أُسست في القرن السابع عشر.

ما تغير حول موضوع قواعد الاستراتيجية هو حرص معظم شركات اليوم سريعة النمو، ابتداء من شركتَي “أمازون” و”جوجل” إلى شركتَي “علي بابا” و”تينسنت” (Tencent) وصولاً إلى شركتَي “أوبر” و”وي وورك” (WeWork)، على أن تموضع نفسها بشكل واضح في السوق على أنها بيئات عمل متكاملة، وتعمل كمركز لشبكات من العملاء والموردين ومنتجي الخدمات التكميلية. يتطلع المراقبون والجهات التنظيمية باهتمام وقلق نحو هذه القضية. إذ تريد هذه الجهات معرفة ما إذا قامت تلك الشركات بتطوير طريقة جديدة للمنافسة تتحدى النظرة التقليدية لكيفية تحقيق الشركات لقيمة عالية والاستفادة منها.

والحقيقة أننا لا نعلم حتى الآن هل هذه الشركات التي تؤدي دور منسق بيئة العمل المتكاملة تتمتع بميزة دائمة. إذ إن مقابل وجود شركات تحقق أرباحاً طائلة مثل “جوجل” و”تينسنت”، هناك شركات أخرى مثل “سبوتيفاي” و”وي وورك” و”أوبر” مستمرة في خسارة المال. ولكن بغض النظر عن مدى نجاح هذه الشركات، من المهم إدراك أنها تعمل وفق مجموعة من القواعد الاستراتيجية المختلفة عن قواعد الشركات التقليدية. تتبع هذه الشركات نموذجاً يعتمد على فكرة الأبواب الدوارة بدلاً من بناء الخنادق الاقتصادية.

القواعد القديمة والجديدة للميزة التنافسية

اُشتهر وارن بافيت بالاستثمار في الشركات التي تستخدم ما يسميه الخبراء الاستراتيجيون بـ “الخنادق العميقة”. والخندق هو ما يحمي الشركة من منافسيها. أحياناً يكون هذا الخندق مبنياً على ميزة الوصول إلى مورد نادر أو على ملكية لاختراع ما، وفي أحيان أخرى يعتمد على ولاء العميل وعلامة تجارية قوية، وفي أحيان أخرى يُبنى الخندق على قواعد تنظيمية حكومية.

كيف يمكنك بناء خندق؟ تتمثل إحدى الطرق في تثبيت مكانتك في السوق بمهارة من خلال إيجاد قطاع صناعي مناسب ذي عوائق كبيرة أمام دخول المنافسين السوق، ومن ثم تقديم منتج مميز بهدف المحافظة على انجذاب الزبائن. وأما الطريقة الثانية فهي التركيز على الأصول والإمكانات الأساسية بهدف الاستثمار في تلك الأصول النادرة والقيمة، التي يصعب على المنافسين محاكاتها.

سيطرت وجهتا النظر العالميتان هاتان – وهما التموضع في السوق والنظرة المبنية على الموارد – على طريقة تفكيرنا تجاه الميزة التنافسية مدة 40 عاماً.

ولكن النمو السريع لبيئات العمل المتكاملة هذه خلال الأعوام الأخيرة، يدحض هذا التفكير. لا تصنع معظم الشركات التي تؤدي دور منسق بيئة العمل المتكاملة، مثل “جوجل” و”علي بابا” و”أوبر”، الأشياء التي تمنحها لعملائها، بل هي موجودة لربط الشركات الأخرى بعضها ببعض، وهذا ما يقلل أهمية المنطق القديم القائم على فكرة التموضع. كما أنها لا تملك الكثير من الأصول أيضاً. تنال هذه الشركات مكانتها من خلال العلاقات والشبكات، وليس من خلال البضائع الملموسة أو البنية التحتية، ولهذا تشكل الحجج القائمة على امتلاك الأصول قدراً مماثلاً من الصعوبة. تتطلع هذه الشركات أيضاً إلى إنماء السوق، عن طريق زيادة تدفق الناس والسلع، بدلاً من محاولة الاستئثار بأكبر قدر ممكن من هذه السوق.

بعبارة أخرى، هي غير مهتمة بالمنطق القائم على بناء خنادق لتحقيق الميزة التنافسية. أعتقد أن التشبيه الأكثر ملاءمة لهذه الشركات قائم على منطق الباب الدوار: إذ إنها تهدف إلى إشراك أكبر عدد ممكن من الشركات في بيئتها المتكاملة، وجعلها تتفاعل بعضها مع بعض وفق قواعدها الخاصة. بالطبع تحصل هذه الشركات على المال بعدة طرق، مثل اللجان ورسوم العضوية ومبيعات الإعلانات وغيرها، ولكن الفكرة الرئيسة، إلى جانب نماذج الأعمال هذه، هي أن هذه الشركات تعمل بصورة أفضل كلما اتسعت البيئة. وهنا تكمن فائدة تشبيه الباب الدوار.

