ملخص: غالباً ما تفترض الشركات أنها إذا تبنت التكنولوجيا الرقمية، فإنها ستصبح بذلك شركات رقمية، فتجري تغييرات ظرفيّة وتستثمر في العالم الرقمي دون أن تحقق نتائج فاعلة. ونعرض في هذه المقالة استراتيجية التحول الرقمي ومقدمة لأربعة مستويات متميزة من التحول الرقمي، حيث يلبي كل مستوى منها أهدافاً استراتيجية مختلفة ويتيح للشركات تعظيم القيمة التي تحصل عليها من التكنولوجيا الرقمية.
من السهل الاعتراف بدور التكنولوجيا الرقمية في قلب الموازين في الاقتصاد الحديث. ويتمثل التحدي الذي يجب على معظم الشركات مواجهته في معرفة كيفية تحقيق الاستفادة المثلى من الأنواع المختلفة من القيمة التي تقدمها تلك التكنولوجيا. من جهة أخرى، من الصعب تطوير استراتيجية للتحول الرقمي تحقق استفادة مثلى من تلك القيمة. إذ تفترض الشركات عادة أن أي تطبيق للتكنولوجيا الحديثة سيقودها إلى تحوّل رقمي، لا سيما عند غياب التقييم الشامل لما يمكن أن تقدمه التكنولوجيا الرقمية؛ فتتخذ العديد منها قرارات تجارية ظرفيّة بشأن استخدام التكنولوجيا الرقمية، ويؤول بها الحال إلى التصدي لنزاعات هدفها الحفاظ على التكافؤ التنافسي على الرغم من الاستثمارات الكبيرة التي تجريها.
تأمل الأمثلة الأربعة التالية التي يسلط كل منها الضوء على المزايا الاستراتيجية المتاحة في كل مستوى مختلف من التحول الرقمي لتكوّن فهماً أعمق للنطاق الكامل للقيمة التي تخلقها التكنولوجيا الرقمية.
المستوى الأول: الكفاءات التشغيلية.
تتبنى شركة "فورد" إجراء عملية فحص مؤتمتة جديدة مستندة إلى الرؤية لمراقبة عمليات الطلاء في مصانعها من خلال تكنولوجيا الواقع المعزز والواقع الافتراضي وإنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي. وتعمل الشركة باستخدام تلك التكنولوجيا على تحسين اكتشاف العيوب وتقليلها في سياراتها. وتتولد البيانات في تلك الحالة من التكنولوجيا الجديدة المستخدمة في أصول المصنع، في حين يستخدم الذكاء الاصطناعي تلك البيانات لاكتشاف عيوب التصنيع ومنعها بشكل آني.
المستوى الثاني: الكفاءات التشغيلية المتطورة.
تركّب شركة "كاتربيلر" (Caterpillar) أجهزة استشعار على منتجات معدات البناء لتتبع كيفية استخدام كل منها في مواقع البناء. ووجدت على سبيل المثال أن الزبائن يستخدمون ممهدات الطريق المزودة بمحركات لتسوية الحصى الصغير أكثر من استخدمها لتسوية الأتربة الأقسى. وابتكرت الشركة من خلال الاستفادة من تلك الرؤية الثاقبة ممهدات طريق مزودة بمحركات ذات كفاءة أعلى من حيث التكلفة ومصممة لتسوية الحصى بدلاً من الأتربة.
ومثل شركة "فورد" في المثال السابق، تستفيد شركة "كاتربيلر" هنا من مكتسبات الكفاءة التشغيلية من خلال تحسين إنتاجية تطوير المنتج. ومع ذلك، يتمثّل الاختلاف في أن بيانات أجهزة الاستشعار تتولد من الزبائن الذين يستخدمون منتجاتها، وليس من أصول معمل التصنيع. ويفرض ذلك البُعد المرتبط بالزبون تحديات إضافية بالطبع، إذ تستند مكتسبات الكفاءة في هذا المستوى أيضاً إلى ما هو أكثر من استخدام الأصول.
المستوى الثالث: خدمات مستندة إلى البيانات من سلاسل القيمة.
تتعقب شركة "جنرال إلكتريك" بيانات أجهزة استشعار المنتجات من محركاتها النفاثة، وتحللها باستخدام الذكاء الاصطناعي، وتقدم إرشادات آنية للطيارين للطيران بطرق تحسّن كفاءة استهلاك الوقود. ثم تخصص شركة "جنرال إلكتريك" جزءاً من وفورات تكاليف زبائنها من خلال الاستحقاقات السنوية الجديدة المتولدة من الإيرادات "المستندة إلى النتائج". بعبارة أخرى، يدفع الزبائن لشركة "جنرال إلكتريك" جزءاً مما يوفرونه من كفاءة استهلاك الوقود، بالإضافة إلى ما يدفعونه مقابل المنتج.
تستلزم المبادرة هنا تغيير نموذج الأعمال السائد من نموذج مصمم لإنتاج المنتجات وبيعها إلى نموذج يوفر خدمات مستندة إلى البيانات للزبائن الرقميين. كما تكون وحدات البحث والتطوير وتطوير المنتجات والمبيعات وخدمات ما بعد البيع متصلة رقمياً لتلقي بيانات أجهزة الاستشعار وإنترنت الأشياء المتولدة من آلاف المنتجات المنفصلة وتحليل تلك البيانات وتوليدها ومشاركتها والتفاعل معها بشكل آني. وبما أن ذلك النموذج سيقود إلى تدفق إيرادات جديدة، ستنطوي نتائجه على أكثر من مجرد تعزيز الكفاءة التشغيلية.
المستوى الرابع: خدمات مستندة إلى البيانات من المنصات الرقمية.
تستخدم شركة "بيلوتون" (Peloton) بيانات أجهزة استشعار المنتجات من معدات الرياضة لتطوير مجتمع من المستخدمين وربط المستخدمين الفرديين بالمدربين المناسبين. وتولّد منتجات شركة "بيلوتون" بيانات تفاعل المستخدم التي تستخدمها الشركة بعد ذلك لتسهيل أنشطة تبادل البيانات بين زبائنها الرقميين والعديد من الأطراف الثالثة خارج نطاق سلاسل قيمتها. كما تعمل خوارزميات الذكاء الاصطناعي على مطابقة مستخدمين محددين مع مدربين مناسبين من خلال تحليل بيانات التفاعل بين المستخدم والمنتج، تماماً كالطريقة التي تطابق فيها شركة "أوبر" الركاب مع السائقين الذين يستخدمون البيانات من تطبيقاتها.
ومثل شركة "جنرال إلكتريك" في المثال السابق، تعمل شركة "بيلوتون" هنا على توليد إيرادات جديدة من خدماتها المستندة إلى البيانات، ولكن من خلال توسيع نطاق عرض منتجاتها إلى المنصات الرقمية. ويُعتبر ذلك المستوى من التحول الرقمي المستوى الأكثر تحدياً للشركات القديمة في العصر الصناعي، وللشركات التي تعمل وفق نماذج أعمال تستند إلى سلاسل القيمة ولديها خبرة قليلة في المنصات الرقمية.
محفزات القيمة الرقمية
تتمثّل الخطوة الأولى للتفكير في تلك المستويات الأربعة من التحوّل على نحو سليم في إدراك أن التكنولوجيا الرقمية الحديثة تقوم على عاملين بارزين للقيمة، ألا وهما البيانات في دورها الأشمل الجديد، وبيئات الأعمال الرقمية الناشئة. دعونا نستكشفهما بإيجاز بدورنا.
اعتادت البيانات أن تكون عرضية (أي أن تتولد بواسطة أحداث منفصلة، مثل شحن أحد المكونات من أحد الموردين)، لكنها أصبحت تفاعلية بشكل متزايد اليوم (أي أنها تتولد باستمرار بواسطة أجهزة الاستشعار وإنترنت الأشياء لتتبع المعلومات). وقد يؤدي ذلك التتبع المستمر للأصول ومعاييرها التشغيلية إلى زيادة الإنتاجية. على سبيل المثال، إذا كنت تستخدم أجهزة استشعار لتتبع مستويات درجة الحرارة والحفاظ عليها في أثناء تسخين الفولاذ المنصهر، فيمكنك تحسين الجودة والإنتاجية. وإذا قمت بتضمين أجهزة استشعار في منتجات معينة، فيمكنك إحداث ثورة في تجربة المستخدم. فكر في كيفية تتبع المراتب الذكية معدل ضربات قلب المستخدمين وأنماط تنفسهم وحركات أجسادهم، لتقوم بعدها بتكييف شكلها بشكل آني لتحسين جودة نومهم. أو فكّر في كيفية تقديم أجهزة الاستشعار المدمجة في السيارات ملاحظات تساعد الناس في القيادة بعناية أكبر.
بشكل عام، يعكس ذلك التفاعل أدوار المنتجات والبيانات. بمعنى آخر، كانت البيانات تدعم المنتجات في الماضي، في حين تزايد اليوم دعم المنتجات للبيانات. ولم تعد المنتجات تقدم قدرات وظيفية أو تساعد في تطوير العلامات التجارية أو توليد الإيرادات فقط؛ بل أضحت اليوم قنوات للبيانات التفاعلية ومنابع لتجارب العملاء الجديدة.
وللاستفادة من الدور الأشمل الجديد للبيانات التفاعلية، تحتاج الشركات أيضاً إلى شبكات من مولدي البيانات والمستلمين. قد تتولد تلك الشبكات من أجهزة الاستشعار والتواصل المستند إلى إنترنت الأشياء الذي يشكّل بيئات العمل الرقمية.
وقد ظهر نوعان رئيسيان من بيئات العمل الرقمية لم يكونا موجودين قبل التطورات الحديثة في البيانات والتواصل الرقمي. يتمثّل النوع الأول في بيئة عمل الإنتاج التي تشتمل على الروابط الرقمية ضمن سلاسل القيمة. على سبيل المثال، يمكن لشركات السيارات تقديم خدمات الصيانة التنبؤية من خلال ربط بيانات أجهزة الاستشعار وإنترنت الأشياء المتولدة من السيارات بموردي قطع الغيار والمستودعات وتجار الخدمة. ويتمثّل النوع الآخر في بيئة عمل الاستهلاك التي تتضمن الشبكات خارج سلسلة قيمة الشركة. فكّر في مصابيح الإضاءة الذكية في الشوارع والمصممة لاستشعار الطلقات النارية، تضم بيئة عمل الاستهلاك فيها على شبكة من البيانات المتولدة من الكاميرات، وعاملي خدمة الطوارئ، وسيارات الإسعاف، وهي تساعد مجتمعة في تحسين السلامة في الشوارع.
تحفز كل من بيئات عمل الإنتاج والاستهلاك التي تغذيها البيانات التفاعلية خلق قيمة جديدة، وينطبق ذلك على المستويات الأربعة للتحول الرقمي التي نوقشت أعلاه، كما يتوضح من الشكل التالي. تعتمد المستويات الثلاثة الأولى على بيئات عمل الإنتاج، في حين يعتمد المستوى الرابع على بيئات عمل الاستهلاك.
ما هي المستويات المناسبة لشركتك؟
تنطوي مهمة تحديد استراتيجية التحول الرقمي المثلى لشركتك على تقييم حاجتك للانخراط في كل مستوى من المستويات الأربعة المذكورة في الشكل أعلاه، ومن ثم التركيز على الاستثمارات التي تساعدك في الاستفادة من مزايا البيانات التفاعلية وبيئات العمل الرقمية.
يُعتبر المستوى الأول مهمة حتمية، حيث يمكن لمعظم الشركات الاستفادة من الكفاءات التشغيلية. في الواقع، تحدث الغالبية العظمى من مبادرات التحول الرقمي في هذا المستوى، وتزداد أهميته إذا مثّلت الكفاءات التشغيلية جزءاً كبيراً من التوجه الاستراتيجي للشركة. على سبيل المثال، تُدير شركات النفط والغاز آبار النفط وخطوط الإمداد والمصافي التي تتطلب استثمارات تقدر بالمليارات. إذا قررت تلك الشركات استخدام أجهزة إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي للعثور على احتياطيات النفط والغاز وصيانة خطوط الإمداد وأصول المصافي، فيمكنها توفير ما يصل إلى 60% من تكاليفها التشغيلية. وتشمل التحديات الرئيسية في هذا المستوى القدرة على توليد بيانات تفاعلية واسعة النطاق عند استخدام الأصول وإلغاء عقلية الصوامع المنعزلة فيما يتعلق بمشاركة البيانات.
يُعتبر المستوى الثاني ضرورياً للشركات التي تبيع المنتجات القادرة على جمع البيانات التفاعلية من المستخدمين، والتي يمكن الاستفادة منها لتحقيق ميزة استراتيجية تتجاوز المزايا المكتسبة من المستوى الأول. قد يصبح المستوى الثاني محطتك النهائية إذا كانت البيانات التفاعلية المتولدة من مستخدِم المنتج لا تتواءم مع الخدمات المدرة للدخل. وتندرج العديد من السلع المعبأة للمستهلكين ضمن هذه الفئة. وينطوي الاستخدام الأساسي للبيانات التفاعلية في مثل تلك الشركات على تحسين كفاءة الإعلان أو تطوير المنتج.
أما المستوى الثالث، فهو مخصص للشركات التي تدرك قدرتها على توليد خدمات مستندة إلى البيانات من المنتجات وسلاسل القيمة. يجب على تلك الشركات إثراء بيئات عمل الإنتاج فيها بهدف توسيع ميزتها الاستراتيجية لتشمل الكفاءات التشغيلية إلى جانب الخدمات الجديدة المستندة إلى البيانات.
وتتخطى الشركات في هذا المستوى عائقاً مهماً، إذ إنها تستخدم البيانات بهدف توليد الإيرادات ومن أجل تعزيز الكفاءات التشغيلية أيضاً. وإذا لم يكن لدى شركتك إمكانية الوصول إلى بيئة عمل الاستهلاك، سيمثّل المستوى الثالث المحطة النهائية بالنسبة لك. على سبيل المثال، يمكن لآلات غسل الأطباق المزودة بأجهزة الاستشعار والذكاء الاصطناعي توقع احتمالية فشل المكونات لتقديم خدمات تنبؤية، من جهة أخرى، قد يكون من الصعب ربطها رقمياً بالعناصر التكميلية والتوسع إلى المنصات الرقمية. ومع ذلك، تفوّت العديد من الشركات فرصاً في هذا المستوى عبر تجاهلها بيئات عمل الاستهلاك المرتبطة بمنتجاتها أو اعتبار مهمة توسيع نطاق المنتجات ليشمل المنصات الرقمية أمراً محفوفاً بالمخاطر. وقد وقع العديد من منافسي شركتي "بيلوتون" و"نوردك تراك" (Nordic Track) في هذا الفخ بالفعل.
أخيراً، يعتبر المستوى الرابع مهماً من الناحية الاستراتيجية لأي شركة تمتلك منتجاتها بيئات عمل استهلاك ناشئة. تواجه الشركات التي تبقى ضمن بيئات عمل الإنتاج في مثل هذه السيناريوهات خطر التسليع. وتُعد مهمة توسيع المنتجات إلى المنصات الرقمية التحدي الرئيسي بالنسبة لها.
لن ترغب جميع الشركات في الانخراط في عمليات التحول المستندة إلى المستويات الأربعة التي نوقشت في هذه المقالة، ولن تكون قادرة على ذلك حتى. قد تختار بعضها التركيز على مستوى واحد فقط أو أكثر، ومع ذلك، يجب على كل شركة أن تبقى واعية بالكون القائم على تقبّل احتمالات جديدة كل يوم، فالفرص في ازدهار، وقد تكون استراتيجية التحول الرقمي المدروسة بعناية والمستندة إلى إطار العمل المقدم هنا مفيدة في ربط الشركات بالعالم الحديث.