يمكن أن يكون إدراك هذا التحول من الخنادق إلى الأبواب الدوارة صعباً. بالنسبة إلى معظم الخبراء الاستراتيجيين، تعد حماية الأصول الموجودة والحفاظ على المنافسة أمراً طبيعياً بالنسبة إليهم. ولكن الشركات أحادية النشاط التي تكتفي بدور المنسق، تسعد بالانفتاح على المنافسة وبمشاركة ملكيتها الفكرية طالما أن هذا يحافظ على استمرار نمو البيئة المتكاملة. تهدف هذه الشركات إلى زيادة عدد الأشخاص القادرين على الدخول من هذا الباب الدوار قدر الإمكان، بدلاً من زيادة ارتفاع السياج المانع أو عرض الخندق.

منطق “الباب الدوار”

ومن أجل مساعدة الخبراء الاستراتيجيين في فهم طريقة تطبيق منطق الباب الدوار، إليكم بعض النصائح حول الأمور التي يجب التركيز عليها:

المحافظة على تدفق الزبائن:

معظم القطاعات لديها بيئات عمل متكاملة تنافسية، على سبيل المثال نظام “أندرويد” مقابل “آي أو إس”، ولهذا عليك جذب الناس للانضمام إلى بيئتك الخاصة. ومثل ذلك أيضاً التطبيق البرمجي “وي تشات” (WeChat)، وهو تطبيق للتواصل الاجتماعي ونمط الحياة، مهيمن في الصين. كان اعتماد هذا التطبيق في أعوامه الأولى على طرح عروض مبتكرة مثل بعض ميزاته: “مومينتس” (Moments) و”ريد باكيتس” (Red Packets)، وهي التي جذبت أنظار الناس إليه. وبمجرد إنشائه، كان بإمكان “وي تشات” أن يحذو حذو “فيسبوك” بتحقيق ربح مادي من قاعدة المستخدمين من خلال الإعلانات. إلا أنه اختار ألا يفعل ذلك: وحتى اليوم، لا يظهر أكثر من إعلانين للمستخدم يومياً، في حين يحقق “وي تشات” أرباحاً بطرق أخرى، وبالدرجة الأولى من العمولات على الصفقات. ويفضّل “وي تشات” المحافظة على حركة الأبواب الدوارة عن طريق الاهتمام بتجربة المستخدم. وقد استمر في النمو حتى وصل إلى أكثر من مليار مستخدم نشط يومياً.

قدم سبباً يدفع الناس إلى الاستمرار معك

إن بيئة العمل المتكاملة النشطة هي تلك التي يحصل فيها المشاركون على قيمة عالية بعدة طرق. تؤجر شركة “وي وورك” مثلاً حيزاً مكتبياً لشركات كبرى وشركات ناشئة وأفراد في مواقع رئيسة في المدينة. بإمكان الشركة اتباع طريقة تفكير مبنية على فكرة الخندق لتنفيذ عقود محكمة وإجبار المستأجرين على الالتزام بها. ولكنها تفضل العقود المرنة التي تمنح الناس خيار المغادرة، كما أنها تقدم مجموعة كبيرة من الخدمات المساعدة، مثل فعاليات بناء العلاقات وتقديم النصائح للشركات الناشئة والخدمات الحياتية، التي تجعل الناس يرغبون في الاستمرار معها. زادت “وي وورك” عدد مواقعها عشرة أضعاف على مدى الأعوام الخمسة السابقة، وتبلغ قيمتها الحالية حوالي 47 مليار دولار.

لا تسرق أعمال شركائك

بدأت شركة “أمازون” بصفتها شركة تجزئة إلكترونية، ولكنها فتحت المجال عام 2,000 لبيع منتجات أطراف خارجية عبر سوقها. لاحظ التوازن الدقيق في هذه الحالة: لا شك أن “أمازون” ترغب في منح الأولوية لمنتجاتها الخاصة، ولكنها إذا بالغت في الاهتمام بهذه المنتجات ستُخيف بذلك البائعين الخارجيين وستخسر جاذبيتها كمتجر شامل. تأمَّل هذا المثال لشركة “علي بابا”، التي تمثل البديل المناظر لـ”أمازون” في الصين. على عكس “أمازون”، لا تصنع “علي بابا” منتجات خاصة بها، ومن ثم فهي لا تتنافس مع مورديها. وبحسب ما ورد في موقع الشركة على الإنترنت: “نعمل في بيئة عمل متكاملة حيث يملك جميع المشاركين فرصة للنجاح”. تتعمد “علي بابا” تفويت بعض الفرص قصيرة المدى لتحقيق الأرباح في سبيل تحقيق نمو طويل المدى. ومنذ بداية عام 2018، ازداد نمو أعمال تجارتها الإلكترونية مع أطراف خارجية ضعفَي حجم شركة “أمازون”، واستطاعت تحقيق ذلك بمشاركة 66 ألف موظف فقط، مقابل 550 ألف موظف في “أمازون”، وفقاً لما ورد في كتاب سيُنشر قريباً لمؤلفَيه بيتر وليامسون وأرنود ماير.

استمر في التطور

إحدى أعظم منافع الشركات التي تؤدي دور المنسق لبيئة عمل متكاملة هي امتياز الوصول إلى معلومات حول البيئة بأكملها. بإمكانك مثلاً أن تعرف المنتجات الأفضل مبيعاً، وأن ترى مسار تطور السوق قبل الآخرين. وبينما ترغب في استخدام هذه المعلومات لتحقيق المزيد من الأرباح على المدى القصير، فإن النهج الأذكى هو المحافظة على الحركة، مثل الانفتاح على أسواق جديدة والإقدام على هذه الخطوات قبل منافسيك. توضح شركة “جوجل” هذه النقطة جيداً من خلال التدفق المتواصل لخدمات التحليل الخاصة بها، كما تفعل “علي بابا” مع منصة “تاوباو كي” (Taobao Ke). لا تقف “وي وورك” ساكنة أيضاً، فقد استحدثت في الأعوام الأخيرة منصات مختلفة مثل “وي غرو” (WeGrow) و”وي ليف” (WeLive) و”وي وورك لابس” (WeWork Labs).

التحديات المحيطة بموضوع قواعد الاستراتيجية

لا يمكن للجميع تطبيق هذه الاستراتيجية القائمة على بيئة العمل المتكاملة. إذ إنها بطبيعتها أكثر إجهاداً واضطراباً من المنهج الأكثر تقليدية والمبني على فكرة الخندق. كما أنها تجذب الكثير من المتحدّين. على سبيل المثال، يقول النقّاد: إن نموذج العمل المتبع في “وي وورك” غير قادر على الصمود. كما سقطت “أمازون” في أعين الجهات التنظيمية بسبب سوء استخدام مركزها المهيمن. وواجهت “تينسنت” ، الشركة المالكة لتطبيق “وي تشات” في الصين، قيوداً حكومية أعاقت نموها.

ما يزيد الأمور تعقيداً في موضوع قواعد الاستراتيجية هو عدم وجود فصل تام بين عالم الخنادق وعالم الأبواب الدوارة. على سبيل المثال، لا تكتفي “أمازون” ببناء بيئة عمل متكاملة فحسب، بل تعمل أيضاً ضمن العالَم التقليدي للخدمات اللوجستية والتجزئة. وكما تعمل “علي بابا” على تنفيذ استراتيجيتها بدقة، فإنها أيضاً تطور قدراتها في حقوق الملكية في مجال الذكاء الاصطناعي. بالإضافة إلى أن جوجل تقدم عروضاً خاصة تتعلق بأجهزتها الذكية إلى جانب أعمالها القائمة على البحث ومشاركة مقاطع الفيديو.

خلاصة الأمر أن قواعد الاستراتيجية التنافسية لم تصبح أبسط الآن، ولكن أولى الخطوات وأهمها في سبيل استكشافها هي إدراك عدم جدوى منطق الاستراتيجية التقليدي القائم على فكرة الخنادق في عالم المنصات وبيئات العمل المتكاملة. وبالتطلع بنظرة متجددة إلى طريقة عمل بيئات العمل المتكاملة التي تلعب دور المنسق وخصوصاً إلى تركيزها على زيادة الزيارات والمتصفحين عبر أبوابها الدوارة، سيكون الخبراء الاستراتيجيين أكثر قدرة على منافستها في القطاعات الراسخة.

هذا المقال حلقة من سلسلة ترتبط بالنسخة الحادية عشرة من منتدى بيتر دراكر الدولي.

اقرأ أيضاً:

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .